ليس عبوراً بل حياة

إصدارات:
صدر لمحمد بودويك ـ في الآونة الأخيرة ـ عن دار عالم الكتب الحديث بالمملكة الأردنية الهاشمية، كتاب سير ذاتي، يحمل عنوان: (ليس عبورا بل حياة ـ فصول من سيرة الطفولة والصبا والشباب) في ما يزيد عن 268 صفحة من القطع المتوسط. والكتاب السيري هذا موزع إلى مدخل ومقدمة وافية بعنوان: (اختلاج الجذور)، أقطف منها الملمح الوجيز التالي:
“كتبت هذه الفصول التي هي بمثابة علائم ذكريات، ونوافذ مشرعة الخصاص على الذات والموضوع مؤطرين بتاريخية مضت لكنها تستمر نابضة بالحياة. كتبتها مُنَجَّمَةً في الصحف المغربية السيارة، وفي المواقع الإلكترونية المختلفة، غير أنها كانت “خلسة” تدخر لنفسها ميثاقا يؤلف بين شتاتها، ويربطها بخيط ناظم سانكرونيا ودياكرونيا، ويجمعها مثل طيور النيسابوري الثلاثين في رحلة واحدة نحو الهدف المنشود، وهو ذا: أن تستوي سيرة ذاتية تقولني قولا ينزع نحو الصدق ما أمكن، وتستل ما نسيه النسيان في غمرة التبدلات والتحولات الشخصية والمجتمعية”.
وتعاوره بابان موصولان متصلان بحكم الحقيقة والواقع والبداهة: الطفولة، فالصبا والشباب، وبعض من محطات النضج والكهولة.
ركزت في مرحلة الطفولة على البدايات: على التلعثم والعثار، على ظروف العمل المضني، والاستغلال الذي مورس على عمال مفاحم ومناجم جرادة، ضمن ورقة أسميتها: ” سمائي الأولى”.
أعقبها اختلافي إلى “الكُتَّاب”، ثم دخولي المدرسة العصرية التي كان معلموها ومعلماتها ـ في غالبيتهم ـ فرنسيين وبلجيك. معلمون ومعلمات وشموا طفولتي وباكورة حياتي. ووقفت، وأنا أشحذ ذاكرتي شحذاً، على معاناتي مع مرض السل الوبيل طفلا، الشيء الذي أخرني عن التعلم والتعليم، ومعاناة أمي رحمها الله، معي، وهي تنهب الطرق لاهثة من مشفى إلى مشفى، ومن “ولي صالح” إلى “ولي صالح”. ومن فقيه يدبج أحجبة ورُقىً إلى فقيه آخر “يجمد الماء”، وهكذا دواليك. محاولا في أثناء تحبيري لوقائع حياتي الطفولية، أن أترجم ما وسعتني اللغة والذاكرة والفطنة، بلغة أردتها أدبية مشرقة، حجم محنتي، ومحنة أمي وأبي بطبيعة الحال. ثم، ما عتمت أن رفعت التحدي ورميت الداء والأعداء وراء ظهري، فنبغت في مستوى الإعدادي والتأهيلي وصولا إلى الجامعة ـ كلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس، وما اعترى مرحلة الجامعة من عثرات وكبوات صغتها بحس سليم دقيق، ولغة شوكية ولكن ناعمة، مصورا وقائع ما جرى. فضلا عن مؤثرات سياسية وثقافية ونقابية لعبت دورا في وجودي وعلاقاتي. مؤثرات شرطت منظوري ورؤيتي للأشياء والناس والعالم في ذاك الإبان، واستمرت فاعلة إلى اليوم.
هو ذي أجواء مختصرة من سيرتي الذاتية التي أتمنى أن تحظى بالقراءة والمتابعة، وإلاَّ، فإن ورقاتٍ وفصولا أخرى تنتظم منسلكة في خيط واحد اجتهدت في جَدْله ولملمته حتى يكون الإفضاء من… إلى:…، سلسا منسابا لا يشعر المتلقي بالنتوء أو الوهدة الفجائية، أو التقعر اللغوي والطلسم الأسلوبي الذي يخفي المعنى، ويُرْدي الدلالة. فالهواء الرخي، والنسيم الهفهاف يجوس منشرحا بين ورقة وأخرى، وفصل وفصل فيما أزعم.
وعلى ظهر الغلاف، أثبتت مقولتين على درجة من الأهمية تخص السيرة الذاتية وإن اختلفتا في النظر إليها. يتعلق الأمر:بمقولة الروائية البريطانية العظيمة فيرجينيا وولفْ، وبمقولة الكاتب الكبير الفرنسي شاتوبريون.
تقول فيرجينيا وُولْفْ: ” أقدِّر أن الأوتوبيوغرافيا هي وحدها ما يمت بصلة للأدب لا الروايات. فالروايات ليست سوى تلك القشور أو اللحاءات التي ننزعها قشرة .. قشرة للوصول ـ في نهاية المطاف ـ إلى قلب أحدنا: أنا او أنت، ولا شيء آخر..”
بينما يعبر شاتوبْريونْ عن نفوره من السير الذاتية. في حديث له مع الموسيقار الهنغاري العظيم:” فرانزْ ليزْ”، قال: (لم أفلح يوما وأنا أقرأ ” اعترافات” جان جاك روسو، من أن أتخلص من ذلك الإحساس بالامتعاض والنفور. فكيف للمرء أن يصف العالم كما هو، ويقول الأشياء كما هي. إن ذلك شيءٌ مستحيل).
ومن ثَمَّ، عَدَّ السيرة الذاتية، مهما بلغت من قيمة أدبية، غير جديرة بحمل صفة أدب، والانتساب إليه. غير أنني انتصرت لٍرأي البريطانية فيرجينيا وولفْ، وآية ذلك: كتابي السيري هذا؛ بل وسير كبار الكتاب والكاتبات في مختلف أنحاء العالم، وبمختلف اللغات، تلك السير الذاتية البديعة والشاهقة أدبيا وفنيا.