إشكالية العنف والحرب.. من أجل فهم وضعية الحرب في غزة
محمد فرَّاح
يشكل هذا المقال المقتضب حول إشكالية العنف عبر تاريخ الفلسفة المديد، مدخلاً تمهيدياً لفهم الوضعية الراهنة للحرب على غزة، أو فهم الحروب بشكل عام بما هي صُوَرٌ للعنف وتمظهراته في العالم.
ذلك أن الحرب على غزة أو الحروب المفتعلة في عالمنا الراهن أصبحت للوهلة الأولى التي ننظر إليها فيها عديمة المظهر أو بلا معنى، فلا أحد منا يستطيع إدراك وتصور أو وعي حقيقة العنف التي نشاهدها في عالمنا ايشكل لمعاصر.
خاصة وأننا الحروب هي تصوير وتجسيد للعنف الجماعي، لهذا نتساءل ما مآل الإنسانية وما عساها أن تفعل وهي تنظر مكثفة الأيادي ومغلقة الأفواه، وهي تنظر بعين حمئة لهذا الشكل أو التمظهر والتجلي العنيف للعنف في قطاع غزة، عندما نلمح أطفالا وشبابا وشيوخا ونساءً يموتون يوماً بعض يومٍ بطلاقات من الرصاص، وتفجيرات متكررة تنطلق عن بعد أمتارٍ وفقط، لتهشم أجسادهم، فيموتون ويعانون الويلات يوماً بعض يومٍ، ويعانون ألاماً مبرحة لا توصف، وسط آلاف القتلى، وحينما تنفتح أعين الناجين من هذه القصفات المتكررة، يرون المدينة التي ولدوا فيها مدكوكة بالحديد والنار.
فتكون آخر الأصوات التب نلتقطها نحن المستمعين وراء شاشات التلفاز هي صراخ الأطفال والنساء وهم يحتضرون تحت الأنقاض، ومنازلهم مبثوثة فوق رؤوسهم، كل هذا بدعوى المحافظة على مصالح نخبة من الناس لا نعرفهم البتة.
واليوم ونحن نشاهد كل هذا على التلفاز بفضل التقنيات المتطورة من وسائل التواصل والإعلام لمعاينة وملاحظة هذا العنف/الحرب بشكل مباشر، فنلحظ جرائم القتل والاغتيال الشنيعة، وحروب دموية رهيبة، وإبادات عرقية خطيرة في غزة، وإرهاب مخيف للأطفال والنساء، وعدوان جماعي متوجه نحو جماعة من الناس الأبرياء اللذان لا ذنب لهم سوى أنهم موجودون على تلك الأرض المنكوبة.
ورغم هذا الوضوح الجلي لمظاهر العنف أو الحرب، إلا أن المرء يعمل جاهدا على عدم التفكير فيه، والتأمل في طبيعة هذه السلوكات والتصرفات والأفعال والانفعالات والنزوات والميولات والممارسات والدوافع العنيفة التي يقوم بها هؤلاء المجرمين.
لهذا كتب روسو قائلاً: “إذا نحن نظرنا إلى المجتمع الإنساني بنظرة هادئة مجردة من الغرض، فلا يبدو لنا منه لأول وهلة إلا عنف الرجال الأقوياء وقهر الضعفاء”، فكيف إذا لا يثور عقلنا ووجداننا على قسوة هؤلاء المجرمين مغتالي البشرية؟ كما أن الحرب والعنف في أكثر الأحايين هو ضد الحكمة والفطرة السليمة وحب الإنسانية.
نقول عن العنف إذن، أنه مجرد تعسف في إستعمال القوة، وبهذا المعنى فالعنف والحرب هما ضدا القانون والتشريع، وضد الحكمة والعقل، فالحرب هي إفراط في استخدام القوة بشكل ينعكس سلبيا على الإنسان وتدنيس للطبيعة، وخرق للقوانين الإلهية ولجميع الشرائع الدينية التي تهدف إلى السلام.
حينما نعود إلى محاورة جورجياس لأفلاطون، نجدها تعبر عن هذا الشكل من الحرب، حينما بين “كالكليس” وهو إحدى شخصيات المحاورة أن الإفراط في تدبير العنف أو نقول إن هذه الحرب أو التطرف الذي نشاهده على غزة، ما هو إلا شكل جديد من أشكال الرغبة في القتل والاغتيال وإرادة العنف.
إن الحرب التي نلاحظها على غزة، ما هي إلا عودة إلى “الحالة الطبيعية” التي اعتبرها هوبز “حالة حرب الكل ضد الكل”، وهذه الحرب ما هي كذلك سوى تجلي لحالة حرب الكل ضد الجزء المنهزم المتمثل في غزة المغلوب على أمره.
وهذا دليل قاطع على عودة الرغبة في الانتقام والقتل والاغتيال والعدوان، …إلى آخره، أي وبكل بساطة عودة إلى تمظهر كائن اللا رحمة واللا تسامح واللا سلام في الإنسان، إن الحرب دعوة إلى تنافس وصراع دائما بين الناس، هكذا تصبح الحرب وبكل بساطة هي صراع وتجسيد للرغبات.
فالحرب من حيث هي فعل مدمر، يتم توجيهها وعقلنتها ضد الغير، من أجل إخضاعه وتتخذ شكل العدوانية، وهذه العدوانية البشرية شبيهة بالعدوانية الحيوانية فلا فرق بينهما.
يتحول الإنسان في حالة الحرب إلى حيوان مفترس أو نورس متوحش، لأن النورس والإنسان في حالة الحرب تشبه بينهما قرابة لا نظير لها.
ولن نغالي في القول، أن الحيوانات لا تتحارب بعضها البعض، لكن الإنسان يتحارب بعضه البعض.
نتوافق هنا وفرويد الذي اعتبر الإنسان حيوان عدواني وشرس، والحضارة ليس بمقدورها سوى كبح شهوات ورغبات وغرائز ونزوات الحرب وليس القضاء عليها، فهذه الشهوات العنيفة تعاود الظهور كلما تطورت الحضارة وبالخصوص التقنية.
وهذا يحيلنا في الحقيقة إلى التصور الماركسي العميق للعنف والحرب، لأن الحرب ليست بحالة طبيعية، إنها حالة اجتماعية ضرورية، تعود جذورها وأصولها إلى الإستئثار بوسائل الإنتاج، أي الإستئثار بوسائل الحرب من أسلحة وصواريخ ومتفجرات وقنابل نووية، …إلى آخره من الأسلحة أو أدوات الإنتاج، فمن يملك وسائل الإنتاج يملك زمام التحكم بالحروب وافتعالها، كما أن كل أشكال التنافس والصراع والصدام بين الأفراد لها أصول اجتماعية خطيرة، مم أجل الظفر بالطبقات العليا التي تتحكم في مصائر الناس وتوجهات العالم، وتضع مخططات لسيرورة وصيرورة هذا العالم وفق مقاسها.
كما يعبر هذا الصراع عن نفسه من خلال قواعد مؤسساتية، فأصبحنا نتحدث الآن على حروب مؤسساتية، وأضحت حالتي الحرب والعنف يتحكمان فيها عامل مؤسساتي، بعد أن كان عامل شخصي/فردي.
وأكثر من ذلك، أصبحت حالة الحرب، حالة مرهونة بالاقتصاد والسياسة المالية، وتحدد لها أموال طائلة من طرف شركات ومؤسسات متعددة الجنسيات، عبر تحديد جزء من رساميلها وأرباحها وسلطة تملكها لوسائل الإنتاج لتنفق وتُتَوَجَّهَ في الحروب وتفعيل العنف.
فلم نعد نتحدث الآن بمقولة هوبز الكلاسيكية “حرب الكل ضد الكل”، بل أصبحنا نتحدث عن مقولة أخرى، أكثر تعبيرا عن وضعنا الراهن هي مقولة “الصراع الإجتماعي والاقتصادي بين الجماعات”، هكذا يخبرنا كارل ماركس بحرب يوجهها الاقتصاد والمجتمع والسياسة. بل نلمح دوراً للحرب في التطور الاقتصادي للمؤسسات الداعمة لها.
ومقابل كل هذا أصبح مجتمعنا يطبع مع الحرب، ولا يعترف بوحشية الحرب ويقمع الصراع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ويخفيه، لهذا لا يمكن أن ننتظر في هذه الحالة حصول سلم شمولي، بل العكس يجب أن ننتظر الأسوء، أي عنف وحرب جذرية ومتطرفة على غزة لا نهاية لها.
يجب أن نتجاوز الحرب ونرفضها عن طريق التأمل وخلق الحوار والتواصل الفعال والاعتراف بالآخر، لأن الغير ليس عدواً بل هو محاور وصديق.
فيمكن تبرير الحرب بكونها دفاع مشروع عن النفس، أو مقاومة الاضطهاد، بل يمكن في حالات معينة اعتبار الحرب تبريرا عقلانيا منطقيا مشروعا، لكن رغم كل ذلك يجب رفضها وتبديدها وعدم الدفاع عنها.
لكن الحرب حينما نقرأها من وجهة نظر حنة آرندت، تعتبر كلا من الحرب والعنف ذو طبيعة أداتية، لأن الحرب موجهة دائما للاستعمال في حالة انعدام السلم، فالحرب تخون كل المواثيق المتفق عنها، إن الحرب خيانة عظمى للعهود المتفق عنها بداءة حول ضمان السلم.
لهذا فلا يمكن مواجهة الحرب بحرب مماثلة، لأن العنف لا يواجه بالعنف، لأننا نسقط في اللامعنى ونتائجه غير محمودة أو بذلك التصرف نمهد لحرب قادمة خطيرة تفتك بالجنس البشري بأكمله،
لكن بواسطة الفلسفة يمكننا أن ندبر للعنف بغير العنف أو باللاعنف، من خلال الخطاب العقلاني النقدي الذاتي والحر والمتماسك منطقيا والذي هو خطاب مسالم دائماً.
لهذا كانت غاية الفلسفة منذ بداءتها خطابا حول السلام الدائم حسب كانط، وحتى إن لم تستطع التخلص من العنف، فهي تدافع عن فكرة “تليين الحرب” والتقليص من آثارها.
وبهذا ما تريد الفلسفة هو أن تزول الحرب وجميع أشكالها العنيفة والعدوانية ذات يوم.
أصبحنا نلاحظ في الحقيقة تطور وزيادة العنف باستمرار ليشمل السياسة والاقتصاد والتربية من خلال العنف الرمزي كما لاحظه بورديو، وعنف الجماعات الإرهابية المتطرفة، ليخرج هذا العنف من دائرة العلاقات الإنسانية والاجتماعية والثقافية والدينية والفكرية والإيديولوجية، ليمتد العنف والحرب إلى علاقتنا بالكرة الأرضية والطبيعة والمحيط والبيئة، فالاستهلاك المفرط للثروات الطبيعية وتلويث البيئة والمياه هو حرب كذلك على الطبيعة والانسان هو المسؤول عنها.
لهذا أصبح من الضروري علينا تدبير العنف بشكل غير عنيف، وتدبير الحرب بطريقة سلمية، لأن الحرب تنطلق من الأفراد لتشمل الأسرة والمجتمع والمدرسة، ويترتب عنها نتائج وخيمة.
كما أن الإفراط والتفريط في الحرب، على مستوى العالم، وبالخصوص غزة، يمارس بشكل غير مُباشر، من خلال هدم النظام الإنساني واستنزاف الخيرات البشرية، بما سيهدد الإنسانية جمعاء في وجودها، لأن الحرب تبدأ جزئيا لتشمل كليا وشموليا وعالميا.
نقول في الختام، إن الدور الأساسي للفلسفة ورهانها الحالي، هو مقاومة خطاب الحرب، وجميع أشكال الحرب، لأنها تهديد للعقل والمعنى والوجود، وضد الخطاب العقلاني الذي يرفض الحرب، وبالتالي فالحرب هي جريمة شنعاء ضد الترابط الاجتماعي للإنسان، ولهذا فمهمة الفلسفة اليوم، هو التفكير النقدي في تطوير أشكال الحوار والتواصل الفعال وتوسيع دائرة فهم العالم والوجود.
——————————————————————
من أجل التعمق في مسألة “العنف الجماعي” أنظر:
Traité sur la Tolérance VOLTAIRE Éditeur :UPBLISHER Date de parution :27 MAI 2016EAN13 / ISBN : 9782759901906.
من أجل التعمق في مسألة “الإبادة الجماعية” أنظر:
Konrad Lorentz, L’Homme dans le fleuve du vivant, Flammarion, 1981, pp. 340-350.
من أجل التعمق في مسألة “الحرب فعل عنيف” أنظر:
Carl von Clausewitz, De la guerre, traduit en français par : Duvatry, dans le livre « Violence », d’Hélène Fraba, Flammarion, 2000, pp. 140-145.
من أجل التعمق في مسألة “العنف الاقتصادي في الفكر الماركسي” أنظر:
Friedrich Engels, essai sur le rôle de la violence dans l’histoire, dans l’ouvrage Anti-Dühring, traduit en français par Botteglis, Publications sociales, 1977, pp. 210-215.
من أجل التعرف على “مسألة الحرب عند فرويد” أنظر:
سيغموند فرويد، أفكار لأزمنة الحرب والموت، ترجمة سمير كرم، دار الطليعة، بيروت-لبنان، 1977، ص: 40-46.
من أجل التعرف على “مسألة السلم الكوني لدى كانط” أنظر:
Kant et la paix universelle,France Farago, Grands Dossiers N° 61 – Décembre 2020 – janvier – février 2021.
من أجل التعرف على “مسألة العنف لدى حنة آرندت” أنظر:
Politique et violence selon Hannah Arendt, La violence antipolitique vs la politisation violente des rapports humains, Valérie Gérard.