في سوريا كانت لنا أيام

صدوق نورالدين
♦♦ هذه ورقات كتبت في صيغة مذكرات. الغاية منها استحضار لحظات أدبية وثقافية، تأتى لي معايشتها إلى جانب أصدقاء فرقت بينهم السبل، ومنهم من ودع. حاولت جاهدا الاعتماد على الذاكرة في الاستحضار. وأما ما فاتني استعادته، فكنت أتوجه بالسؤال عنه إلى أصدقاء مثقفين وأدباء من خارج المغرب، فأمدوني بأسماء أمكنة وذكروني بزمن بات بيني وبينه قرابة العشرين سنة ♦♦
مثلت سوريا أول بلد عربي زرته _ إن أذكر في 2010 _ بانتداب من اتحاد كتاب المغرب، وبرفقة الشاعر إدريس الملياني. كان الأستاذ والناقد عبد الحميد عقار على رأس الاتحاد. وسيتحقق اللقاء به ليلة السفر في محطة الوازيس بالدار البيضاء، حيث أمدنا ببطاقتي السفر، إذ كان علينا _ كما أوضح _ قضاء صباح اليوم الموالي كاملا في القاهرة، حيث لن يتاح الإقلاع إلا في الساعة الثالثة مساء نحو سوريا، وأمدنا على السواء ب (1000 درهم) لكل واحد.
على أن الغائب عن سفرنا، المهمة التي يجب القيام بها حيث اكتفي بالقول أن ثمة اجتماعا لاتحاد الكتاب والأدباء العرب. وبالموازاة، ستقام أنشطة ثقافية يتأتى لنا المشاركة فيها. إلا أن ما سنعرفه _ ونحن في دمشق_ كون اتحاد كتاب المغرب لم يؤكد كونه سيحضر أشغال الاتحاد، إذ أبان حسين جمعة الذي تولى المسؤولية في أعقاب الولاية المديدة للكاتب علي عقلة عرسان، بأنهم ظلوا ينتظرون جوابا من مكتب الاتحاد لتأكيد المشاركة من عدمها، إلى أن فوجئ الجميع بنا في مطار دمشق، حيث حضرت على السواء الشاعرة وفاء العمراني مرحبة بنا باسم السفير الراحل محمد الخصاصي.
كان سافر معنا على متن الطائرة السورية الوفد المصري برئاسة الكاتب محمد سلماوي الذي شغل منصب الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والأدباء العرب. لم يكن ينظر إلى الأرض، وإنما إلى السماء، حيث رافقه أدباء وكتاب سأتعرف على بعضهم فقط في دمشق، وأذكر من بينهم: سمير درويش، طارق الطاهر، صلاح السروي ونوح رحيم. لم يتحدثوا في البداية مع أحد، ولا قدموا أنفسهم للتعارف، بل بدوا وكأنهم يتوجسون خيفة منا.
وصلنا مطار القاهرة الدولي تمام السادسة والنصف صباحا. تقدمنا بأوراقنا إلى موظفي الجمارك الساهرين على العبور. اكتفوا بأن طلبوا منا ترك جوازينا على صفحة المنصة حيث يخوضون في الحديث والضحك الذي يسمع عن بعد. على أن ننتظر في القاعة الخاصة بالعابرين لغاية نداء لن يأتي. وأما أنا فرفضت إيداع جوازي على منصة ضمت أزيد من أربعين جوازا. كذلك فعل الرفيق إدريس كاد يضيع وراء أقدام شابة من روسيا. وما زلت أذكر أني لما فتحت باب قاعة الانتظار المكتظة عن آخرها_ وبخاصة من الركاب الأفارقة_ صدمتني رائحة عرق الأجساد وبكاء الأطفال غير المنقطع، ففضلت أن ألبث واقفا لأزيد من خمس ساعات متابعا مكر وحيل الموظفين ومساوماتهم للمسافرين العابرين. والواقع أنه قد كان عليهم ختم جوازينا وإفساح إمكانية الاستراحة في فندق “صوفيتيل” المجاور للمطار مادام يندرج في تكاليف الرحلة.
وهو ما أقدموا عليه بالتحديد منتصف النهار حيث لم يبق أمامنا الوقت الكافي للاستراحة والاستحمام وتناول وجبة الغذاء التي أخبرنا العاملون في الفندق أنها غير جاهزة، ففضلنا العودة إلى المطار كي لا يدركنا الوقت. بيد أن ما لا يمكنني نسيانه الخدمة الجليلة التي قدمتها لنا موظفة شابة بالمطار لما اهتدت إلى كوننا قد لانلحق طائرتنا نحو سوريا. من ثم أمرتنا بالإسراع مخترقة نقاط التفتيش جميعها حيث استطعنا الوصول تمام الوقت المحدد.
كان الإقلاع _ إن تذكرت _ الساعة الثالثة على متن الخطوط السورية. وأعتقد بأننا أمضينا ساعة أو ساعتين في التحليق لنجد في استقبالنا أعضاء من اتحاد كتاب العرب يتقدمهم حسين جمعة والشاعر محمد حمدان الذي أمضى وقتا طويلا مقيما في المغرب، والأديب منير الرفاعي.
تحقق نقلنا من المطار مباشرة إلى مطعم مفسوح على مناظر طبيعية. مررنا في طريقنا بقرى متباعدة تبدو غارقة في الفقر. لا أثر لبنايات أو محلات تجارية، بل إن الأقدام العابرة قليلة، فيما شمس نوفمبر أو ديسمبر الباردة تسحب خيوطها الذهبية.
جلس على يميني في المطعم حسين جمعة. وجه أسئلة شبه استخباراتية أجبت عنها باحتراس شديد. بينما كان محمد حمدان يحاور إدريس الملياني على إيقاع الحنين الجارف إلى أيامه التي أمضاها في المغرب. لم أعرف حينها أين غاب أعضاء الوفد المصري، إذ حتى في الفندق لم يبد لهم أثر. كانت المناسبة سياحة ثقافية. أذكر أنهم عادوا للظهور يوم افتتاح أشغال المؤتمر الذي لم أعد أستحضر شعارا له، حيث ألقى وزير الثقافة السوري رياض نعسان آغا (من: 2006 إلى: 2010) كلمة افتتاح غير معدة فجر فيها اللغة العربية على هواه وأعاد للتذكير الثلاثية المقدسة: القومية، الصهيونية واللغة العربية، فيما بدا حسين جمعة منتشيا بالكلمة يحلم بالمنصب ذاته.
على أن الجلسة الممتعة كانت في المساء. ويحق القول بأنها جلسة ليلة الشعر العربي. أشرف على تقديمها الشاعر إدريس الملياني، وحضرتها بثينة شعبان مستشارة الرئيس بشار الأسد السياسية والإعلامية. كانت تجلس في الصفوف الأمامية. ومن الشعراء الذين ألقوا قصائدهم بالمناسبة: محمد علي شمس الدين، حميد سعيد، علي جعفر العلاق، عبد الرزاق عبد الواحد، المتوكل طه، سعد الدين شاهين، محمد حمدان، المتوكل طه وماجد أبو غوش الذي أذاب جليد ليلة تورطت فيها حافلة نقلنا بالمدينة القديمة بطرائفه وفكاهاته التي لا تنتهي. وأستحضر ما حكاه عن الشاعر تميم البرغوثي الذي تقدم بديوان للنشر لدى “بيت الشعر” التابع لوزارة الثقافة الفلسطينية ورد في إهدائه “إلى جواربي”. وهو ما أضحك الجميع. بيد أن أقوى مشهد شعري عرفته تلك الليلة، وقوف الشاعر يوسف الخطيب لإلقاء قصيدته، حيث خلع سترته وذاع هتافه في أرجاء مكتبة الأسد التي تقع في ساحة الأمويين، حيث تقاطع أول شارع المالكي وشارع المهدي بن بركة.
كان الحضور كثيفا، ويعود ذلك لطبيعة الأسماء الشعرية الوازنة التي حضرت، إلى الصبغة الاحتفائية الرسمية.
وفي اليوم الثاني للافتتاح استقبل الرئيس السوري بشار الأسد رؤوساء الوفود، ومن ضمنهم الشاعر إدريس الملياني الذي أخبرني بذلك، موضحا أن رئيس اتحاد كتاب لبنان الصحافي والشاعر غسان مطر قال للرئيس بأن الأوضاع العربية لا تبشر بخير، لولا أن الرئيس كان في غاية التفاؤل.
وأما الجلسة الثانية، فحضرتها إلى جانب الشاعرة وفاء العمراني. كانت بمقر اتحاد الكتاب العرب الذي يقع في شارع أتوستراد المزة، حيث ألقيت أبحاث لكل من الناقد المصري صلاح السروي والأردنية امتنان الصمادي. وشاركت فيها بإبداء الرأي والنقاش حول قضايا أدبية وثقافية، فيما غاب الشاعر إدريس الملياني، لولا أن أغلب المتدخلين السوريين غلبوا نزوعاتهم الإيديولوجية عن كل ما هو نقدي وأدبي فأفسدوا النقاش بعصبياتهم الضيقة والمقلقة.
جسدت الجلسة الثانية النشاط الثقافي الأخير، حيث انتقلنا للإقامة في فندق الشام وسط العاصمة دمشق مدة يومين. أثار اهتمامي كون موظف الاستقبال أبقى جوازي لديه وهو ما تحقق في السابق. كنت، كلما طلبته يأتي الرد، لا تخف أنت في ضيافتنا.
حاولت مساء اليوم الأول التجول وحيدا دون أن أعرف أين اختفى الشاعر، إلا أني عدلت مفضلا البقاء قريبا من الفندق، حيث الحركة عادية. الأضواء على امتداد الشارع، السيارات تعبر في الاتجاهين ببطء، المارة يجدون في السير. وعلى مقربة من الفندق سوق تنوعت منتوجاته المعروضة على الأرض.
عدت للجلوس في بهو الفندق الصغير المساحة. كان شكله الداخلي تقليديا. لا أثر للمسة غربية. يجسد الخشب في تنوعه رسومات قديمة تحيل على زمن انثال في الغياب. طاولتان في الوسط. مقعد طويل يسع أربعة أفراد. أما موظف الاستقبال الخمسيني فيما يظهر، فجلس خلف الكونتوار يترقب وصول مسافرين عابرين أو سياحا مقيمين.
أمضيت قرابة الساعة متأملا. صعدت بعدها إلى غرفتي فيما أعلن ليل دمشق منتصفه وغرق الكون في هدأة الصمت، كأن دورة حياة على أهبة تدوين تفاصيل جديدة في كتاب الإنسان والطبيعة.
تزامن الفطور الدمشقي الأخضر وصوت فيروز. ندهت حنان العاملة في الفندق ببياضها الحليبي وبسمتها التي تعيد الزمن إلى الوراء نحن في دمشق فاتحة صباحاتنا صوتها. صوت السيدة التي زاوجت بأغانيها كتابة تاريخ لبنان، فلسطين وسوريا. تخيل _ وهذه حقيقة_ أن أي مكان زرته هذا الصباح أو عبرت من أمامه، إلا ويتدفق مطر صوتها. وكأن السوريين بانتفاء الصوت بدايات الصباح فإن لا بداية حياتية لحياتهم. وأضافت في شموخ من تعي أنها بجمالها تتحدى العالم نحن ولبنان واحد. لا فرق. عندها استأذنتها في تقبيل اليد البضة فلم تمانع.
استضافنا على وجبة الغذاء مثقف سوري لم أعد أذكر اسمه، يشرف سنويا على تنظيم لقاء أدبي ثقافي شبابي. كانت الاستضافة بحضور رئيس اتحاد الكتاب العرب حسين جمعة، وبمطعم العجلوني في منطقة الربوة. مطعم تقليدي شبه معلق في الهواء سيجت الخضرة جوانبه وانثال في صمت يشعرك بالرهبة والقداسة، يشرف على ممر مائي لنهر بردا (بردى) الذي تغنت به فيروز من خلال قصيدة الشاعر اللبناني سعيد عقل “شام ياذا السيف” ومطلعها:
” شام ياذا السيف لم يغب يا كلام المجد في الكتب “
ويرد ذكر بردى في البيت:
” أنا صوتي منك يا بردى مثلما نبعك من سحبي”
طلب الأستاذ حسين جمعة من سائقه أن يأخذنا بعد غذاء طال لاستكشاف منطقة الربوة الممتدة بخضرتها، حيث انتشرت العائلات السورية في جلسات مفتوحة على فضاء قد من خضرة وبقايا ماء يوحي بأن نهر بردى عبر ذات زمن المكان ليضفي لمسة سحر صيغت من ريح رخاء. كانت العائلات في ذروة الصخب محتفية بالحياة، ألقت الأوصاب إلى الخلف، باحثة عن تجديد إيقاعات الذات والغرق في النسيان. أما والمساء يساقط، فأخذنا على مطار دمشق الدولي إلى جانب الوفد التونسي الذي أستحضر من أدبائه الشاعر الراحل محمد الغزي (1949/2024). نهرنا الجمركي السوري بقسوة مطالبا بالصمت والانتظام في الصف قبل ختم جوازاتنا، فما كان من نقابي تونسي إلا أن واجهه بحدة أخرسته.
وصلنا مطار القاهرة الدولي فجرا، وقبل منتصف نهار يوم الغد وقعنا على أرضية مطار محمد الخامس.