هوامش في الأدب: بوشعيب هبولي

صدوق نورالدين
شغل الدنيا والناس منذ السبعينات، فاتحة أول معارضه، هذا القادم من مدينة صغيرة حجم الكف. مدينة لا يكتب اسمها على الخريطة المغربية، ولا تذكر خلال الحديث عن أحوال الطقس صيفا وشتاء. كأنها موجودة، وغير. وأعتقد أن لو لم يولد فيها المفكر والروائي الكبير عبد الله العروي لغرقت في النسيان.
كتب فضاءها روائيا في الرباعية. وبكتابته استعادت المدينة تاريخها، معالمها وشخصياتها. فأن تقرأ الرباعية معناه أن تسافر في أزمور بتقاليدها وعاداتها. وتخبر تخييلا مدى قابلية المدينة لأن تغدو الحكاية التي تحكى، والرواية التي تروى. هي الرباعية رواية مدينة، مدن. ومدينة، مدن في رواية.
جاء من أزمور يحمل صخرته على ظهره. في الدار البيضاء الزمن الضاج، صنع اسمه بقوة، مثلما فرض حضوره بثقافته التشكيلية التي امتلكها. وبالعين، دقة النظر التي لم تخطئه ولا أخطأها. وكما في الدار البيضاء ذاع الاسم في الرباط مبكرا. هناك، وهنا، احتفلوا به. ربطوا اسمه بأزمور. وكلما عبر العابرون المدينة الوادي والبحر، استحضروا اسمه ولحيته الصوفية التي تجاور السارية، مثلما صاحبت اللحية الدستيوفسكية الراحل محمد زفزاف. هما لحيتان خالدتان: لحية محمد زفزاف ولحية بوشعيب هبولي.
قال الراحل الطيب الصديقي لما رآه يمشي، إن هبولي في جذبة حيرة دائمة. يقف، يتحدث، يتذكر ويعاود المشي دون أن تفارق كلامه اللازمة المعهودة: اسمع مولاي. راه ما عندناش.
جاء من أزمور يحمل صخرته على ظهره. انتظر الجميع أن يضعها ويستريح. وانتظر الجميع أن يتوقف عند دائرة، ويعيد ما سبق أن أبدعه على امتداد مساره التشكيلي. إلا أن طائر الفنيق ينتفض ليبدأ حكاية جديدة. لم يكن هبولي، ولا، الحكاية المدونة في دفتر السبعينات وما قبل، وإنما حكاية الحكايات. سيرة مفتوحة على التعدد، التنوع والتفرد.
في صحبة امتدت سنوات، كنت في زياراتي له داخل مرسمه، أجده شبه مفتون بخياله. يخطط، يبحث عن لون، يفكر في سند، يتقصى الأثر، البصمة، يحذف، يضيف ويمزق. كان دائم القول:
أمزق كثيرا.
كان هبولي _ وباستمرار_ على قلق. يوجه الريح أنى شاء. لا يكاد يحتمي بفضاء إلا ويدير الظهر ليتيه. يبحث عن غائب لابد من العثور عليه داخل المدينة التي اختار ألا يفارقها. ولو أراد، لما تردد. باتوا يعرفون لحظة عبوره وكيف. البطء شعاره. اليدان إلى الخلف. والبسمة حياة. وأما الغضبات المضرية فلا تستدعي حديثا.
يبدأ يومه مبكرا مهما كان الزمن. يبحث عن جريدته. وعلى مقعد في مقهاه أو أي، في مدينة ستغدو مقاهيها أكثر من ساكنيها. يقر. يتقصى تفاصيل الزمن الثقافي والسياسي. من قبل كتب عموده في الجريدة التي كانت، ومن قبل أبدى رأيه ومواقفه. وإن غادر الكتابة، التصق باللوحة، سكنها وسكنته إلى الأبد.
ليس بوشعيب هبولي _ فقط _ الفنان التشكيلي شاغل الدنيا والناس. وإنما _ وقلة من يعرف _ الجماع رجل الذوق. ولن أخطئ إذا ما أشرت لكون بيته المتحف المفكر فيه بوعي كبير يطبعه ذكاء الاختيار، حيث يؤرخ للحركة الفنية في معناها
الأوسع. ثمة لوحات لفنانين قضوا من جيل التأسيس. ومنهم من لايزال يرى الحياة. وأذكر أنه كان وسيظل يتردد على معارض كبار الفنانين ليعاين أين وصلت تجاربهم. وكأنه يقارن مساره وما انتهوا إليه. أما إذا وقعت العين على لوحة أصابت هوى في ذوقه الحاد القاسي، فكان يسارع لطلب استبدالها بلوحة من لوحاته. هكذا كتب هبولي سيرة اللوحة التشكيلية في المغرب.
وكاللوحة الملصقات. فما من ملصق معبر صياغته الجمالية متميزة، إلا ويطالب حيازة نسخة منه. ويسري الحال على الكتب الفنية الرفيعة. والأغلفة التي خص بها كتبا لمبدعين مغاربة.
وأما الفضاء الذي يحتمي فيه الجسد بألق راحته، ويخلد لصمته، أو يجالس فيه الزائر القريب والغريب، فينطبع بروح التقليد الناطقة بما ساد زمنا، وغدا في الراهن نادرا.
هكذا هو. وهكذا تمضي شخصيته. وها هو في معرضه الجديد القادم يدعونا للاحتفاء الكبير به.