السودان الجريح (2)
جورج الراسي
عمر حسن البشير:
أول من أدخل “الحذاء” إلى صلب القانون الدولي… حكم الجنرال عمر حسن البشير السودان لمدة 30 عاما، من 30 يونيو/ حزيران 1989 حتى أسقطته ثورة شعبية عام 2019، وهي مدة معتبرة تتناسب على ما اعتاد عليه الحكام العرب …
كان انقلابه هو الآخر في أعقاب ثورة شعبية ضد الاستبداد وضيق العيش أيام سلفه جعفر نميري، الذي لم يحكم سوى 16 عاما، وانتهى به الأمر لاجئا عند الشقيقة الكبرى مصر… بعد الإطاحة به في مطلع نيسان/ أبريل من عام 1985. خلال هذا الحكم الطويل شهد السودان أخطر الأحداث منذ نيله الاستقلال عام 1956.
جاء على دبابة “انقاذية“…
الواقع أن القاهرة لم تكن على وئام شديد مع رئيس الوزراء صادق المهدي – المدني الديمقراطي – الذي أطاح به البشير. حتى أن وكالة الأنباء المصرية أذاعت نبأ الانقلاب نصف ساعة قبل أن يصدر البلاغ رقم واحد من راديو الخرطوم…
تبين لاحقا أن القوة الحقيقية الواقفة وراء ذلك الأنقلاب هي “الجبهة الإسلامية” التي كانت تسعى إلى تغيير حكم الصادق المهدي بواسطة الجيش، وعلى رأسها “المرشد” حسن الترابي . وبتأثير من هذا الأخير أرسى البشير دعائم “حكم إسلامي” متشدد كان يعد حينها 40 مليون نسمة، ويقوم على الانتماء القبلي، ومنقسم بين أغلبية مسلمة في الشمال، والجنوب الذي يدين معظم سكانه بالمسيحية أو يتبنون معتقدات أرواحية…
وباتت الخرطوم في تسعينيات القرن الماضي، موئلا للتيارات الأصولية الأسلامية الجهادية كتلك التي قاتلت في أفغانستان، ومنها زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، وعمر عبد الرحمان وآخرين جرى طردهم فيما بعد بضغط من الولايات المتحدة.
ولا يخفى على أحد أن التواجد الإيراني بلغ ذروته في تلك المرحلة بخاصة في منطقة بور سودان، في حين سعى الأتراك إلى ترسيخ وجودهم في منطقة “سواكن” التي تحتفظ بإرثها العثماني. في حين ظل النزاع قائما مع مصر حول ملكية “مثلث حلايب“..
الطلاق مع الترابي
بقي البشير تحت رحمة الترابي عشر سنوات كاملة. وذهب هذا الأخير عام 1999 إلى حد اقتراح مشروع قانون يحد من سلطات رئيس الجمهورية….
طفح الكيل..
فما كان من البشير إلا أن أرسل الجيش يطوق المجلس الوطني (البرلمان) الذي يترأسه الترابي، ويعلن حله … طبعا لن تكون المرة الأخيرة التي يساق فيها الترابي إلى السجن…
سعى البشير بعد ذلك إلى الابتعاد عن الإسلاميين المتشددين وتحسين علاقاته مع الجيران ومع المجتمع الدولي، وأقام شراكة اقتصادية مع دول الخليج، ومع دول آسيا وبخاصة الصين أول مستورد للنفط السوداني في ذلك الوقت…
ويقدر احتياطي النفط بستة مليارات برميل، وكانت عائداته تشكل 60 بالمئة من مداخيل حكومة الخرطوم، و98 بالمئة من عائدات حكومة الجنوب التي كانت تتمتع آنذاك بحكم شبه ذاتي، قبل توقيع اتفاق للسلام عام 2005، والسير نحو الاستقلال…
الحفاظ على “الديموقراطية“
سعى البشير إلى إعطاء حكمه طابعا “ديموقراطيا” من خلال “انتخابات رئاسية” كل خمس سنوات، كما هو معمول به في الجمهوريات العربية الديموقراطية جدا…
وهكذا فقد توجه أكثر من 16 مليون ناخب يوم الأحد في 11 نيسان 2010 ، إلى مراكز الاقتراع لانتخاب رئيس الجمهورية، ورئيس لحكومة إقليم الجنوب، الذي يتمتع بحكم ذاتي، وبرلمان “قومي”، وحكام 25 ولاية وبرلماناتها المحلية، في أول انتخابات تعددية تشهدها البلاد منذ 24 سنة…
وتكررت التجربة بعد 5 سنوات، فقد تم الإعلان في 26 نيسان/ أبريل 2015 عن فوز الرئيس عمر حسن البشير بمنصب رئاسة الجمهورية بحصوله على خمسة ملايين صوت (وكسور)… من أصل 5 ملايين مقترع (وكسور)… بما يعادل 94,05 بالمئة من المقترعين … أي أن هنالك بعض المتمردين…
وقد رأى المراقبون حينها أن التزوير “فاقع”، وأن في الأمر صفقة يتم بموجبها فوز البشير مقابل السماح بانفصال الجنوب…
انشقاقات كثيرة
الواقع أن حكم البشير تعرض إلى انشقاقات ومحاولات انقلاب كثيرة، بعد انقلابه الأول الذي قام به لصالح “الجبهة الإسلامية القومية” وأطاح بالحكومة الديموقراطية المنتخبة التي كان يترأس مجلس وزرائها الصادق المهدي، ويترأس مجلس رأس الدولة أحمد الميرغني …
وتعرض بدوره إلى ما عرف بـ “انقلاب رمضان” عام 1990، الذي باء بالفشل وتم القبض على 28 ضابطا تم إعدامهم في محاكمات عسكرية… ودخلت حكومة البشير حينها في عزلة دولية جعلتها تعمق صلاتها مع إيران والصين ..
وجرى اتهامها في محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في ايلول/ سبتمبر 1995 بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا، إضافة إلى ما سبقت الإشارة إليه من رعاية الإرهاب وإيواء إرهابيين…
الانقلاب الثاني عرف بـ”انقلاب الرابع من رمضان” عام 1999، الذي أعقب فشله إصدار مرسوم يعلن فيه الرئيس حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر، وتم حل البرلمان، وحصل انشفاق في صفوف الحكم الإسلامي قاد أحد شقيه الرئيس البشير، وقاد الشق الثاني ثعلب السياسة السودانية حسن الترابي، وقد أطلق على حزبه الجديد اسم “المؤتمر الشعبي”.
وفي مطلع العام 2015 عاد البشير إلى محيطه العربي بعد أن طرد البعثة “الثقافية” الإيرانية، وأمر بإغلاق المراكز “الثقافية” المتهمة بنشر الفكر الشيعي…
ثم شارك السودان في “عاصفة الحزم” التي أكدت حينها عودة السودان إلى الخليج العربي والتخلص من المحورين الإيرانيو التركي ..
المحكمة الدولية و”الحذاء“…
المشكلتان العويصتان اللتان ستقربان أجل البشير هما بلا شك مشكلة الجنوب ومآسي دارفور… فما يحدث مع ناتنياهو اليوم حدث مع البشير عام 2009، إذ أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في آذار/ مارس من ذلك العام مذكرة توقيف بحقه، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في ولاية دارفور، وهي الهوايات التي يبدع بها حاليا رئيس الوزراء الإسرائيلي …
ولم يتأخر رد البشير آنذاك، إذ أعلن على الملأ وأمام الجماهير أن المحكمة “تحت حذائه”.. معنى ذلك أنه يمتلك الحقوق الفكرية في إدخال الحذاء إلى المجال العام… وليس بعض صغار الساسة هنا وهناك اللذين استبدلوا الحذاء بطبعته الشعبية، أي “الصرماية”…
اليوم يقبع البشير بالسجن والبلد غارق بالدماء والدموع… فربما كانت هذه هي الفرصة المواتية للإنجاب… هو الذي تزوج مرتين دون أن يرزق بذرية…