متحرِّشو الازدحام

سعيد بوخليط
يعتبر هذا الصنف من المتحرِّشين، الأكثر إنتاجا لمشاهد جنسية مختلسة ضمن مختلف السياقات؛ كيفما تجلَّت، لذلك يندرج مدمنو الطَّوابير والتجمُّعات بحثا عن لذَّة عابرة،في طليعة النموذج البشري المقصود بإحالات من هذا القبيل.
هم أكثر جرأة. لا يبالون.لايهتمُّون بوجود الآخر. ينقادون كلِّية؛ أوَّلا وأخيرا، خلف النِّداء العاجل لنزواتهم الجنسية، الآن وهنا، والمتطرِّفون منهم لا يفرِّقون بتاتا بين هويَّة الأطباق التي يصادفونها أمامهم.الأساسي كتلة لحمية جاثمة مكانيا، كي يسرع المتحرِّش إلى التّسَمُّر وراءها بغضِّ النَّظر عن كون الضحيَّة امرأة، طفلا، فتى، عجوزا شمطاء.
يقف جامدا كأنَّه ميِّت من عالم الأشباح، غير مدرك أو آبه بما يفعل. لكن، رغم مجازية موته تستمرُّ شعلة الحياة مشتعلة كليَّة عند مقدِّمة سرواله التي تشتغل بليونة الثعابين كي تجد في نهاية المطاف وضعا ملائما يسعف الاحتكاك المطلوب.
إبَّان أولى سنوات طفولتي، سمعت صحبة أقراني، أحاديث متكرِّرة من شباب الحيِّ، موسومة أحيانا بالتراجيديا والامتعاض، وفي أحيان كثيرة تكتنف مضمونها البهجة الساخرة والتفكُّه بقصص أشخاص أقرب إلى دسائس اللصوص، صُنِّفوا تعريفيا بـ”اسْمَّارَة”. قد يحيل جذر الكلمة على تسامر (حديث الليل مع جليس) أو سَمَّرَ (شدّه بالمسمار وثبّته).
لا أعلم تحديدا، غير أنَّ الإحالة المتداولة مفادها وقوف المتحرِّش متسمِّرا دون أدنى حركة غاية أن يقضي وطره، مسالة ترتبط ظروفها يسرا أو عسرا حسب سياقات الوضع ثم طبيعة ردّة فعل الضحيَّة.
اكتشفتُ مشاهد هذا العالم المضطرب والغريب؛ قدر تداعياته الكوميدية، خلال حقبتين زمنيتين غير بعيدتين كثيرا،مرتبطتين بآخر أطوار صباي ثم أولى بواكير المراهقة وبداية توقُّد إدراكي بخصوص مايجري حولي.
غاية سنِّ الثمانية فيما أذكر، قطنت أسرتي حيّ الزاوية العباسية؛ واحدا من أعرق دروب مراكش التاريخية الذي ضمَّ أيضا ضريح المتصوِّف الشهير أبي العبَّاس السَّبتي. لكن المنطقة ذاع صيتها أكثر غاية بداية سنوات التسعينات، بسوقها الأسبوعي الشهير يوم كل أربعاء، وعُرِفَ بـ”لاْرْبْعَا”؛ مثلما ترسّخت التَّسمية شعبيا.
حقيقة، تتحوَّل تلك المساحة المكانية الصغيرة على امتداد يوم بأكمله إلى قبلة فيحاء للمرَّاكشيين من كل فجٍّ عميق، قصد معاينة أجواء سوق أشبه بكرنفال احتفالي يعكس ضمن أبعاد هندسية مكتنزة عرضا مسرحيا لجوانب عدَّة من تجليات الجغرافية البشرية: باعة، مهرِّجون، بهلوانيون، سحرة، مشعوذون، أطبَّاء تقليديون، رواة،… ، حشد غفير لا ينفضّ جمعه سوى مع حلول المساء.
خطوات بطيئة، بالكاد يرمي العابر قدميه، فالجميع يحاذي الجميع، لا فجوة تذكر، تتلاصق الأجساد، تحتكّ، تتدفَّق ينابيع اللذة.
أسخر صحبة باقي الأطفال، ضحكا واستغرابا بخصوص اللَّوحات الجسدية المتموِّجة التي يرسم تعبيراتها فريق المتحرِّشين قصد تحقيق المبتغى الذي لم نكتشف معناه سوى بعد نضج وعينا المجتمعي.هناك، من يقضي أغلب أوقات ذلك اليوم الاحتفالي، المختلِف، جيئة وذهابا بين تضاريس الحشد، مراهنا عبر تدابير التصاقه على التنوُّع وتنويع الأساليب بغية تحقيق أقصى درجات الانتشاء، في انتظار هدايا أربعاء ثان أو سوق ” لاْرْبْعَا ” الأسبوع المقبل.
مساء، ينصرف تقريبا عدد كبير من المتجوِّلين والمتحرِّشين إلى الحمَّام الشعبي، قصد إراحة الأجساد بكيفية أخرى وتطهيرها من مختلف الأدران والأوساخ التي علقت بها طيلة اليوم، فيغدو بدوره ممتلئا قياسا بباقي أزمنة الأسبوع.
عموما، جسَّد يوم الأربعاء آنذاك بين زوايا مرتع طفولتي، بفضل ميزة التَّسوُّق علامة فارقة، بقدر مايشكِّل ملتقى تجاريا يعكس في الآن ذاته مجالا خصبا لمعاني المتعة والشبقيّة.
أما ثاني تجربة جوهرية بخصوص اكتشاف عوالم التحرُّش الفظّ، فتعود بذاكرتي إلى حقبة انتقلت خلالها أسرتي من المنزل السابق المتواجد بجوار مدفن أبي العبَّاس السَّبتي على بعد دقائق من المدرسة الابتدائية، نحو منزل ثان بعيد جدا، فاضطرت وأنا في حدود سنِّ العاشرة الالتجاء إلى خدمات الحافلات العمومية؛ بكلِّ حكاياتها المثيرة.
أقضي يوميا وقتا ليس هيِّنا قابعا في الحافلة، طيلة أربع رحلات،لمسافة تتجاوز عشر كيلومترات، كي أختبر غالبا لدى الرُّكَّاب؛ لاسيما خلال ساعات الذِّروة، نفس أجواء وحيثيات فسحة” لاْرْبْعَا”.
الحافلة صورة مصغَّرة عن الحياة، تنطوي بزخم على تعدُّد واحتفال الهويَّات بلقاءات أتاحتها فقط الصُّدفة، تقتضي تعايشا مشتركا ضمن حيَّز دقيق يثري بهشاشة بالغة جدليات حرية الأنا والغيرية، لذلك تقدِّم الحافلة في إطار ظرف وجيز وخلال ذات السياق مختلف المشاعر والأحاسيس والأهواء والرغبات وتدافع الخطابات والأنماط والآراء.
كما لـ”سوق لاْرْبْعَا” روَّاده الذين يترقَّبون احتشاد النساء داخل الفضاء كي يستشرفون منافذ المتعة، ويختلسون مصادر النزوة، فكذلك زخرت الحافلة بعناصر احترفت؛ أيَّما احتراف، فنون التحرُّش بشتَّى ألوانه والاعتداء رمزيا على حرمة أجساد الآخرين، بكيفية تكاد تكون شعيرة يومية لايمكن التَّنازل عليها.
أشخاص لا تخطئهم الأبصار، توطَّدت ملامحهم وأضحت معلومة لدى مرتادي الحافلة، بحكم دأبهم اليومي على صنيعهم مع تغيير تكتيك واستراتجيات تدبيرهم لتحايلهم، حتى لا ينكشفوا بكيفية علنية وصريحة في موقف مشين، يفضي إلى عواقب غير منتظرة قط، أستعيد بهذا الخصوص ثلاثة وقائع لازالت حيَّة بين تلابيب ذاكرتي:
* ذات صباح شتوي قارس، كانت الحافلة ممتلئة عن آخرها ودافئة، شعرت امرأة بأنَّ شخصا معينا قد أحاط بخلفيتها تماما، وتحكَّم في جسدها إلى درجة إحساسها بالاختناق، فأطلقت صرخة بأعلى امتدادات صوتها نحو السائق، كي يرسو عند أقرب مخفر للشرطة. فعلا، لم يتردَّد تفاعل السائق مع شكواها، وانعطف نحو الهدف.لكن من عبثية الأقدار، اصطدام الحافلة بدراجة نارية مفرطة السرعة، امتطاها شابَّان متهوِّران سقطا صريعين في عين المكان. جرت الوقائع بكيفية تشبه ومضة كابوس متخيَّل.
* الحكاية الثانية، تعود بي إلى واقعة امرأة أخرى، عندما اتَّضح لها بأنّ متحرِّشا بالغ في تماسِّه؛ الأنكى من ذلك، لم يتوان خلال لحظة استسلام للغريزة، كي يخرج علنا جهازه على طريقة اضطراب الاستعرائية، ومواصلة عمله دون مبالاة. انتزعت المرأة دبُّوسا حادّا من غطاء رأسها ثم وخزت بها وخزا جهاز أخينا المنغمس في سلوكه، أرغمته كي يصدح بصرخة مدوِّية شقَّت عنان السماء من شدَّة لدغتها.
* الحكاية الثالثة الماثلة دائما ضمن شريط ذكرياتي، رغم مرور أكثر من أربعين سنة على سياق الفترة، تستعيد آثار مباراة في الملاكمة استعرض خلالها أحد الرُّكاب مهارات فنية جيِّدة كادت تؤدي بحياة متحرِّش، لولا تدخُّل جمع آخر من الرّكاب قصد الحيلولة دون وقوع الفاجعة.عِلَّة المعركة، اقتراب أحدهم من زوجة المقاتل المفترض دون حدسه شيئا عن مصيره المأساوي المحتمل، وشرع يتملَّقها بكلمات وفي نفس الوقت يدني بشفتيه من وجنتها. لم يعرف المتغزِّل بأنَّ الزوج غير بعيد عن المكان، بالتالي حدث ما حدث.