عبد اللطيف اللعبي: القصيدة الفلسطينية المعاصرة

ترجمة : سعيد بوخليط
تجلَّت خلال سنوات الثلاثينات، من القرن العشرين، بين طيَّات الأدب العربي المعاصر، إرهاصات مشروع أدب فلسطيني خالص.
مع ذلك، لم تكن فلسطين قبل هذا التاريخ، أرضا جرداء على المستوى الشعري والأدبي.
استمرَّ تراث كبير للقصيدة الشعبية الشفوية، مثلما جرى في مناطق مختلفة من العالم العربي. قصيدة بلا معالم واضحة، ملحمية أو غنائية، عاطفية أو هجائية، دينية أو دنيوية، أحاطت بالمهامِّ واليوميات، الأفراح والأحزان، من خلال الإنساني وكذا الحكمة الشعبية.
أشكال تعبيرية أدبية أخرى (حكايات، أقوال مأثورة، ألغاز) تغذِّي الخيال، تستدعي التاريخ في بعده الأسطوري، تحيل على مبادئ أخلاق التعامل.
أيضا، وُجِدَ أدب مكتوب، دون أن تشغله نفس التزامات الأدب الشعبي نحو الأرض وكذا الحقائق الفلسطينية.
لم تسمح الحقيقة الجيو- سياسية والثقافية لمنطقة الشرق الأوسط (خلال فترة الحكم العثماني، أطلِقت تسمية أرض الشام على مجموع منطقة سوريا، فلسطين، لبنان) بتبيان تلك السِّمات الوطنية التي بوسعنا معاينتها اليوم. هكذا، اعتُبر مبدئيا عربيا، كل مثقَّف يكتب سواء في دمشق، القدس أو بيروت.
أن يولد أو يعيش داخل هذه المنطقة أو تلك من الإمبراطورية العثمانية، لا يضفي على إنتاجه خاصية قومية معيَّنة. أما الحدود، التي تشكَّلت بعد ذلك ثم ”الشعوب” أو ”الأوطان”، فهي حصيلة ونتيجة تجزئة المنطقة بين مختلف القوى الاستعمارية. لذلك، بوسع عدَّة بلدان في منطقة الشرق الأوسط، غاية الوقت الحاضر، تبنِّيها اسم مثقَّف أو كاتب لم يكن يهتمّ قط خلال حياته، بانتماء من هذا القبيل.
تدريجيا، أرسى الاختراق الاستعماري، الذي أقام حدودا بين مختلف مكوِّنات نفس الجسم الاجتماعي والثقافي، وضعيات مختلفة، سياسيا، اقتصاديا، وثقافيا. سياق، اقتضى من المجموعات العربية، التي اختبرت هذه الوقائع الجديدة، اعتماد كل واحدة على نفسها قصد المحافظة على هويتها والعثور على سُبُلِ حريتها.
تبلور في غضون هذا التطور، وعي مختلف عن السائد طيلة قبضة الدولة العثمانية ذات المرجعية الاثنية- ثقافيا ودينيا. أقصد، ولادة وعي ”قومي”، كظاهرة غير معلومة قبل ذلك، في الأرض العربية.
إذن، ليس صدفة تحديد سنوات الثلاثينات، باعتبارها حقبة زمنية شهدت انبثاق مشروع أدبي فلسطيني. إنَّها فترة المقاومة العربية الفلسطينية خلال الانتداب البريطاني، وكذا المشروع الصهيوني لإقامة دولة يهودية في فلسطين، بين سنوات 1917 و1948، ومرحلتها الأكثر زخما تعود إلى سنوات الثلاثينات، حيث بلغ ذلك ذروته مع ثورة سنة 1936 العامة.
شهدت، هذه الفترة تحديدا، بروز الجيل الأول من الشعراء الروَّاد: إبراهيم طوقان، عبد الرحيم محمود، عبد الكريم الكرمي.
يمكن تمييز قصيدة هذا الجيل بالملامح التالية:
*الامتثال الصارم لقواعد العروض والأشكال الراسخة للقصيدة العربية الكلاسيكية. بالتالي، استُبعد هاجس التجديد الجمالي؛
* حمولة إيديولوجية قوية ذات خاصية قومية. يتعلق الأمر بقصيدة أملتها بكيفية فورية مهام النضال الوطني. يضاف إلى ذلك، ”التزام”الشاعر بقصيدته، ثم مباشرة، المعركة السياسية؛
* انتفاء كل عنصر ذي طبيعة ذاتية، بحيث تنازلت ”أنا” هذه القصيدة التحريضية، لصالح “نحن”؛
* تأثير جماهيري ملحوظ. جَسَّد شعراء هذا الجيل استمرارية لتقليد القصيدة الشعبية. كتبوا قصائدهم، ثم تداولتها بعد ذلك شفويا التجمُّعات والتظاهرات الشعبية.
بالنظر إلى هذه السِّمات، قد تبدو مجازفة جعل إنتاج هؤلاء الشعراء منتميا إلى القصيدة الفلسطينية المعاصرة. بيد أنه إذا كان صحيحا، عدم إمكانية تحديد راهنية هذه القصيدة عبر مستوى تجدُّد الأشكال وقطيعة جريئة تقريبا مع التراث، مع ذلك، يبقى التأويل ملموسا فيما يتعلق بمضمون هذه القصيدة وكذا الوعي الذي عبَّرت عنه وأذاعته.
بل يمكننا القول بأنَّ مكمن قوتها وأصالتها، الدور الذي لعبته على مستويين:
– الجانب التَّقليدي أو بالأحرى، المتَّصل بتراث طويل، جعل من الشاعر العربي منذ الفترة الجاهلية، متحدِّثا باسم قبيلته (أو شعبه)، والملهِم الإيديولوجي، وحارس الذَّاكرة، والشخص المعتمد لإصدار الشَّتائم والهجاء، والضمير الحيّ. لقد أدَّى الشاعر الفلسطيني المنتمي إلى جيل الروَّاد، هذه الوظيفة التقليدية كمرشد وجامع، لكن ضمن سياق جديد:
– بينما ارتكز الجانب المعاصر، نحو الارتقاء وجهة ذكاء العصر وكذا الحقيقة الواقعية التي يعيشها الشعب الفلسطيني. مما أتاح إمكانية بلورة أولى لبنات عناصر وعي وطني.
صار هذا الجيل ”مهووسا” بعصرنا (1)، نتيجة وعيه بالتحديات التاريخية والثقافية للصراع الذي بدأ يجري داخل الأرض الفلسطينية، وليس كونه حساسية شعرية جديدة.
لم يخطئ نفس الطريق شعراء الحقبة اللاحقة، حتى وإن التزموا بتجربة تجديد الكتابة الشعرية .اعتبروا أنفسهم ورثة لقصيدة الشيوخ وأدركوا كيفية الدِّفاع عن الهوية الفلسطينية وإبرازها. هكذا، استمرت علاقتهم بتلك القصيدة زمنا طويلا، ربّما غاية وقتنا الحالي، وفق افتتان متضارب. بناء عليه، وخلافا لما سيحدث في أغلب البلدان العربية، لن يشهد تاريخ القصيدة الفلسطينية ”جدال القدامى والمعاصرين”. المعركة التي أتاحت مثلا للحداثة الشعرية العربية، كي تظهر في لبنان، سوريا، العراق ومصر وجرت حيثياتها حسب خلفية تاريخية أخرى، غداة الاستقلالات، في إطار وضعية تغيَّرت معها الدواعي الطارئة. ساهم تجديد الثقافة وأشكال التعبير الأدبي في مشروع يهتدي بالمجتمعات العربية إلى الحداثة.
فيما يتعلق بالحالة الفلسطينية، استدعت لاحقا مهمَّة المقاومة الثقافية والنضال الوطني، إلى المجال الأدبي هذه ”الحرب المدنية”.
ضياع فلسطين سنة 1948، والنزوح المكثَّف لأربعة أخماس الساكنة العربية، وتشتُّتها في عدَّة بلدان مجاورة مضيفة أو أخرى بعيدة، ثم الانزواء الكلِّي لمائتي وخمسين ألف بقوا داخل إسرائيل، كـ”لاجئين داخل بلدهم”، أفضى تداخل مختلف هذه العناصر صوب انقلاب بخصوص إدراك الفلسطينيين لماضيهم، وحاضرهم، ومستقبلهم.
ستدرك القصيدة تدريجيا هذه الوضعية، دون أن تدير ظهرها تماما إلى الجيل السابق، ويلزمها بالضرورة استلهام مسالكها الخاصة. لذلك، يجدر بها نحت مسار طويل وسط صحراء، قصد تجاوز تأثير صدمة لم تكن عادية. منذئذ، أضحينا أمام وضعيتين متباينين: فلسطينيِّ الداخل وكذا فلسطينيِّ “الشَّتات”.
بكيفية مثيرة للاهتمام، جاء البديل الشعري أولا من الداخل. غير أنَّه لم يكن مشروع كُتَّاب مثقَّفين. فقد شهدت تركيبة المجتمع العربي الفلسطيني تغييرا كلِّيّا، بحيث هاجرت غالبية السكان الحضريين، بينما انحدر من الأرياف جلُّ العرب الذين بقوا في إسرائيل.
هكذا قارب غسان كنفاني نتائج تلك الوضعية على المستوى الأدبي : ”لم تكن المدن فقط مركز القيادة السياسية، ولكن أيضا،كما في معظم الأحوال، مركز القيادة الثقافي والإيديولوجي. أيضا، غداة ضياع فلسطين، لم يبق محور ثقافي بوسعه تشكيل نواة نهضة أدبية جديدة، مادام جيل كامل من الكتَّاب، إن لم يكن أكثر، تعرَّض للنَّفي” (2).
قد نضيف إلى هذه المعطيات الحظر الثقافي الذي أحاط سريعا جدا بالساكنة، والإجهاز على ثقافتها الذي شكلت هدفا له. رغم هاته العوائق، استطاعت القصيدة الشعبية، غير المعلومة في جانب كبير منها، أن تملأ هذا الفراغ، على مسؤولية الشاعر الخاصة بلا شك، فقد اعتبرت سلطة الاحتلال القصيدة نشاطا تدميريا، لذلك لم تتردَّد سنة 1950 في اغتيال شاعر شعبي، اشتُهر بلقب حُمَيْد.
لم يتأخَّر بعض مثقَّفي الدَّاخل في تعقُّب مثال هؤلاء الشعراء المجهولين، خلال ذات لحظة بداية ظهور أسماء شعراء آخرين ينتمون إلى الشَّتات.
ميَّز التباين المشهد الشعري الفلسطيني المتبلور خلال نهاية سنوات الخمسينات. قصيدة بتكلفة كلاسيكية على خطى الجيل السابق، تتغاضى عن وجهة الحداثة في خضمِّ ثورة شعرية تجري تفاصيلها داخل العراق ولبنان، أصوات يقف نزوعها وسطا بين هذين الحدَّين: سيكون غير مجدٍ البحث عن إدراج شعراء هذه الحقبة ضمن حركة ذات توجُّهات واختيارات جمالية تقريبا محدَّدَة ومشتركة. فقد خاض كل واحد منهم تجربته في إطار حلقة منعزلة، سواء تواجد داخل إسرائيل أو في أراضي المنفى الكثيرة، سواء قريبة أو بعيدة.
هناك عنصر ثانٍ، يعقِّد بامتياز مهمَّة التقويم، يكمن في الصمت الحالي لعدَّة أصوات طبعت تلك الحقبة. أيضا، أقتصر هنا على الاستشهاد بشعراء عرف متنهم استمرارية منذ ذلك الحين. ضمن هؤلاء: فدوى طوقان، يوسف الخطيب، توفيق الصايغ، كمال ناصر،هارون هاشم رشيد، جبرا إبراهيم جبرا، سلمى الخضراء الجيوسي، ميشيل حداد، معين بسيسو.
يمكننا مع ذلك السعي، نحو تحديد بعض السِّمات المشتركة لهذا الجيل من الشعراء.
على مستوى الشكل، نعاين من خلال جانب على الأقل لهذا النتاج، تطوُّرا نحو إعادة تقييم الأشكال الثابتة وكذا عروض القصيدة الكلاسيكية. يمكن تفسير هذا التطوُّر من جهة نتيجة التأثير البعيد الذي مارسه الأدب العرب في المهجر (3)، وقد صار خلال تلك الحقبة إحدى منابع الحداثة الأساسية، ومن جهة ثانية عبر تطوُّر إدراك الشعراء الفلسطينيين لمأساتهم الشخصية والوطنية.
فيما يتعلق بالمحتوى، أتاح الإحساس بالمحنة وكذا المأساة إمكانية اندفاع القصيدة ذاتيا وغنائيا، بحيث افتقدت غاية تلك اللحظة إلى الذاتية وكذا التنميق الأسلوبي.
قصيدة تساؤلات دون أجوبة، وتمزُّقات المنفى الداخلي والخارجي، يمكننا نعتها بقصيدة رومانسية، جسَّدت أيضا قصيدة انكشاف تدريجي أتاح فيما بعد إمكانية تآلف شروط تقييم نقدي وكذا تحقيق الطفرة.
تنطوي تسمية ”جيل 1967” على شيء من التعسُّف، لأنَّ الشعراء المصنَّفون عادة في هذه الخانة، يعني راشد حسين، سالم جبران، توفيق زياد، فواز عيد، محمود القيسي، محمود درويش، سميح القاسم، لم ينتظروا غاية اندلاع حرب يونيو 1967 قصد وضع لبنات عناصر مميِّزة لتجربتهم الشعرية، فقد تبلورت قبل هذا التاريخ تيمات عديدة سادت قصائدهم وكذا ملامح نوعية فيما يخص مساهمتهم على مستوى تجديد الكتابة الشعرية الفلسطينية.
تواترت أطروحة بدت صحيحة قصد تفسير هذا الاكتشاف المتأخِّر لحركة شعرية لعبت دورا مفصليا لاسيما داخل إسرائيل منذ بداية سنوات الستينات، مثلما فعل جيل الرواد خلال مرحلة الانتداب البريطاني. يختزل تأويل هذه الأطروحة في المعطى التالي: بالنسبة لكثير من العرب،لم تتجل لهم القضية الفلسطينية بوضوح إلا عندما احتلَّت إسرائيل أراضي أخرى غير الفلسطينية التاريخية. حينها، اكتووا مباشرة بنار المأساة الفلسطينية.
قد نضيف تفسيرا ثانيا إلى السابق. استبعاد وإقصاء هذا الجيل قبل حرب سنة 1967، يشرحه أن تلك الرموز الرائدة لم تخفِ انتماءها إلى الحزب الشيوعي العربي الإسرائيلي.
دائما وبعد 1967 نشأ مجال جديد بين طيات الأدب العربي، نعتته مختلف المقاربات منذ ذلك الحين بـ”قصيدة المقاومة الفلسطينية” أو ”قصيدة الأرض المحتلَّة”. اتَّسم اكتشاف هذا المجال وتثمينه من لدن النقد والمثقفين العرب بشيء من المبالغة، ولم يستحضر مبدئيا المقوِّمات الجمالية الموضوعية، بل ارتكز التَّحديد أساسا على تقييم الدور السياسي الذي بوسع هذه القصيدة أن تلعبه بخصوص النزاع العربي- الإسرائيلي.
هكذا، أبدى محمود درويش، تفاعلا دالا بخصوص انحراف المنظور، حينما كتب خلال تلك الحقبة، مخاطبا المثقفين العرب الذين مدحوا قصيدته وكذا قصيدة رفاقه: “أنقدونا من هذا الحبِّ القاسي!”
سأحاول الآن تحديد أصالة مساهمة هذا الجيل من الشعراء. قصد الوقوف على الأساسي، يمكن طرح العناصر التالية:
– ميَّز جيل 1967 نضج فكري. ذلك أنَّ صدمة 1948 جرى استيعابها وعقلنتها بحكم مفعول الزمان. بالتالي، أمكن تحليل مأساة الشعب الفلسطيني عبر مختلف أبعادها وتداعياتها: السياسية، الاجتماعية، الثقافية، لكن أيضا النفسية والإنسانية. انطوت ربَّما قصيدة هذا الجيل بالنظر إلى مضمونها، على أفضل تحليل للحقيقة الفلسطينية المتجلِّية خلال هذه الحقبة.
– استدرك هذا الجيل على مستوى الكتابة الشعرية، التأخُّر الجمالي الفلسطيني قياسا إلى توجُّهات الحداثة التي تطوَّرت بالأحرى داخل الآداب العربية الأخرى. تحديث استحقَّ الثَّناء، لكن شعراء فلسطين الداخل، لم يستفيدوا منه نتيجة الحصار الثقافي الذي كانوا ضحية له، ثم مظاهر انفتاح أخرى تتعلَّق بتجديد جمالي وثقافي عرفه العالم العربي. نعاين هنا حرفيا، طفرة لم يتم دائما استيعاب قيمتها الحقيقية.
– يمكن وصف هذا الجيل شرعيا بـ”جيل المؤسِّسِين”، فقد أرسى أفراده منهجيا فضاء شعريا فلسطينيا خالصا.
– دون إمكانية الإقرار هنا، بمستوى حركة شعرية مهيكَلَة، يمكن القول في المقابل مع يوسف الخطيب،بعد تحليل مساهمة مختلف شعراء الحقبة، بأنَّه حدث بينهم نوع من ”تقاسم المهام” (4). مصدر توافق وتناغم هؤلاء الشعراء، سياقهم الموضوعي ونضالهم المشترك على المستويات السياسية والثقافية، غالبا ضمن نفس مجالات النشاط. أيضا، تفسِّره طبيعة الشخصية والمزاج الأدبي لكل واحد منهم. بهذا الخصوص كتب يوسف الخطيب الفقرة التالية: ”بينما يقف محمود درويش في الوطن المحتل ناطورا على ”الأرض”، فإن سميح القاسم من جهة أخرى يقابله ناطورا على ”الجذور العربية” الضاربة في تلك الأرض. ولكن- مع أننا هكذا قد نتخطى مؤقتا سياق الموضوع- فإن إنساننا العربي الفلسطيني ما لو تم للمخطط الصهيوني أن يسحب ”الأرض” نهائيا من تحت قدميه، رغم حراسة درويش عليها، وبالتالي أن يسلخه من جلده العربي القومي، رغم حراسة سميح القاسم عليه..، وأخيرا أن يحوله إلى مجرد إنسان بلا أرض، وبلا تاريخ، يدخل في إحصاءات ”الهستدروت” العمالية من الفئة الدنيا.. فحتى في هذه الحالة الأخيرة، لحسن الحظ،سنجد أن ثمة ناطورين آخرين، هما توفيق زياد، وسالم جبران، كل همّهما في الحقيقة الدفاع عن إنسانية هذا الإنسان في المعمل، أو في الشارع أو في السجن” (5).
تسري بالطبع المقاربة الأخيرة على حقبة ماقبل 1967، بحيث يمكن تسمية قصيدة ذلك الجيل بـ ”قصيدة وضعية الغيتو”. غيتو أقلية فلسطينية عاشت وضعية اللجوء داخل وطنها وشَكَّلت مسألة البقاء لديها قضيتها الجوهرية. بيد أنَّه غيتو يأخذ داخله الوعي صيغة، ويبادر الجسم الاجتماعي والثقافي إلى التذكُّر، ثم تستعيد الذاكرة حقوقها.
مع احتلال القدس الشرقية، الضفة الغربية وغزَّة، اختبر فلسطينيو الداخل والخارج لقاءات غريبة، قوَّضت جزئيا الانفصال الذي أعقب 1948 . لقد رأينا سلفا بأنَّه انطلاقا من هذا التاريخ خلقت فلسطين اقتحاما داخل الوعي العربي،ثم الاعتراف بهؤلاء الشعراء وكذا دمج متنهم الشعري ضمن الأدب العربي.
لاننسى، أخيرا، بأنَّ السنوات التالية للحرب شهدت التطور الأكثر أهمية على مستوى الصراع الفلسطيني المسلَّح التي اندلع منذ 1965، مع التأثير الذي يمكننا توقُّعه على الروح المعنوية لدى الفلسطينيين وطبيعة نظرتهم إلى تسوية قضيتهم الوطنية.
كانت مهمَّة تداعيات حيثيات تلك الوقائع على القضية الفلسطينية. عايننا سريعا تحوُّلا بخصوص التجربة المتراكمة نحو معطى شعري جديد، أضحى معه صوت الشاعر متعدِّدا، والحقيقة غير مقيَّدة أبدا بالغيتو العتيق، وتوقَّف تناول الرموز مثلما هي، أو فقط مجرَّد طلائها بتمرين أسلوبي، ولم تعد القصيدة قط بحثا عن نموذج قد يحتويها، بل تفكيكا لمختلف النماذج التي تشكِّل عائقا أمام تمدُّدها.
يتضح جليَّا تجاوز الخاصية الذاتية للمرحلة السابقة، بحيث اتَّسع مجال استيعاب الحقيقة. أوَّلا من خلال المعيش وفق جانبه اليومي، ثم الحقيقة العربية في بعدها الشمولي.
يرتبط في رأيي هذا الاتِّساع لزاوية منظور الشعراء وكذا إعادة تصميم مخزونهم الشعري، إلى العاملين التاليين :
– أضحى لقاء تجربتهم يسيرا بعد 1967، مع التيارات الحديثة للقصيدة العربية. بالتالي، ضرورة تخلُّصهم من بعض آثار محلِّية الأدب ضمن أفق التوافق على إنجازات عربية.
– التوسُّع المهمّ لجمهور الشعراء الفلسطينيين وكذا المسؤولية التي يقتضيها التفاف مزيد من القرَّاء، استدعى مايلي؛
– لم يعد يسمح تطوُّر الإشكالية الفلسطينية ذاتها، ببقاء الشاعر ضمن محيطه المحلي وحده، مادامت تندرج مبدئيا ضمن إطار نزاع متعدِّد الأبعاد؛
– انطوى صعود حركة المقاومة على أمل توحيد الفلسطينيين حول مشروع وطني واضح المعالم.
هكذا، شغلت القصيدة الفلسطينية حيِّز مضمار جديد، حيث مرونة تطوُّر الشاعر، واندراج المسعى الشعري في إطار جدلية بين الخاص والعام. لم يعد الشاعر الفلسطيني، يقف عند حدود الاكتفاء بوصف، تسمية الأشياء أو مجرَّد إماطة اللثام عنها، بل إعادة خلقها وبنائها ثانية، عبر تشكيل جديد.
حينها، يسعى جاهدا قصد إضفاء شكل على ما يمكن تسميته بالأساطير المؤسِّسَة لشخصية الإنسان الفلسطيني ورؤيته إلى العالم. منذئذ، صارت حمولة تناغم وإيحاء الكلمات دَماً في إطار هذه النشأة الكونية النفسية والذهنية، وموسومة بالمأساة الفلسطينية. نفس الأمر ينطبق على الأساطير السالفة، فقد أفضت النشأة الكونية صوب صياغتها ثانية بين طيّات البوتقة الفلسطينية. يتخلَّى التاريخ عن بريق الواقعة، كي يطرح إمكانية إعادة قراءتها ثانية حسب منطقها الخفيِّ، ثم تلك الرِّسالة المقلقة المستكينة إلى الصمت في المعتاد.
لهذا السبب، ستحظى هذه القصيدة بالحقِّ الشرعيِّ قصد مخاطبة البشرية قاطبة، وشجب اللاعقلانية وكذا المسؤولية الإنسانية عن المأساة التي تخلقها ثم تكابد تبعاتها. تغدو القصيدة وعيا بعالم يشمئزّ منه الوعي.
ينطوي دائما تأريخ للأدب على حيثيات استبداديته، أقلّها انتفاء أيّ ضرورة تلزم تحقيبا انطلاقا من ”أجيال” الكتَّاب. رغم كل شيء، أخذتُ على عاتقي هذه المجازفة حرصا على إعطاء القارئ (والجمهور الواسع الذي أتطلُّع إليه بخصوص هذه المختارات) الحدّ الأدنى من المعلومات وكذا المعالم المرجعية حول قصيدة (وأدب) غير معروفة تماما داخل فرنسا (6).
أدرك حتما عدم إمكانية استرجاع وتسليط الضوء على الديناميكية الخاصة بالإنتاج الشعري الفلسطيني وفق هذه المقاربة وحدها. لقد شهدت القصيدة الفلسطينية، على غرار كلّ الأدب العربي المعاصر، خطوات سريعة اختلف إيقاعها وسبلها بشكل ملحوظ قياسا لما يختبره مثلا الأدب الغربي. يعكس بجلاء مسار بعض الشعراء الفلسطينيين، ضمنهم محمود درويش كواحد من النماذج الأكثر إثارة للانتباه، تلك الخطوات السريعة التي ربَّما اقتضت داخل سياق أدبي وثقافي آخر، عدَّة أجيال قصد التبلور على أرض الواقع.
مهما يكن، ومن أجل بلوغ اللحظة الراهنة، يلزم ملاحظة أنَّ جيل 1967 قَدَّم حافزا واضحا للإبداع الشعري الفلسطيني بحيث هيَّأ شروطا جعلت فلسطين (المقصودة هنا باعتبارها أرضا، تاريخا، ثقافة، قضية العدالة، والحرية) أفقا ونقطة انطلاق بالنسبة لإبداع شعري مطلق ذي رؤية كونية. أتاح هذا الإرساء وكذا اتساع الرؤية ازدهارا شعريا حقيقيا، مع تأسيس مجال أدبي فلسطيني خالص، خلال الآن نفسه، يمتدُّ إشعاعه اليوم إلى مجمل الحقل الأدبي العربي. بناء عليه، لم يعد جائزا، الحديث عن داخل وخارج، منفى قريب أو بعيد. لكن أن تتواجد القصيدة الفلسطينية دون خشيتها قط من ”الحبِّ الخانق” الذي وقف ضده محمود درويش، فلأنَّها استثمرت سعي المغامرة الشعرية المعاصرة وجلّ المسالك الممكنة الموصولة بها.
ابتداء من سنة 1967 غاية فترة الانتفاضة، أضحى بلا فائدة الحديث عن ”أجيال” شعرية جديدة. في المقابل، يعتبر استثمار إيحاءات صورة كوكبة متحرِّكة، أكثر توفيقا بغية الإحاطة بغزارة شعرية يصادف الباحث صعوبة كي يقتفي أثر مختلف وثباتها.
تنعش هذا الورش المفتوح كما الشأن مع القصيدة الفلسطينية، تيارات مختلفة وحساسيات متعدِّدة. بعض الشعراء الجدد ليسوا أصغر سنّا من ”الشيوخ” المنتسبين إلى جيل 1967، لكن دروب تجاربهم أخذت وجهة مغايرة دون إنكار. آخرون أكثر شبابا، لم يتردَّدوا في تحقيق القطيعة، حسب تجاوزات مجدية استهدفت تقويض مختلف المرجعيات الدوغماطيقية.
القائمة طويلة فيما يتعلق بأسماء الشعراء الذين تضمَّنتهم صفحات هذه المختارات أو مشاريع المختارات المقبلة: عز الدين المناصرة، أحمد دحبور، خالد أبو خالد،مريد البرغوثي، وليد خزندار، غسان زقطان، زكريا محمد، خيري منصور، محمد حمزة غانم. فقط، أودُّ إبداء حسرتي جرَّاء قلَّة الأصوات النسائية الملتحِقَة غاية الآن بهذا العرض، وقد بلغ تعدُّد الأصوات أوجه، رغم هذا الغياب، مع المحافظة تماما لكل صوت على طابعه الخاص وكذا اكتماله. صوت وعي جديد، تشكَّلت معطياته داخل مخيَّمات اللاجئين أو في إطار اليومي الموجِعِ لمواطني الدرجة الثانية، داخل أمكنة المنفى التي توزَّعت على امتداد مختلف القارات، داخل بوتقة نضال معقَّد لا تتحقَّق في إطاره تضحية الذات بمعزل عن الاهتمام الملموس بعالم ضمن لانهائية تفاصيله، ودهشة أن تعيش، حتى في خضمِّ استئناس كبير مع الموت. أصوات صارخة أو أنبياء انتفضوا ضد النسيان وكذا التهوين من الفظاعة، لكنها أيضا أصوات هادئة، حميمة تقريبا، تتكلم عن اليومي، العزلة، الجروح المعتادة، تتغنَّى بشتى الغراميات بما في ذلك الأكثر شهوانية. أخيرا، هي أصوات مبتهجة، ساخرة، تستخدم الفكاهة الشرقية مع براعة انجليزية تقريبا، بحيث تتحدث عن المأساة بطريقة عبثية وفظَّة.
فما الذي تبقَّى للشاعر حينما تسرق منه أرضه، مع مكوِّنات جذوره، وكذا روائح طفولته السعيدة، التي نضجت مثل ليمون بستان الأسلاف، ألوانه غير القابلة للوصف مثلما الشأن مع كنه لون القصائد؟ ماذا تبقَّى له حينما أضحى بدوره شَبَحا، وقد حدَّدوا وضعه الوجودي باعتباره سلبيا؟
نادرا ماتشغل قصيدة حيِّز نموذج بين السماء والأرض، يعني كم هي معقَّدة وظيفة الشعراء الفلسطينيين، وتقريبا، غير مألوفة. لا يمكنهم الكتابة سوى بما اغْتُصِب منهم. العالم بالنسبة إليهم أعيد خلقه ثانية مستندين على أكثر ماتنطوي عليه دواخلهم وَجَعا، بالتالي فقصيدتهم بمثابة جرح مفتوح، وذاكرة مهدَّدَة دوما بالانفصال عن ألفة، للأسف حتمية مع الموت.
لكن هل ينبغي التذكير بأنَّ القصيدة تكتسب تحديدا داخل هذا اللايقين، كلّ دلالتها ولم لا، جدواها؟ نصوص مؤسِّسة، تدافع عن الإنسان وتجسِّده، وتفشل فوضى العالم، وتسخر من مناعة الغباء البشري.
ربَّما الشعراء الفلسطينيون شعراء للطَّارئ، لكن هذا الطَّارئ يختص بهم لايقف عند السبب المباشر لقصيدة معينة، بل الشعر عموما.
________________________________________________________________________________________________________
مصدر المقالة:
Abdellatif Laâbi : petites lumières .écrits (1982-2016).édition de la différence. pp :211-227
(1) بناء على تلك الأسباب، حرصتُ على إدراج رمزي لهؤلاء الشعراء ”الكلاسيكيين” بين طيات هاته المختارات. أسماء تمثِّل شهودا، روَّاد أدب، اقتضت حتما وضعية تشكُّله، مواجهة مقتضيات أخرى.
(2)غسان كنفاني: أدب المقاومة في فلسطين المحتلة، 1948-1966، دار العودة، الطبعة الثانية، بيروت،ابريل 1980،ص 35 .
(3) الأدب الذي أُنْتِجَ في أمريكا من طرف المهاجرين السوريين-اللبنانيين ضمنهم جبران خليل جبران.
(4) يوسف الخطيب: ديوان الوطن المحتل، دار فلسطين، دمشق 1968 .
(5) نفسه ص62 .
(6)لم يترجم غاية اللحظة إلى اللغة الفرنسية، فيما يتعلق بالقصيدة سوى محمود درويش وسميح القاسم، ثم غسان كنفاني، إيميل حبيبي، سحر خليفة، جبرا إبراهيم جبرا، أنطون شماس.