في زيارة لمتحف “بانكسي” في باريس: فنان يعلي صوت المقهورين والقضايا العادلة
علي بنساعود
رحلة عبر الزمكان
زيارة “متحف بانكسي” بباريس رحلة ساحرة ممتعة مع فنان عالمي شهير يعتبره المختصون “سيد فنون الشوارع”. يتيح هذا المتحف لزواره الانغماس في قلب أعمال بانكسي، والانخراط في رحلة عابرة للحدود، رحلة تنقل الزائر بين كبريات عواصم العالم، من باريس إلى لندن، ومن بريستول إلى بيت لحم، ومن لوس أنجلوس إلى بورت تالبوت، وسان فرانسيسكو، وديترويت، وفيينا، وباريس، وبرشلونة، وبيت لحم… لأن بانكسي اعتبر دوما مسافرا عبر الحدود، ومهاجرا سريع الزوال، ومواطنا عالميا يوزع رسائله عبر الدول والبلدان، راسما إياها على شكل قطع صغيرة من الورق، أو جداريات عملاقة على واجهات المباني والجسور والأنفاق واللوحات الإعلانية وعلى الجدران!
هي أيضًا رحلة عبر الزمن، تتيح اكتشاف، أو إعادة اكتشاف جداريات هذا الفنان، التي اختفى بعضها بفعل عوامل الزمن والطبيعة، بينما غطت بعضا آخر يد الإنسان عن قصد أو غير قصد.
هذه الأعمال استنسخها بطريقة جيدة فريق من فناني الشوارع العالميين (مجهولين مثل بانكسي) وجعلوا منها رحلة مليئة بالمفاجآت، فنانون جعلونا ننتقل حول العالم دون أن نغادر أماكننا!
وبذلك، فهذا المتحف/المعرض مكان سحري مليء بالتاريخ، يمنح الزوار الفرصة لاكتشاف بانكسي في أحسن الأحوال والظروف!
الأهم أعمالي وليس اسمي
يعتبر هذا المعرض أيضا رحلة فكرية في ذهن هذا الفنان، إذ رغم أنه هو الفنان الأكثر غموضاً في فن الشارع، ويمارس هذا الفن منذ مراهقته، فإنه مصر على أن يبقى مجهول الهوية، واختار “بانكسي” كاسم مستعار اشتهر به، ويُعتَقد أنه رجل بريطاني، وأنه، في الغالب، شخص واحد وليس مجموعة، ويحتمل أنه من مواليد السبعينيات، وهو حين يرفض الكشف عن هويته، يعتبر أن اسمه ليس هو المهم، بل أعماله ورسائله. وهي أعمال ورسائل ملتزمة سياسيا واجتماعيا، أتى أغلبها كتفاعل/ موقف مما يجري حول العالم…
فنان بنهج غير نمطي
للإشارة، فإن بانكسي هو فنان الشارع العالمي الأكثر شهرة وإثارة للجدل في الوقت الحالي. وتتمثل مهمة المتحف في تقديم هذا الفنان ونهجه الفني غير النمطي من خلال بصماته الإبداعية الذي وزعها عبر شوارع المدن حول العالم، وهو ما بوأه ذروة فن الشارع الحديث، وكان له صدى في جميع أنحاء العالم، خصوصا أن هذا الفن ارتبط، طيلة عقود، بالفوضى والتخريب وحرب العصابات والحركات الاحتجاجية، والكتابة على الجدران وعربات القطار، لذلك، كان ينظر إليه على أنه نشاط غير قانوني، تُرسل السلطات سريعًا من يزيله، لذلك أيضا فإن أغلب أعمال بانكسي تحولت إلى مجرد ذكريات قديمة في ذهن من شاهدها، أو التقط لها صورة فوتوغرافيّة قبل إزالتها. لكن، بفعل تطوره ورسائله الهادفة سلك طريقه إلى المعارض والمتاحف الدولية وسوق الفن العالمي.
تجربة كاملة وغامرة
في هذا المتحف/ المعرض نكتشف بانكسي، في تجربة كاملة وغامرة، بث فيها المعرض الحياة من جديدة، سيما وقد وضعت جوار كل عمل فني بطاقة تحمل عنوانه وشرحا له، وهي بطاقات تشكل إضافة حقيقية، تتيح فهم الرسالة التي ينقلها العمل، لمن تعذر عليه فهمها…
اسم ارتبط بمعاني الثورة والاحتجاج
يعرض المتحف أزيد من مائة عمل فني، يضم أشهر وأجود رسومات الغرافيتي لبانكسي، المعروف من خلال رسوماته والذي ارتبط اسمه بمعاني الثورة وقيم الاحتجاج على العنف والتعسف والظلم والتمييز والفصل، وبقضايا البيئة والفساد السياسي، والذي يستخدم الفن للنقد والفضح والتضامن وإعلاء صوت القضايا العادلة، ومن بينها القضية الفلسطينية… كما عرف بمواقفه ضد العنصرية وثقافة الكراهية، وما فتئ يندد بها وبأهوال الحروب والظلم والمجاعات ومساوئ الرأسمالية والنزعة الاستهلاكية، وهذه كلها مواضيع للعديد من أعماله، كما يدافع عن الحرية والعدالة، مغلفا ذلك كله برسائل الأمل والفكاهة، كتصوير رجال الشرطة وهم يـ(ت)عانقون، والأطفال يلعبون ويمرحون، والزهور… وهو ما نصادفه على بعض جدارياته بغزة، بالأراضي الفلسطينية، وعلى جداريات مناهضة للعسكرة على جدار الفصل العنصري الإسرائيلي، حيث يرسم فتحات، تظهر مناظر لشواطئ تمثل الأمل والتفاؤل بمستقبل أفضل.
هناك دائما أمل…
استوقفتنا في هذا المعرض بعض أشهر أعماله، وتشمل تحفا معروضة على جدار تزينه ثلاثة رسوم رمزية هي “الفتاة ذات الكرة الحمراء” وهي فتاة صغيرة ترفع يدها نحو بالون أحمر يطير بعيدا، وجوارها عبارة متفائلة تقول: «هناك دائماً أمل»، وهي عمل فني يحظى بشعبية كبيرة عبر العالم، إلى درجة أنه فاز بالعديد من الجوائز بما في ذلك اختياره كأحد أفضل الأعمال… وجدارية “حمامة السلام المدرعة” وهي عمل مرسوم على الجدار الخرساني بالضفّة الغربيّة، عبارة عن حمامة بيضاء، وأجنحة مفتوحة، تحمل في منقارها غصن زيتون، رمز السّلام، لكن الحمامة هنا ترتدي سترة مدرّعة، يستهدفها سلاح، وهو تعبير جريء عن الأبرياء المسالمين الذين يوجّه الكيان الغادر أسلحته لصدورهم. إضافة إلى جدارية “الحب في الهواء”، المعروفة أيضًا باسم “قاذف الزهور”، التي رسمت بعد وقت قصير من بناء جدار الفصل بالضفة الغربية، وتظهر شابا متظاهرا، عوض أن يرمي قنبلة يدوية، يقذف باقة زهور، تمثل السلام والجمال. علاوة على جدارية عبارة عن صورة شهيرة لفتاة صغيرة تتحدى الجدار فتحمل بالونات ترفعها من على الأرض موشكة على اجتياز الجدار…
تخيلوا لو…
أما جدارية الفتاة الصغيرة التي تفتش جنديا، يداه مرفوعتان، وسلاحه ملقى خلفها، فتعبر عن الحق في الطفولة والبراءة من جهة، وتدين عمليات التفتيش الممنهجة التي يقوم بها الجنود الإسرائيليون في حق المدنيين الفلسطينيين من جهة أخرى، وهي لوحة تعبر عن سأم الفلسطينيين من اضطرارهم للخضوع للتفتيش، وإحباطهم لعدم قدرتهم على الرد بالمثل على من يفتشونهم، كما تكشف عن خيال ساخر، لأن فتاة صغيرة جدًا هي من يفتش الجندي الكبيرǃ ما يعني انقلابا في علاقة القوة، يقول: تخيلوا، لو أننا نحن المدنيين الأبرياء، من نفتشكم معاشر العساكر المستبدينǃ
أطفال على أرجوحة الأمل
للإشارة، يعرض المتحف أعمالا أخرى لهذا الفنان تؤجج ثورة فن الشارع، وتعبر عن وقوفه في صف القضية الفلسطينية، التي هو ليس غريباً عنها وعن وأهلها، إذ يرجح أنه زارها عدة مرات، مخلفا وراءه لوحات عدة مرسومة على جدران القطاع وأبوابه، ومنها جدارية عبارة عن أطفال على أرجوحة تشبه تلك الموجودة في الملاهي، لكن عمودها برج مراقبة، وأخرى للرئيس الأميركي دونالد ترامب معانقاً برج مراقبة إسرائيلي ملحقا بالجدار العازل، وأخرى له يخاطب الجدار قائلاً: “سأبني لك شقيقاً” في إشارة إلى الجدار العازل بين أميركا والمكسيك…
إعلام في مرمى الاتهام
علاوة عما سلف، لم يفت بانكسي أن ينتقد الإعلام الغربي المنحاز، ولعل هذا ما تعبر عنه إحدى لوحاته بهذا المعرض، وهي لوحة استوقفتنا طويلا وتحمل عنوان «التغطية الإعلامية» وتعبر عن معاناة الأطفال الفلسطينيين أثناء الاعتداءات العسكرية التي تشنها إسرائيل على هذا الشعب الأعزل، وتصور نفاق وسائل الإعلام الغربية، وتغطيتها الاستفزازية، حيث تقف فتاة فلسطينية وحيدةً تنزف من أنفها وفمها وسط كومة من الأنقاض وتمسك بـ«دبدوبها» بينما يتم منع المُسعِفين من الاقتراب للمساعدة كي لا يشتتوا انتباه الصحافيين عن التركيز على المعاناة!!! مظهرا بذلك الطريقة اللااخلاقية واللامهنية التي يتعامل بها هذا الإعلام مع مأساة إنسانية تواطأ العالم بعربه وعجمه على ترك ضحاياها يلقون مصيرهم على يد هذا الكيان غاشم!
بانكسي ملهم فناني الشوارع...
للإشارة، فإن أغلب زوار هذا المتحف يعبرون عن إعجابهم بهذا المتحف الهادئ وبإضاءته وديكوره، لأن له الفضل في أن تُعرض في مكان واحد مجموعة مهمة من أعماله المنتشرة في جميع أنحاء العالم، ويعتبرونه رائعا يستحق الاهتمام، ويشمل وصفهم هذا الفنان الأسطورة، وإبداعه، ومواقفه، وأسلوبه في تناول المواضيع الجادة بطريقة فريدة، مبتكرة، وبروح الدعابة والسخرية، إضافة إلى إعجابهم بمواقفه الإنسانية، وبنجاحه في تغيير وجهة نظر العالم إلى هذا النوع من الفنون، إذ انتقلت النظرة من كونه عملًا تخريبيًا إلى اعتباره فنًا مبهرًا يحمل قيمة كبيرة، كما أصبح ملهما للكثير من فناني الشوارع...
جوهر فن الشارع أن يظل في متناول الجميع…
ومعلوم أن هذا المعرض افتتح سنة 2019، وكان مفترضا أن يكون فضاء مؤقتا، لكنه أصبح دائمًا، يمكن زيارته طوال أيام السنة، وهو معرض لا ينبغي تفويت زيارته، لأنه يتحدانا ويدفعنا إلى التفكير فيما هو أبعد من الرسم، وإن كان البعض يشكو من ارتفاع سعر الدخول إليه البالغ 14 أورو للكبار و12 أورو للصغار، سيما أنه معرض مقام دون مشاركة الفنان ولا موافقته، وأيضا لاعتبارهم أن جوهر فن الشارع هو أن يظل مجانا، في الأماكن العامة، وفي متناول الجميع، لا احتجازه بين الجدران الضيقةǃ