ولا تنس نصيبك من حصة الشيطان.. في رواية “سدوم” (1-2)

ولا تنس نصيبك من حصة الشيطان.. في رواية “سدوم” (1-2)
Roman de Sodome

لحسن أوزين

       “هي ذي المفارقة المبهرة والمدوية.. فما أن نحتفي بالشر ونعيد إليه الاعتبار حتى يغدو العمل الابداعي نفسه تعبيرا عن حيوية وشكلا أليفا (مبتذلا) للنزوع الحيوي، بل وتوكيدا للحياة نفسها، يغدو كذلك وليس حدث استثنائيا يكون حكرا على آحاد وأفراد، ومنحصرا في دائرتهم الضيقة.” ميشيل مافيزولي

تصدير:

             نجازف منذ البداية بالقول ان الخطاب الثقافي النقدي “المغربي” لم يكن مؤهلا فكريا ونقديا بما فيه الكفاية لاستقبال رواية سدوم لعبد الحميد شوقي، والامر يصح أيضا على المستوى العربي، دون أن ننسى حتى دار النشر التي قامت بنشر الرواية، حيث إن ما كتب على ظهر الرواية ضيق ومحدود ومتعسف إلى حد ما في فرض فرضيات تأويلية سطحية على القارئ، قد تشوه مقاربته لسيرورة التدليل وتمنحه وجهة دون أخرى، خلال تفاعله الجمالي مع النص في إنتاجه للمعنى، ولكل الخصائص المعنوية الفنية والفكرية و الدلالية. فأغلب ما كتب حول الرواية – في حدود ما قرأته – لم يكن ليتجاوز السقف الاخلاقي لقيم التنوير والحداثة في الاعلاء من شأن قيمة الجسد في الحرية والتحرر وفي الاختيار للنمط الوجودي وأسلوب الحياة. وكان سقف النقد محدودا لأنه لم يستطع أن يرى فيها إلا ما يجعل منها محاولة جريئة في مقاربة الجسد لكن في حدود ما يسمى في نظر هؤلاء رواية الأطروحة أو مجرد رواية رؤى وافكار…، ولذلك ينطبق عليهم هذا المقطع من الرواية، ويقصدهم بدقة متناهية، “ستكونين في مواجهة جمهور وحش، مشحون دينيا وموجه أخلاقيا واجتماعيا، ولا تملكين غير جسدك لإيصال الفكرة، التي تجسدينها” 115، هكذا اهتزت ظلالهم المظلمة فانعكست على تمثلاتهم الاجتماعية، فأساءت الى القيم النقدية في قراءة الرواية، الشيء الذي أسقط عنها في كلامهم، بصريح العبارة، خصائصها الفنية والجمالية المؤسسة لشكلها الروائي. وانزلق مؤلف رواية سدوم  مع هذا الفهم في حواراته وتدخلاته التي تخص عمله الابداعي. و ويعود ربما سبب ذلك الى نوع من ضغط “الرأي العام النقدي” لهؤلاء، مما جعله يستسلم لمجرى هذا النهر الآسن المتسلط والجارف في حق عمل إبداعي متميز يحتاج حسب قراءتنا الى مزيد من الاضاءات نظرا لكونها رواية متميزة، خاصة في مقوماتها الادبية والفنية، وما كان لتطوى في سراديب الصمت والنسيان.

وهذا العمل الإبداعي لم يكن فجائيا، ولا جرفته الصدفة، لأن فيه الكثير من الخلفيات الفلسفية والمقومات الادبية التي تجعله يندرج ضمن ما يعرف بفلسفة الاختلاف، الى جانب التصورات النقدية والادبية لكل من جورج باطاي، رولان بارط…، بالإضافة الى آخرين تأتي على ذكرهم الرواية” ألبرتو مورافيا لم يكن واعظا في رواياته، وكذلك هنري ميلر والماركيز دو ساد.. هؤلاء أشعلوا غابات الرغبة في المتخيل الإنساني”.17 والاكثر من ذلك أنها- الرواية- تحاول قراءة حصة الشيطان في مظاهرها المتعددة، في القيم والدلالات والعلاقات الاجتماعية والثقافية، في سياق مرحلة حضارية و لحظة تاريخية ميزتها الكثير من التحولات لانفجار الشر المحتوم كعنف واحتجاجات، وثورات شبابية، على كل المستويات، واهتزاز القيم الصراطية الاخلاقية والدينية والسياسية والحداثية البراقة، وظهور قبائل جديدة بتعبير ميشيل مافيزولي، كالجماعة، أو القبيلة التي مثلتها شخصيات الرواية في نمط تفكيرها وإبداعها، وفي تصوراتها الاخلاقية، وممارساتها الاجتماعية في انتهاك وتخطي حدود السائد الذي لم يعد جديرا بالطاعة والخنوع والاحترام والتقديس، الشيء الذي تطلب تعرية الذات بالموازاة مع تعري الواقع الحي. وذلك في محاولة إعادة الاعتبار للمكبوت والمسكوت عنه، والمقموع بتسلط هيمنة أخلاق الخير والفضيلة الزائفة، إنها تعبير صريح عن رغبة الانسان في تصريف الشر، والقبول به وتقبله، عوض محاربته رغبة في تسييد الحقيقة والانسان الكامل. إنها إذن ، تمثلات جديدة وطقوس وممارسات ابداعية واجتماعية، لا تريد أن  تنسى نصيبها من حصة الشيطان، والتصالح معه كجزء من الذات والواقع، في الرواية و الشعر والمسرح، وفي الفن عموما، وفي الاحتجاج والنضال. ” أيها العالم.. نحن الذين ندمن النهار كأبدية لا ترحل.. اترك لأجسادنا أن تعيد حكاية سدوم التي لم يدمرها فسادها، بقدر ما دمرها عدم قدرتها على رفع شهواتها الى مقام القونين التي لا ترتفع. لم تكن سدوم موغلة في درك الرذائل في الأسفار التوارتية، فقط، كانت سدوم راقصتنا التي نتلوى تحت خصرها في الليل ونرجمها ألف مرة في النهار.”148   

أولا: الكتابة والشر

“الأسود ليس دائما حزينا وكئيبا. الأسود لغز النفس ذاتها” 

     تحاول الرواية من صفحتها الاولى أن تضيء المنطقة المعتمة في الانسان، تفعل ذلك بجرأة وهي تحاور نفسها ككتابة إبداعية حول ما يمكن أن يجعل الابداع جديرا بصفة الابداع، أي الخروج على المألوف، الخرق والانتهاك لكل القيود وفك الاغلال التي تحول دون نشاط الفعل الانساني الحيوي الخارق للسقف المعاش الراكد. “لم يصبح بول غوغان رساما عالميا إلا بعد أن ذهب الى أصوله الانسانية المتعرية والراقصة والمتحررة في تاهيتي، حيث نقل عالم الضوء الى لوحاته. قال يوما لتلامذته: لكي نرسم حقا، لا بد أن ننفض عنا المتحضر الذي نحمله على كاهلنا، ونخرج المتوحش الذي في داخلنا.”168 تعري الرواية ما نتستر عليه من قمع رهيب لما نعتبره حصة الشيطان في الانسان انطلاقا من تصورنا  الأخلاقي للفضيلة، وحسب ما تمليه المعتقدات الدينية في صراعها الجهنمي ضد الشر المحتوم الكامن في أعماقنا، حيث هو مزروع بدافع الاهواء التي تقاتل بشراسة ضد  خرافة  ضبط فجور النفس بزاد التقوى تحصيلا للخير وتقويضا للشر. “ملاحم الاغريق ومسرحيات سوفوكل وأسخيليوس وشكسبير وراسين وروايات دوستويفسكي ومارسيل بروست.. إنها ابداعات كونية خالدة…وسر خلودها هو أنها تقوم على عمق جمالي وعمق فكري وعمق انساني يتجاوز العصور. خذ مثلا قصص ألف ليلة وليلة في التراث العربي. إنها خالدة لأنها تقوم على حكي جميل ومدهش، وفي الوقت نفسه، تضيء جوانب العتمة البشرية المتعلقة بالجانب الجسدي الايروتيكي، الذي حاول التقليد الفقهي الشرعي قمعه والتستر عليه واعتباره غواية شيطانية”

  تلتقط الرواية بحس ابداعي رائع التناقض الوجداني الذي يؤلف بين الخير والشر، أي تؤسس فنيتها وجماليتها الادبية كشكل روائي من خلال الدفع بالاعتراف بحصة الشيطان المرافقة للإنسان، كشر لابد منه لرفد الحياة بقوى خلاقة، وطاقة مفعمة بالتوهج والعنفوان.” ما الذي يخيف في الجسد لكي يصبح الجزء المقموع المحرم الخفي في شخصية الفرد، والجزء الشيطاني المرتبط بالغواية والرذيلة والسقوط؟…كنت أعتبر كل إبداع لا يحتفل بأسرار الجسد عملا ثقيلا ثقل مواعظ الفقهاء105″.  فشخصيات الرواية كلها كابدت بألم ومعاناة اقتدارها على الخلق والابداع و الوجود من خلال صراعها المرير مع تجربة الشر الاخلاقي الهووي(من الهوية) الثقافي والفني الابداعي، بصفة عامة. إنها تجربة في العلاقات الاجتماعية الاسرية والعائلية والتربوية  والثقافية والمجتمعية، كانت تشتغل وفق فكر ومنطق محاربة الرذيلة ومكر الشيطان تبعا لسطوة الحقيقة المعبرة عن نور الهداية الاخلاقية سواء تبعا للمنطق الديني أو الدنيوي العلماني في التنشئة المجتمعية، وفي التعليم والتلقين للحقائق الجاهزة في السير قدما لتكثير الخير وتجاوز الشر والانتصار للحياة السعيدة بدون التباسات أو أية ظلال معتمة تكدر طمأنينة الحياة (صفر مخاطر) ” لم أكن أعرف أن لي جسدا خاصا بي ومستقلا بأسراره الحارقة عن العالم، إلا حين كنت أسمع أمي وهي تردد على مسامعي النشيد الكنائسي نفسه: كبرت يا أحلام.. تستري.. عيب.. لا تلعبي بأعضائك.. سأكويك.. أنت الآن بنت.. وزين البنت حياؤها وتسترها..”26.  هكذا نلاحظ بأن جمالية الرواية هي في قدرتها على ادراك ما يكمن في الفضيحة والخطيئة والذنب والحرام…، أي في حصة الشيطان من اقتدار فني ووجودي لا يمكن للحياة ولا الابداع الحقيقي الاستغناء عنه، حيث من هذا الظل المعتم المقموع والمنفي دينيا وايديولوجيا تستمد الحياة قوتها واستمرارها الخلاق في الخروج على المألوف القامع لنزوة الحياة.” كيف نطوع جسد الممثل أو الممثلة لكي يكون في خدمة الصورة أو اللقطة خارج كل اعتبارأخلاقي.”62 بمعنى أننا نستمد الخير من الشر مثلما نستمد الحياة من الموت. “الرواقي يضع العالم بين قوسين، ويعلق أحكامه، ويستكين الى حالة من الرضا والانسجام مع العالم، لأنه قبل بالعالم كما هو، بكل ما فيه من موت وحياة ومآس وأمراض، لا تستطيع الذات تغييرها”73  على هذا العمق التناقضي في الجمع بين الاضداد تشتغل الرواية لبناء وجودها الفني وهي في ذلك لا تكف عبر سيرورة هذا البناء من مساءلة نفسها من حين لآخر” كانت معالم روايتي تتشكل في الوجدان والوعي…لقد أيقظت التنين، أو ربما فتحت علبة الباندورا، منحتني ملاحظاتها الماكرة رؤية مختلفة لعملي الروائي: لماذا لا أجعل جسدي علبة باندورا تنفتح فجأة وبشكل عنيف؟ … لن تكون جديرا بعالم الروائيين إذا لم تتخلص من جبة الفقيه فيك”46. وفي الوقت نفسه تكون الرواية لاذعة تجاه النتاج الروائي العربي” أجد الرواية مضاجعة حقيقية. معظم الروايات العربية هي مجرد عوالم أخلاقية متأدبة…معظم المتن الروائي العربي الذي قرأته حتى الان، كان مسكنة روحية وخنوعا أخلاقيا. كان هناك هروبا عن أوشام الجسد المالحة التي تقطر حكيا”و44 . كما أنها في الوقت نفسه تحاور قارئها دون مساومة أو تفاوض لخرق وانتهاك أفق انتظاره، وتخطي محدودية سقفه الاخلاقي في التواطؤ مع السائد اجتماعيا ودينيا وأخلاقيا وسياسيا وفنيا…، هذا القارئ الذي يمارس ضد نفسه، قمعا وكبتا بالحديد والنار والنبذ والاقصاء والهجر لجزء من ذاته الأصيل. فشخصيات الرواية كأفراد وجماعة ما كان لها أن تصل الى هذا المستوى من خرق السائد وانتهاك القواعد إلا من خلال الاعتراف بمنطقة الظل في هويتها وانتمائها، في طفولتها، مراهقتها، وفي مآسي فقرها ووضعها الاجتماعي في أسفل السافلين، أي ما دون خط البشر، كجزء معتم شوه قيمتها الانسانية. ومع ذلك كان شرا فاعلا في تجربة الذات التي واجهت ظلالها الحالكة من خلال إعادة الاعتبار لما تشكل في الاعماق من حكمة شيطانية في التجرأ على المألوف وانتهاك الطابوهات التي حالت دون بروز هشاشة الوجه الحقيقي للهوية والانتماء والفضيلة والاخلاق والتحرر الأنواري للحداثة في بلداننا.” هل كنت أحاول تدمير رقتها المدينية الزائفة عندما قلت بصوت خفيض اسمه: إزرا؟ انسحب بابا الى أعمق قرار في محيطاته النفسية. كان يبحث عن موطئ لقدميه الغائصتين في رماد المفاجأة المأساوية. إرتفع صوتي قليلا: اسمه الكامل: إزرا حاييم”14

هكذا نتعرف مع كاميليا على الوجه الخادع الزائف لتماهي الوالدين مع القيم الثقافية والاجتماعية للحداثة في صورتها الاستعمارية، أي بأن الامر لا يتجاوز التماهي  بقيم وأحكام ونمط حياة الغالب، المعتدي والمستعمر، فالحمل غير الشرعي لكاميليا أسقط ورقة التوت عن حداثة مزيفة ونمط حياة مخادع للوالدين وهما يتحايلان على مواجهة ظلال ذواتهما في الاعتراف بحقيقة الذات في نقصها وهشاشتها إزاء رغباتها الدفينة في عيش الكمال والسمو والتحرر تبعا لتأثير الفكر العقلاني الحداثي الذي لا يعترف بحصة الشر في الوجود البشري.، ودوره في بناء الاقتدار الانساني كمكابدة لآلامه ومعاناته الساحقة.” سمعت شهيق ماما. انخرطت في بكاء حارق. كان صوتها مخنوقا وهي تحاول أن تكلم بابا. لكن بابا في تلك اللحظة كان رجلا شرقيا خرج للتو من كهفه الألفي.”176 تكتشف كاميليا حدود ومحدودية واقع الأنوار الحداثي الزائف الذي تربت فيه بين أم تتقنع بالقيم الحديثة خوفا من بروز الشر المكبوت في الاعماق حماية لنرجسية الذات من التفكك والانهيار، وبين أب يتستر على حقيقته كهووي(الهوية) تابع لقطيع حراس وهم الملة والدين، ليتقمص أدوار الشخص الموزع بين تصنع دور المثقف المتحرر من العقلية الذكورية، ومن سطوة الهوية و التقليد والتخلف، والمشبع بقيم المحبة والتسامح والاستقلال…

والمشكلة لا تتعلق بالحمل في حد ذاته في كونه شرعي أو غير شرعي بقدر ما أن الرواية تذهب بعيدا في اختيارها لوجه الشر  المؤلم الذي ينفجر بشكل فجائي دون سابق إنذار ليسقط قصور الوهم الباذخ البراق للحياة السعيدة المفعمة بالمحبة والتحرر، حين نكتشف مع كاميليا الوجه البشع للوالدين، وهما يخفيان ليس فقط حقيقة كون كاميليا فتاة بالتبني، وهي ليهوديين توفيا بسبب حادثة سير، بل أكثر من ذلك حقيقة العتمة القابعة في جوفيهما كنقص حاد وهشاشة مرعبة لشر يحكم قبضته على الانفاس ويهجم في اللحظة المناسبة حين تسقط أقنعة الفرد كشخص يمارس هروبه في لعب الادوار، تحايلا وانكارا لما يكتنف الذات من طيات وتجاعيد شر محايث، لا يرحم من يدير له ظهره باسم الحلال والحرام، وفضيلة الاخلاق، والطهرانية، والتحرر الحداثي المزيف.” كنت فقط أحاول أن أجد تبريرا لموقف ماما وبابا عندما تسامحا مع حملي، ولم يتسامحا مع ملة الشخص الذي حملت منه”.172 فقد كان كافيا أن يكون حمل كاميليا من شاب يهودي لينهار برج التحرر الحداثي وتخرج حصة الشيطان متحررة من قبوها الملعون لتجعل حقيقة حياة الوالدين عاليها سافلها وتمطر عليهما حجارة من الهوية الموروثة للتقليد الديني، وضيق الانتماء الانساني.

وما كانت سامية هي أيضا بقادرة على الوقوف في وجه الشر المحتوم، كفتاة مراهقة تقودها خطواتها في فجر الغواية حين،” اشتمّت على أعتاب سنتها النهائية بالإعدادي حرائق بركانها الشيطاني. في كل ارتعاشة جسدية ماغْما تجري صاهرة في طريقها كل شيء… تحايلتُ عليه بكل ما تمتلك مراهقة من جرأة وشيطنة واقتحام، حتى استدعاني الى المنزل بطريقة بدت أنه كان هو الراغب وكنت أنا المتمنعة.”87 هكذا انفجرت الحمم من فوهة بركان المنطقة المظلمة فاكتسحتها بشكل جنوني مندفعة  من الجذور العميقة للجسد والغريزة في بُعدها الحيواني الذي لا يرحم ولا يعير أي اهتمام للأخلاق والاعراف وكل المواضعات الاجتماعية الاخلاقية كيفما كانت طبيعتها دينية أو دنيوية التي تتنكر لحق هذا البعد في الوجود، كفحش فجور وما شابه ذلك من الأسماء الزجرية في الوعظ والارشاد، وبكلمة واضحة كشر لا بد منه، في وجه العواطف المسكونة بنزعة التملك البطريكي، والاستحواذ على الاخر.” عندما ارتديت الوزرة وشددت شعري على هيأة ضفيرتين متدليتين، كفت أمي عن مناداتي في الحي بالصوبيصة( المتهتكة). قالت لي وهي تتأمل هيأتي الكوليجية الجديدة: سامية.. حتى رائحتك تغيرت.. أصبحت لك رائحة أنثى. هذه الملاحظة كانت كافية لأقضي على مصير أستاذ شاب، لم يكن له ذنب سوى أنه قال لي يوما: أنوثتك كاسحة”.87 فقد كانت لرخاوته الجسدية مقارنة بعبارته المحمومة اللاهبة  دورا أسطوريا في رفض الزواج منه، رغم كل توسلاته المشحونة بتملق العواطف الملائكية. وقادها رفضها العنيد الى  الزج به في مصحة الأمراض العقلية، وبعد ذلك تنهي حياته بالانتحار، في آخر زيارة له بالمستشفى بطلقة ممهورة بعنوان “صلوات في هيكل الحب” معبأة في ديوان الشابي، كاتم الصوت،  أهدته له، كما لو كانت تضع السيف في يد الساموراي . لم تستطع كل الأخلاق الرفيعة أن تقف في وجه الحيواني في عتمته الشيطانية. ” لن أتزوجك ولو كنت الرجل الوحيد في العالم.. صرخت أمي في وجهي… ذبحته وذبحت أمي ، ولم أجد تفسيرا مقنعا لتصرفي. ربما كان جسده الرخو هو ما جعلني أحتقره. لا .. ليس هذا هو الرجل القابض على جمرة الموت بين شفتي فرجي… تعلمت أن أصغي لحكمة جسدي الذي لا يرضى إلا بجسد أقوى منه90و91″ لم يكن أستاذها على قدر تراجيدية الشعر الذي يحفظه في ذاكرة موشومة بالحدود والتسلط والهيمنة والتملك الى حد العبودية، لقد كان بروميثيوسا بامتياز كبير في نمط تفكيره المستبطن في جوف ذاكرته العميقة الجذور في ثقافة الوفاء والاخلاص، والزواج الشرعي…، حيث لا مكان للخيانة والتمرد والصعلكة، وكل تعبيرات شيطان الجسد عن رغباته النزقة في صورة أقرب الى التوحش، في الاقبال على المتع والملذات، والشبقية الهائجة.” لست قصيدة شعر.. أنا جسد قائظ… أريدك أن تكون فحلا بلا رحمة… تم كل شيء بشكل سريع وفاتر وبلا طقوس. لم أكن قد تهيأت بعد حين أحسست بلزوجية منيه بين فخذي. كان سريع القذف. مررت على مقربة من شهواتي الفاجرة، ولم أخرج سوى بخسارة المكان والرائحة واللحظة. ارتديت ثيابي سريعا. لم أقل شيئا. لم أودعه. وأضمرت بيني وبين نفسي أن تكون أنوثتي فادحة.”88و89 لذلك لم تمهله طويلا في دفعه الى حافة الجنون والانتحار، لأنه لم يدرك أن للشعر شيطان حر وعربيد، لا ملاك نبي يأمر بالخنوع والذل وينهي عن الفحشاء والمنكر، فقد كان ” أحقر من أن يستبطن في جسده دلالات الابداع المتحرر الذي كان يتشدق به كأي مثقف مخنث ولذلك لم يصمد طويلا”92 وفي خضم تجربتها المرة كانت تدرك بأن روعة الشعر وعمقه المدهش والجمالي، هو حين يتأسس على تحرير الذات والجسد من خلال إطلاق سراح الوحوش الكاسرة، المشحونة بالرغبات الدفينة في عتمة المنطقة المظلمة التي يتواطأ الجميع بابتزاز أخلاقي كاذب على لجمها بأغلال الأوامر والنواهي والمُثُل العليا، في قمعها للحيوية والفعل الخلاق المسنود بالطاقة النشيطة. ” كنت فوق الاحساس بالذنب واتهام الذات. كنت مراهقة تقدح نار الحياة لتحرق من يوجد حولها…كنت أقرأ الخجل في وجه أمي، فيزداد شري وعدوانيتي… كنت أعتقد أنه يملك حكمة الشرق وأسرار الشوق وشعلة الكلمات. لكني لم أحرق فقط منزل عدوي، بل أحرقت الحي بأكمله.”197 هي تعرف أن واقع التحايل على قيمة الانسان عصي على الاختراق، لكن تجد ضالتها وضلالها في جماعة الشلة و في الشعر باعتباره المكان المضياف والرحب، الواسع لقبول التناقضي في تكامل الخير والشر، الرغبة والخطيئة، الحلال والحرام…، وفق سيرورة الانتهاك والخرق، دون خوف أو خجل، الى درجة أنها ” تعودت على إدمان الخسارات الأخلاقية”93 . هي كانت تدرك شر موقفها المرعب، ولكنه جزء من ذاتها الذي كانت النظرة الأخلاقية عاجزة عن فهمه وتفهمه كما تقول سوسيولوجية فيبر. الأمر يتعلق بالوجه الآخر من ذواتنا، إنه الحيواني الذي نحيطه بالأسلاك الشائكة ونجعل  منه مجرد صندوق قمامة مرمي في المنطقة المعتمة، حيث يتطفل على إفراغه الكاهن والعراف والمحلل النفسي…، هكذا يُدنس ويحتقر ويُدان أجمل وأمتع ما في الانسان.”ميدان الإيروسية ميدان العنف، ميدان الخرق والانتهاك… ماذا تعني الإيروسية لجسدين غير خرق الكائن في كلا الشريكين؟ غير خرق يتاخم الموت؟ غير خرق يتاخم القتل؟ “لذلك كان مصير أستاذ سامية خارج المنطق الاخلاقي، خارج الحدود المتعارف عليها لأحادية الخير والصحيح والصواب، خاصة وأن على عتبة رواية سدوم كتبت قولة لـ : إيروسية الجسد،  “للجسد مبرراته التي يجهلها العقل” عوض إيروسية القلوب ل باسكال” للقلب مبرراته التي يجهلها العقل” الحداثي، الذي هو بشكل آخر امتداد للديانات الواحدية، في رؤيته لمفهوم الخير والتقدم وهو يتوخى الانسان الكامل.” كان إنسانا تشتعل أمامه الحياة بألف فرح وصخب، فنسفت بهاء عينيه وصحو عقله من أجل كلمة شاردة لم تكن مسدسا ولا لغما ولا احتقارا للكرامة. فقط كان جسدي محرقة نازية لم تحتمل أن يكون للآخرين كلامهم الخاص في التعبير عن الوجود.”202

______________________________________________________________________

الهوامش مأخوذة من الرواية والتسويد من طرفي لا يوجد  في النص

عبد الحميد شوقي، سدوم، دار الآداب، الطبعة الأولى – عام 2015

Visited 8 times, 8 visit(s) today
شارك هذا الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!