المصالح الخارجية والرئيس المرتقب للبنان
د.وفيق ريحان
لقد بات واضحاً أن لبنان قد دخل في مرحلة تاريخية حديثة العهد بعد إتفاق ترسيم الحدود البحرية مع الكيان الإسرائيلي في السابع والعشرين من شهر تشرين الأول للعام 2022، وإن جميع محاولات إعادة تشكيل حكومة جديدة بعد الإنتخابات النيابية الأخيرة التي جرت في الخامس عشر من أيار للعام 2022، قد باءت بالفشل. كما أن المحاولات التي توالت في جلسات المجلس النيابي المنتخب حديثاً لإنتخاب رئيس جمهورية جديد خلفاً للرئيس ميشال عون، قد باءت هي أيضاً بالفشل، نتيجة عدم قدرة أي من المكونات السياسية أو الكتل النيابية من تأمين النصاب الدستوري بعد الجلسة الإنتخابية خلال المهلة الدستورية، بمعزل عن التفاهم أو الإتفاق مع المكونات السياسية الأخرى داخل المجلس النيابي، كما أرست الإنتخابات النيابية الأخيرة معادلة توازنات جديدة داخل هذا المجلس، وخاصة بعد دخول عدد من النواب الجدد إليه، من مستقلين أو قوى تغيير أو معارضة سياسية، شكلت مجموعة وازنة داخل البرلمان، لا يمكن تجاهلها في أي عمليات إنتخابية تحصل ضمن هذا المجلس النيابي. ومع بداية شهر “نوفمبر” تشرين الثاني، إنتهت ولاية رئيس الجمهورية السيد ميشال عون، وإستمرت حكومة تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي بممارسة مهامها ضمن النطاق الضيق لتصريف الأعمال على صعيد السلطة التنفيذية التي أنيطت بمجلس الوزراء، وفقاً للمادتين (17 و 62) من الدستور اللبناني، ريثما يتم إنتخاب رئيس جديد للجمهورية من قبل المجلس النيابي، في ظل التجاذبات الحادة بين الكتل السياسية والنيابية التي يتكون بها هذا المجلس، وعجز أي منها عن تأمين النصاب الدستوري المحدد ب86 نائباً كحد أدنى لإنعقاد جلسة الإنتخاب والتصويت بمعزل عن الكتل والمكونات البرلمانية الأخرى في حال صمم البعض منها على سلوك طريق مرشح المواجهة مع الأطراف الأخرى المنافسة له، ضمن مشروع التحدي لسائر المكونات الأخرى، والذي تبين أنه ضرب من الخيال أو الوهم السياسي الذي قد يلجأ إليه بعض المتطرفين سياسياً، إما بسبب الحذر وتدارك وصول آخرين الى سدة الرئاسة الأولى، وإما بهدف التعطيل أو العرقلة التي يمكن من خلالها فرض شروطه على الآخرين وفقاً لما يخطط له مع بعض حلفائه داخل المجلس وخارجه، من أجل فرض الرئيس التوافقي وفقاً لمشيئته وإرادته السياسية، والتي قد لا تساهم في الإتفاق على تسمية هذا الرئيس، والبقاء ضمن حلقة من الفراغ الرئاسي التي قد يطول أمدها كما حصل قبل إنتخاب الرئيس السابق ميشال عون بين العامين 2014 و 2016. أما اليوم وفي ظل الظروف الإستثنائية المعقدة، والأزمات المتفاقمة، التي قد لا يتحمل آثارها اللبنانيون لمدة طويلة، في ظل التدهور الحاصل على جميع الأصعدة.
أمام هذا المشهد المعقد من التخبط والتجاذب السياسي، وعودة بعض الرؤوس الحامية للإطلال من جديد، والرهان على عدم القدرة على التفاهم الشامل للإتفاق على رئيس توافقي، والتي كانت تراقب المسار الإنتخابي المتأزم بترصد وإمعان لإنتهاز الفرص، بدلاً من الإصرار على الرئيس التوافقي الذي بات قدراً محتماً على اللبنانيين من أجل الخروج من أزمة إنتخاب الرئيس، ومن أجل تغلب المصلحة الوطنية على المصالح الفئوية والشخصية في ظل التوازنات القائمة داخل المجلس وخارجه.
إن إعادة النظر بتشكيل حكومة جديدة أصبح متعذراً حالياً، بسبب عدم وجود رئيس للجمهورية الذي لا يمكن بدونه إكتمال تشكيل السلطة التنفيذية مستقبلاً وأنه في حال وصول رئيس تحدي أو مواجهة الى سدة الرئاسة، فمن الصعب جداً إعادة تشكيل حكومة شاملة تضم جميع المكونات السياسية وتكون قادرة على مواجهة الأزمات المحدقة وأن تحظى بالثقة الدولية من جديد والتي يحتاجها لبنان لتجاوز الأزمات وتخطي الصعوبات القائمة.
لقد تمكن اللبنانيون عندما وضعوا ميثاق العيش المشترك عام 1943 من تجاوز الأزمات والمعوقات السياسية، عندما تغلبت روح التوافق الإيجابي على روح التنابذ والتفرقة السلبية بذريعة الدفاع عن الطائفة أو المذهب، وتغليب المصالح الوطنية على المصالح الفئوية والإرتباطات الخارجية، وعبر التفاهم على توزيع المناصب والمواقع الرئاسية والإدارية في صلب النظام الطائفي الذي إمتدت جذوره منذ عهد السلطنة العثمانية حتى اليوم. كما تمكن اللبنانييون من العودة الى حياة الإستقرار بعد إتفاق الطائف عام 1990، بعد حروب أهلية إستمرت زهاء خمس عشرة سنة دامية ومدمرة للحياة السياسية والإقتصادية والإجتماعية، إلا أنهم لم يلتزموا بتطبيق ميثاق الطائف ودستوره وفقاً للأصول، من أجل الإنتقال بالبلاد نحو الدولة المدنية، وفقاً (للمادة95) من الدستور، وتأسيس نظام سياسي لا طائفي ينقلنا الى شاطىء الأمان والإستقرار، بعيداً عن الإنقسامات والتجاذبات الطائفية التي دمرت الكيان اللبناني في أكثر من محطة تاريخية، ولما نتعلم من دروسها بعد.
إن لبنان اليوم تحت مجهر الدول الخارجية المختلفة، وخاصة تلك التي لها مصالح إقتصادية وازنة وبعيدة المدى على شواطىء البحر المتوسط، والمتمثلة بالإستثمارات العملاقة للنفط والغاز، وبمشاركة من بعض الدول الإقليمية، وهو بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى الى إستكمال الإجراءات والخطوات الإصلاحية على مستوى النظام السياسي والإقتصادي والمالي والتشريعي و تلبية مطالب صندوق النقد الدولي والمنظمات الدولية التي تنسجم مع مصلحة لبنان الآنية والمستقبلية، ويأتي في مقدمتها حالياً إنتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة متخصصة في الشؤون العامة المتعددة الأوجه والإختصاصات، من أجل مزيد من الأمن والإستقرار السياسي والإجتماعي، وللحفاظ على إستقرار مصالحها وإستثماراتها الإستراتيجية في محيطنا الإقليمي، ولن تتوانى هذه الدول والمنظمات الدولية عن التدخل في شؤوننا الداخلية لتأمين المسار الآمن لأهدافها المستقبلية على صعيد المنطقة. لذلك كله، فإن التضامن الداخلي هو أرقى وسيلة للدفاع عن مصالحنا الوطنية في هذه المرحلة، وإنقاذ الوطن وشعبه من المخاطر المستقبلية المحدقة، ومن شرور الرؤوس الحامية من أدعياء حماة المناطق والطوائف والمذاهب الذين إعتادوا على المغامرة بمصالح الوطن، وتوسل أساليب العنف والشغب والمقامرة من جديد بأرواح المواطنين من أجل مكاسبهم الشخصية والفئوية.
إن المعادلة الداخلية المستجدة التي أرستها قوى السابع عشر من تشرين وتمثيلهم في المجلس النيابي بثلاثة عشر نائباً، ووصول عدد من النواب المستقلين والمعارضين الى الندوة البرلمانية، يشكلون اليوم مجموعة وازنة ومؤثرة في مجرى الإنتخابات النيابية فيما لو أحسن إستخدامها وتنسيقها مع بعضها البعض من أجل تغليب المسار الوطني التوافقي في هذه المرحلة الذي تتجسد من خلاله مصلحة الوطن والمواطن، وبالتعاون أيضاً مع سائر الكتل والمكونات السياسية الأخرى داخل المجلس النيابي، من أجل تأمين النصاب الدستوري المطلوب من جهة ومنع أية محاولة لفرض مرشح مواجهة وتكريس الإنقسامات داخل المجلس وخارجه من جهة أخرى، ومن أجل التمكن من تشكيل حكومة فيما بعد متخصصة وإنقاذية تكون قادرة على تحقيق الإنجازات المطلوبة، وإشاعة جو من الإستقرار العام والتفاهم الوطني محلياً، وإعادة الثقة بلبنان إقليمياً ودولياً وفق سياسة الإنفتاح المتجدد على العالم من أجل مصلحة لبنان الآنية والمستقبلية.