50 عاما على اغتياله: ذكرياتي مع “عمر” وأثر دمه على الإسفلت
عبد الرحيم التوراني
غدًا الخميس، الثامن عشر من ديسمبر… موعدٌ مع قدرٍ كان يتربص بصاحبه منذ عقدٍ ونيف...
غدًا، سيُنفذون القرار الذي أفلتَ منه “عمر” يومًا، حين وقف أمام مقصلة “مؤامرة يوليوز 1963”.. آنذاك، ظنوا أن الوقوف بين فكّي الموت سيُوهن عزيمته أو يكسر كبرياءه، لكنه خرج من خلف القضبان ومن تحت ظلال الإعدام أكثر صلابةً وعنادًا… عاد واليقين يملأ قلبه، فلم يجدوا وسيلةً لإسكاته سوى الاختطاف والتعذيب، راسمين له تهمًا جاهزة.. فتارةً يربطونه بانتفاضة رفاقه في “مولاي بوعزة”.. بقيادة عبد الرحمان اليوسفي والفقيه البصري، وتارةً يتهمونه بالتواطؤ مع جنرالات “انقلاب الطائرة”…
في صيف 1974، عانق الحرية من جديد ولم يسترح.. ومن فوره نفض غبار السجن وجمع المناضلين، معلنًا أن المعركة الكبرى هي “معركة الوضوح الإيديولوجي”.. أراد للاتحاد أن يخرج من ضباب “المناطق الرمادية”، فكان التقرير الإيديولوجي للمؤتمر الاستثنائي “خارطة طريق” لا تحيد عن الاشتراكية العلمية والتحرير والديمقراطية.
طيلة عام 1975، كان عمر “الدينامو” الذي لا يهدأ، وكأن روح المهدي بن بركة قد تقمصت جسده… يكتب الافتتاحيات، يؤطر القواعد، يسافر عبر الأقاليم والجهات للقاء المناضلين، يصول في ردهات المحاكم، ويواجه خصوم الوحدة الترابية في المحافل الدولية…
لا يزال صدى نِزاله التاريخي مع “أحمد بابا مسكي” عبر إذاعة “فرانس أنتير” يتردد في الآفاق، حينما أسقط الأطروحة الانفصالية بـ “الضربة القاضية” وبالنقط الحجاجية الباهرة.
غدًا.. ستنغرس السكين في ذلك القلب الذي اتسع لحب العمال والفقراء، القلب الذي لم يعرف جهةً سوى “اليسار”…
في صبيحة ذلك الخميس المشؤوم، توجه عمر إلى منطقة “الباطوار”، وبالضبط إلى “زنقة الجندي روش”… هناك، في مكاتب جريدة “المحرر”، فتح ظرف وكالة “فرانس بريس”، قلب صور الأحداث الرياضية وعارضات الأزياء الفرنسية بلامبالاة، ثم رماها جانبًا لينهمك في المهمة الأسمى.. كتابة افتتاحية تشرّحُ وجه الاستبداد في المغرب.. في ممرات الجريدة، وزّع ابتساماته ونكاته المعهودة على العمال.. فقد كان عمر يحب الحياة والضحك بقدر ما يحب النضال.
غادر مكتبه بعد الواحدة زوالاً، والقتلةُ في انتظاره بباب “زنقة الجندي روش”، لكن صخب عمال المطبعة وهم يتقاذفون كرة القدم في الزنقة الفسيحة أربك الخطة “ألِف”… فانسحب القتلةُ إلى الخطة “ب”: الترصد له أمام باب بيته بـ “زنقة كامي دي مولان”.
تناول عمر آخر وجبةٍ في حياته، أكلة شعبية بسيطة أوصى بها وأحبها.. كان يأكل بعينين تلتهمان مقالاً في صحيفة ماوية فرنسية Politique Hebdo، يستحضر ملامح صديقه الصحفي والمناضل والفيلسوف اليساري البارز بول نويريل (Paul Noirot) الذي زاره مؤخرًا في الدار البيضاء، وأجرى معه عمر استجوابا نشره على صفحات يومية “المحرر”.
تهيأ عمر للخروج ليرافق والدته في زيارة عائلية، وسبقها إلى خارج البيت ليفتح باب سيارته “الفياط 128”.
في تلك اللحظة الخاطفة، أحس بيدٍ غاشمة تشده للخلف، وقبل أن يدرك ما يدور، اخترق الخنجر صدره… لم يسقط عمر بسهولة، بل تشبث بجسد قاتله بقوةٍ أربكت المجرم وجعلته يصارع ليفك قبضته من يد ضحيته…
سقط عمر أخيرًا بجانب سيارته البيضاء، والدماءُ الطاهرةُ تخضبُ المكان وتكتبُ الفصل الأخير من ملحمة “الشهيد”.. في تلك اللحظة، فرّ المتآمرون، لكن القاتل الذي أخّره صمود عمر سقط في قبضة المارة… وبقية الحكاية جرحٌ لا يندمل.
***
غداً يوم خميس، الثامن عشر من ديسمبر… السنة تنتهي برقم (5)، والفاصل الزمني بين الخمِيسين أتمّ نصف قرن (50 عامًا)…
كأنها البارحة… كأن عمر لم يرحل، وكأن دمه ما زال يروي جدران “المحرر” ويرسمُ للأجيال طريق الحرية.
في تلك الساعة الغادرة، كنتُ مستغرقًا في انشغالاتي داخل مقر الحزب بشارع “طريق مديونة”، أهيئ بعض تقارير “الشبيبة الاتحادية”، أطبعها بآلة “الستانسيل” اليدوية، وصوت دورانها يملأ المكان…
فجأة، اقتحم الهدوء المناضل وديعة الطاهر.. كان الرجل منهارًا، يصرخ ويخبط جانبيه كمن أصابه مسٌّ من الجنون: “قتلوه.. قتلوه....!!!
سألتْه بنظراتي التائهة: “من؟”، فجاء الردّ كالصاعقة التي تشق السماء:
– “عمر.. قتلوه.. الأنذال القتلة.. قتلوا عمر!”
لا تسعفني الكلمات لوصف تلك الصدمة التي زلزلت كياننا… أتذكر أنني نزلتُ إلى حي المعاريف، واتجهت مباشرة إلى “زنقة كامي دي مولان”… كانت سيارته البيضاء “الفياط 128” لا تزال مركونة في مكانها.. هناك.. على الإسفلت البارد، رأيتُ أثر دمه.. كان الدمُ طريًا، يحكي قصة اغتيال حلمٍ ووضوح.
أتذكر مراسيم التشييع المهيب… صلاة الجنازة في “مسجد السنة” بقلب درب السلطان. رأيتُ الزعيم عبد الرحيم بوعبيد شاردًا.. واقفا متكئًا على جدار المسجد، والحزن يكسو ملامحه بوقارٍ منكسر..
وفي مقبرة الشهداء سمعتُ كلمة التأبين التي ارتجلها عبد الكريم غلاب باسم الصحفيين، وفي صدورنا كانت تشتعل ثورةٌ صامتة، وفي قلوبنا يخيّم حزن المغرب بأسره.
يا للمفارقة.. كنا ننتظر عمر ليلقي فينا محاضرة عن “الصراع الطبقي” ضمن أنشطة الشبيبة، وزعنا الدعوات وملأنا القلوب بالترقب، فإذا بنا نتلقى منه درسًا أخيرًا وموجعًا في التضحية…
تعود بي الذاكرة إلى لقاءاتي معه.. مرة في ردهات الجريدة، ومرة حين وجدني في مقر “طريق مديونة” فأخذني معه في سيارته البيضاء ذاتها، السيارة التي ستصبح لاحقًا مسرحًا لمصرعه.. أخذني إلى حي سيدي عثمان لتدشين مقر حزبي جديد.. ومرة أخرى أوصلني إلى مقهى “لي زارشي” بوسط المدينة.. في الطريق، كنتُ أناقشه بجرأة الشباب، فكان يستمع إليّ باهتمامٍ غريب، وكأن ما أقوله يضاهي كلام الكبار أهمية.. لم يقمعني، ولم يطلب مني “أن أذهب لأقرأ أولاً”، بل كان يزرع فيّ الثقة بأسلوبه التشجيعي الرفيع...
أبصرُ نفسي الآن جالسًا بجانبه في مقر الاتحاد بحي “يعقوب المنصور” في الرباط، وهو يحاضرنا عن الصراع الطبقي، بينما أنهمك أنا في تسجيل كلماته بجهاز “كرنديك” الضخم.. تلك اللحظة التي خلدتها عدسة الصحفي عبد اللطيف جبرو، الذي أهداني الصورة لاحقًا بعد أن صار عمر “شهيدًا”.. وصرتُ أنا “شاهدًا”.
وفي ذكرى الأربعينية، بـ “قاعة الأفراح” بشارع الجيش، تحولت القاعة إلى مأتمٍ كوني… قبل عامٍ واحد، كان عمر يقف هنا ليقدم تقريره الإيديولوجي التاريخي، واليوم يقف مكانه شاعر “أرض الكنانة” الكبير أحمد عبد المعطي حجازي… أذكر كيف هزّ الحاضرين وهو يرثيه بقصيدته الخالدة “عرس المهدي”، وكيف كان النحيب يختلط بالتصفيق في مزيجٍ عجيب من الألم والفخر.
خمسون عامًا.. وما زال أثر الدم على الإسفلت يطالبنا بالوضوح… ما زلتُ أسمع صوت “الستانسيل” وهي تطبع مبادئ عمر، وما زال عمر.. فينا.. لا يموت.
كان بكائي على عمر يومًا ما شفاءً.. جودًا من النفس والقلب على رحيلِ من أعطى للوضوح معناه… لكن البكاء اليوم صار طعمًا علقمًا، ونحن نرى “حزب عمر” يُختطف في واضحة النهار ممن سموا أنفسهم بـ “خُدام الدولة”… لقد صار الحزن أشدّ وأفتك، لأن القتلة هذه المرة لا يحملون خناجر، بل يحملون صكوك الترويض التي تمحو هوية النضال وتصادر بوصلة التاريخ.
وما يؤلم أكثر من ضياع التنظيم، هو تلك الأصوات التي تجرأت لتقول إن عمر بنجلون “لم يعد يصلح اليوم نموذجًا للمثقف العضوي”، (كما صرح المدعو محمد بنعبد القادر)…
يا له من ادعاءٍ فج! فالمثقف العضوي عند “غرامشي” وعند “عمر” ليس موضةً تنتهي بانتهاء الحقبة، بل هو ذاك الذي يربط فكره بحركة الجماهير، وهو الذي يرفض أن يقبض ثمن صمته. إن القول بأن عمر “انتهت صلاحيته” هو اعترافٌ ضمني بالاستسلام أمام واقع الاستبداد، ومحاولة لتبرير “المثقف المدجن” الذي يقتات على فتات الموائد.
عمر بنجلون لم يكن مجرد “تكتيك” سياسي، بل كان “أخلاقَا نضالية” وعقلاً منظمًا وصدرًا عارياً أمام الرصاص والخناجر.
البكاء على عمر كان تكريمًا، أما البكاء على حزبه اليوم فهو “مرثية” لزمن كان فيه للكلمة ثمن، وللموقف قدسية، وللمناضل “رأسٌ” يرفض أن يُقذف في مرمى التنازلات.
سيظل عمر بنجلون النموذج الأسمى للمثقف العضوي رغمًا عن “المبرمجين” و”الروبوتات” و”خدام الدولة”، لأن دمه الذي سال على إسفلت “المعاريف” لا يزال قادرًا على فضح كل تزوير وكل تراجع وكل خيانة.
