ميشال فوكو، بيار بورديوه ومسألة الليبرالية الجديدة

ميشال فوكو، بيار بورديوه ومسألة الليبرالية الجديدة

كاركاسون- المعطي قبال

      نادرا ما تقاطعت مسارب ميشال فوكو وبيار بورديوه في لقاء فكري أو حول مشروع ثقافي مشترك. اشتغل كل منهما على تيماته وفي مجال حقله الخاص. عمل فوكو على أشكال وطرق انبثاق الذات أسيرة العائلة والمؤسسات الاجتماعية الرادعة من قبيل السجن، المصحة العقلية، والمؤسسة التعليمية، فيما عمل بيار بورديوه على أنماط تشكلات الهوامش الاجتماعية وتوليدها للبؤس الاجتماعي.

   هذه التيمات لا تلخص الميادين الرحبة التي اشتغل عليها المفكران اللذان يراكمان تخصصات عديدة تتراوح بين التاريخ، الفلسفة، السوسيولوجيا، الأدب، الفكر السياسي الخ… فكرة الجمع بينهما لمعرفة أوجه التقارب والاختلاف هي التي طرحها كريستيان لافال في كتاب هام في عنوان: «فوكو، بورديوه ومسألة النيو ليبرالية». صدر الكتاب عن منشورات لاديكوفيرت. الفكرة الرئيسية لهذا البحث يمكن تلخيصها في الفرضية التالية: ما هي علاقة فوكو وبورديوه بالسياسة وبالفكر السياسي؟ هل اشتغلا على السياسة بنفس الطريقة التي يعمل بها الإعلامي أو المتخصص أم عالجها على نحو غير مألوف؟ فيما أثر الأول بقوة في حقبة السبعينيات كان للثاني تأثير اقوى على حقبة التسعينيات. من منطلق سياسي وثقافي قدم كريستيان لافال، وهو أستاذ السوسيولوجيا بجامعة نانتير بضاحية باريس، تحليله لموقف هذين المفكرين اللذين تركا بصمات واضحة في الحقل الفكري وفي ميدان الصراعات الاجتماعية والسياسية.

   القصد من هذا البحث يشير المؤلف، هو مساعدة القارئ والجمهور بشكل عام على تقييم أهمية بحث كل منهما وأي من هذه الأبحاث لا يزال نشطا أو متجاوزا. الهدف أيضا هو الإدراك الدقيق في اللحظة التاريخية التي انبثقت فيها وذلك ضمن المسار الثقافي المميز الذي تنتمي له.

   غاية هذا الكتاب هو عرض حركة بحثين خلال مرحلتين تاريخيتين متباينتين لكنهما تتعلقان بنفس الموضوع: كيفية تصور فوكو وبورديوه لمسألة الليبرالية وتجددها بل طفرتها على المستوى الكوني. يتعلق الأمر بتبيان كيف أن هذين المفكرين المتزامنين (ولد فوكو عام 1926 فيما ولد بورديوه عام 1930), قدما من خلال أعمالهما وممارساتهما أجوبة على الواقع السياسي الذي قدما عنه تعريفا في اسم النيو ليبرالية أو الليبرالية الجديدة. يتعلق الأمر بالتساؤل لماذا انصب اهتمامها على الموضوع من زوايا خاصة، في فترات متباينة وفي ظروف وبأدوات نظرية ومنهجية خاصة. هذا مع العلم أن أيا منهما لم يؤلف كتابا خاصا في الموضوع. الغرض من هذا البحث إذا هو التعريف بحركتين فكريتين و مواجهتين لهما قاسم مشترك يتمثل في تفسير ومقاومة الانبثاق التاريخي لظاهرة النيوليبرالية. تقاسم فوكو وبورديوه نفس التصور للعلاقات بين المعرفة والسياسة. يتلخص هذا التصور في: الفهم بدل الانخراط والتبرير.

   كان بإمكان بورديوه أن يقدم نفس الجواب الذي اقترحه فوكو لما سئل عن علاقة الفلسفة بالسلطة ومخاطرها. غير أنه بدل مفهوم فلسفة اقترح مفهوم العلوم الاجتماعية. لم تكن له نظرة دونية عن الفلسفة بما أنه مارسها في أكثر من عمل ومشغول اجتماعي ، لكنه فضل مفهوم « العلوم الاجتماعية » بما هي مجال رحب وملموس. مثل النيوليبرالية مثل بقية أشكال السلطة والهيمنة الأخرى. وعليه وجب تحليل هذا النظام، الإفصاح عن منطقه ونقاط تناقضاته دون الثقة في مزاعم «السلطة اللطيفة». تحمل كل من فوكو وبورديوه عبء ومسؤولية المثقف النقدي لمواجهة نظام الليبرالية الجديدة. ابتكر ميشال فوكو مفهوم «المثقف النوعي» فيما نحت بورديوه مفهوم «المثقف الجماعي» ومع ذلك جسد الاثنان ولا يزالان الصورة الكلاسيكية للمثقف النقدي المواجه للسلطة. على النقيض من «الوجوه الإعلامية البئيسة التي ترشح نفسها من «كبار المثقفين»، خلف فوكو وبورديوه نتاج يحسب وينسب للعلماء. وترتكز صورة المثقف الكلاسيكي لديهما على عمل دقيق، منهجي ومتخصص همه الرئيسي هو التفسير لعدد أكبر من ميكانيزمات السلطة في لحظة تاريخية محددة وفي مجتمع محدد. بهذا المعنى جسدا صورة جديدة هي صورة المثقف ذي الرؤى المتعددة الذي يتيح عمله العلمي والمتخصص تحصيل القواعد العامة لمجتمع ما من خلال دراسات محددة في الزمن التاريخي والمكان الاجتماعي.

   التحاليل التي قدمها المفكران في موضوع النيو ليبرالية أو الليبرالية الجديدة هي بمثابة محاولة أولى لبحث لم يكتمل، كما لو ترك معلقا، كما لو أوقفته وفاتهما. لذا لا نتوفر سوى على الخطاطات الأولى التي طرحت في فترة كانت فيها ظاهرة الليبرالية الجديدة ، في لحظة عنفوانها، انتشارها، كونيتها لكنها لم تصل بعد إلى مرحلة النضج. ثم يجب أن لا ننسى التباعد الزمني لاهتمامها بهذه المسألة. اشتغل فوكو على الموضوع ما بين 1975 و 1980 فيما انكب بورديوه على الموضوع بين نهاية 1980 ووفاته عام 2002 أي بعد عقد من الزمن. وهو عقد حاسم على المستوى التاريخي حيث استقوى النظام الليبرالي الجديد واكتسب صفة العالمية والذي لا يزال إلى اليوم يتحكم بوحشية في الممارسات التسييرية للمؤسسات والسياسات العمومية وحياة الأفراد والشعوب.

Visited 36 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

المعطي قبّال

كاتب ومترجم مغربي - رئيس تحرير مساعد لموقع "السؤال الآن".