قضايا النص والمجتمع والذات في “نقطة ونهاية السطر”

قضايا النص والمجتمع والذات في “نقطة ونهاية السطر”

ميلودة العكرودي

            يحاور الأدب هوس الإنسان الأبدي بقضايا الوجود وواقع المجتمع الذي يعيش فيه، وفي تلك المسافة يسافر النص بحثا عن آليات الصياغة والتعبير ويقف المبدع على عتبات الانتقاء فيتوسل بما تسعفه به ملكته اللغوية وذاكرته الثقافية من أجل إيجاد القالب المناسب لإفراغ هواجسه وهمومه، وقد تتداخل القوالب في النص المسافر حديثا، فقد كسر جميع قيود الأجناس الأدبية فأصبحت القصة القصيرة جدا تكتب في لمحة أو ومضة قصصية تكثف الدلالة وتلتقط معنى خفيا أو جليا دونما حاجة إلى قواعد القص التقليدية حيث تتشابك خيوط السرد وتتعدد تقنياته من رؤى سردية وإيقاعات زمنية وفضاءات وشخصيات

 لذلك نجد القاص عز الدين الماعزي  يوغل في التكثيف والإيحاء المبطن للمعنى فيعمد إلى الحذف والرمز والإيجاز المبهر وكأنك تطرق باب بلاغة جديدة للسرد في صورة نادرة من الإمتاع والإقناع الذي يناور به اللغة ليوصل دلالات القضايا المطروقة في ثنايا العمل الإبداعي الموسوم بـ “نقطة ونهاية السطر”. يطالعك العنوان كعتبة من عتبات النص فيشير إلى تلك القدرة الكامنة في المجموعة القصصية، والمتمثلة في كون الكاتب يقول نقطة قد تكون فكرة إشارة، المحة، تعريضا، تعقيبا، رأيا نقدا لواقع معين

 ومعها ينتهي الكلام تكون نهاية السطر لا حديث بعد ذلك إذن وكأنه قال كل الكلام الكثير وهو لا يتجاوز حد تكسير بهاء البياض بتلك النقطة التي قد تتحول بإعجاز إلى كنز من الكلمات وجبل قائم من الدلالات المتعددة يفصح عن الخفي ويجلي غموضه .

هي إذن بلاغة تضمر وتخفي وتفتح باب التأويلات على مصراعيه للعديد من القراءات المفترضة ضمن رؤية ترتبط تارة بزمن الكتابة وتارة بزمن الأحداث المنثورة في النصوص الإبداعية، وهنا يستعين القاص بالاقتصاد وتشكيل فضاء الكتابة يقول حميد الحميداني: “لم تعد ذهنية القارىء المعاصر تقبل الحشو أو الإفاضة في وصف الواقع، لأنها متوترة بشكل تام الاختلاف عن الذهنية الرومانسية التي كانت تعالج توثرها بالعبارة الفضفاضة، كما أنها تختلف أيضا عن الذهنية الواقعية التي سمح لها تفاؤلها بمتسع من الوقت لتتبع التفاصيل في ارتياح كامل لا يتلاءم مع توثر القارىء الحالي إلا مع إنتاجية غنية لنص مقتضب. إنه قارئ مهووس بالكليات ورافض للتفاصيل إلا إذا كانت تعكس قلقل وجوديا” [1]

 يبدو القاص عز الدين الماعزي في هذا العمل الإبداعي مهووسا بالبحث عن هوية النص الأدبي ومعالجة مختلف قضاياه فلا يفتأ يتساءل عن جدوى الكتابة وأهميتها في مستهل المنجز يقول:

 خارج النص

 سألته عن جدوى الكتابة……؟

 فقال: هي النص، ولا شيء غير النص 

يومها خرج القص عاريا، صارخا:

 أنقذونا من الاستسهال ص :7[2] 

وهو تساؤل يقوده إلى التحذير من الوقوع في الاستسهال، الذي قد يرافق القصة القصيرة جدا ويجعل هذا الجنس الأدبي عرضة لنقد يهدف أساسا إلى تحديد ثغرات هذا الجنس الوليد من رحم السرد الأدبي، حيث تحضرالقصة القصيرة جدا عنده بلسانها الطويل في “بلاغة للتضاد” يجعلها المبدع تقول وتثرثر رغم ضآلة حجمها إذن هي قادرة على تبليغ المراد. الحجم مقيد لكن الدلالة تفيض لأن التكثيف يمنحها  طابعا رمزيا إيحائيا ممتعا، هي سر في الليل تعتلي حائطا وتنام وحين تستيقظ تفزعها الأسرار، سرها في قصرها ومحدودية مجال الكتابة الذي يشي بالأسرار في كل نص قصصي هو على مقاس السنتيمتر، تتعطر، تتجمل، تلبس فستانا جديدا تدخل يدها في جيبها وتخرج تلك القصص على المقاس، وهو في كل هذا يعلن عن بواعث الكتابة التي تحمل المبدع على استدعاء آليات جديدة هي مخاض تجربة الكتابة بكل أشكالها ، لاسيما وأن المبدع قدم من رحابة الخيال الشعري ليلج عالم القصة القصيرة جدا، إذ نجده يسرد بشعرية فيرسم بريشة السرد  صورة شعرية مختزلة لواقعة أو حدث أو تجربة اجتماعية أو ذاتية يقول:

 يده على الورقة يشدها 

والقلم يسري نقطا وفواصل،

 حين تكاثرت عليه الجمل…..أوسعها رفسا وركلا 

اختزلها في سطر واحد

هو عراك وجودي إذن من أجل إخراج المعنى إلى نص يشير عوض أن يقول ويومئ ولا يفصح إلا بإيجاز وإعجاز نادرين وفي ذلك أنين لا يختبره إلا المبدع الحق الذي يؤرقه النص الأدبي وقضاياه 

ويسير بحذر احتراما ووفاء لمقولة الأجناس الأدبية يقول في ص33:

 وجد القلم والورقة 

فكر في الكتابة

تمتم… عصر دماغه…. شبك يديه

 جذب شعره

 ثمة شعيرات بين أصابعه 

تأملها، هل تكفي لكتابة قصة…؟

 هاته الولادة العسيرة للنص القصصي قد تسقط  شعيرات الرأس في إشارة إلى مخاض الكتابة العسير الذي يعتكف المبدع في محرابه إلى أن تصل لحظة الطلق/ الخلق الأدبي.

 وتبدو نصوص القاص هنا باحثة عن ماهيتها الجوهرية تحاول إيجاد العلائق الدلالية بين مكوناتها الأساسية، يعتبر رولا بارت”أن النص نسيج من الدوال التي تكون العمل، لأن النص هو التساوي مع اللغة ذاتها، وأنه من داخل اللغة يجب أن تقاوم اللغة وأن تحول، ليس بواسطة الرسالة التي تحملها والتي استعملتها بوصفها أداة ولكن عن طريق اللعب بالكلمات التي هي مسرح لها.”[3] وهذا النسيج لا يحقق وظيفة جمالية فحسب، بل وظيفة اجتماعية أيضا ، فما هو جميل لا يمكن عزله عن ما هو مفيد ونافع، لأن النص انعكاس للبنية الذهنية الاجتماعية، التاريخية.

 أما أبطال القصص القصيرة جدا ذات اللسان الطويل، فهم في مكان قصي من الذاكرة والمجتمع، هم على الهامش تماما، حتى نهاية قصصهم غير معلومة لأنهم ليسوا من المركز، لا تدور حولهم الدوائر في السياسة والاقتصاد والثقافة، إنهم حالات اجتماعية تظل القصة معهم تبحث عن نهايتها التي يحجبها الغياب أو المجهول المأساوي الشبيه بمصائرهم. أما السيرة الذاتية عند القاص فيقتنص لها لمحة زمنية مشفوعة بازدواجية المعايير إذ كيف يعقل أن يكتب الإنسان سيرة ذاتية كاملة محاولا شراء حقوق التأليف مع أنه الكاتب وصاحب حق التأليف، يترجم مسار حياته في أحداث إلا أنه يعترف نهاية أن هذه الترجمة في حذ ذاتها خيانة قد لا تقول الحقيقة يقول:

 منذ أن أنهى سيرته الكاملة،

وهو يحاول شراء حقوق التأليف

 قال: إن الترجمة خيانة ص: 39

 ينتهي القاص إلى كون مسألة الإبداع في جنس القصة القصيرة هو لحظة ختم لمسار طويل من التعايش مع الكتابة انتهت بانتشاء القصة وإعلانها الصارخ عن التحدي الأبقى والأصلح  في تاريخ معاركنا الوجودية إما نكون أو لا نكون، ففي نظره القص معركة تشمل تجربة حياتية كاملة تمتد من الطفولة إلى الكبر أو الكهولة يقول في ص: 62

 استيقظ الطفل بداخله ليرسم لوحة( معركة) على الورقة

 شكل المتاريس ونصب المدافع في الواجهة

 جنودا خلف أكياس رملية، بنادق موجهة للعدو…..

 لم يكن العدو( اللذوذ )إلا هو الذي…. 

إنها تجاربنا التي قد تتبرأ منها براءة الأطفال لأنها مريرة، ختم عليها الزمن  بطوابع وجود قاسية ربما، ونستنتج تباعا أن عدونا  قد لا يكون إلا ذواتنا التي كبرت وضلت الطريق في متاهات الزمن، وأخيرا تولد هذه القصة القصيرة  بعد كل هذا العناء والجفاء قاصرة عن الابتذال ربما من فرط عشقها لذاتها ولبلدتها، هي إذن مسكونة بمشاعر الانتماء مهووسة بالدفاع عن قضايا مجتمعية ووطنية غاية في الأهمية وهنا يحضر البعد الاجتماعي في هذا المنجز الذي لا ينأى عن هموم الإنسان ومعيشه اليومي لذلك نجد النص يرافق اليومي والواقعي ويتناغم مع سرد يؤرخ للأحداث الكونية ويظهر هذا بجلاء في عنوان كبير “كورونيات” شمل لمحات قصصية يرصد خلالها كل ما واكب زمن الوباء كورونا من سوء تدبير للمرحلة في سخرية لاذعة تنم عن عبثية واستهتار كبيرين  يقول في نص بعنوان استثناء ص: 29

 في دورتهما، رافق المستشار العون لتوزيع الإعانات 

أعط لهذا نصيبه وهذه أيضا…..

 ليسكته، سلمه حصتين وودعه بكلمتين، 

إثرها وزع الباقي على كل أفراد أسرته 

وفي نص الأولى في الآه يقول في الصفحة ذاتها: 

جاءت الأوامر بأن توزع الإعانات على المحتاجين والمحتاجات 

عند التوزيع، قدم اللواتي نام في فراشهن. 

ينفي القاص هنا تحقيق قيمة العدالة الاجتماعية خلال فترة الوباء حيث تتسع الهوة  بين الطبقات ويبرز الفقد وتظهر الفاقة والحاجة لأن زمن العطاء والرخاء يتوقف ويحل مقامه زمن الموت والمرض، ولا يقف النقد عند السلطة التنظيمية بل يشمل حتى الأشخاص داخل المجتمع الذين خالفوا الاحتياطات ولم يلتزموا بتعليمات السلطات المحلية والمنظمات الصحية يقول في ص: 32

 أغلقت المقاهي والمتاجر والدكاكين والإدارات…. 

وانتشر البيع بالتقسيط في الأزقة بدون كمامات

 وفي خضم بحثه عن إنسان الوطن ووطن الإنسان يصور القاص في لقطات مختلفة (الحياة السياسية/ المجتمعية) داخل المجتمع ويجعلها لوحة كاريكاتورية معبرة يقول في ص:22

 اجتمع الرئيس وأعضاء المجلس الترابي لتدارس المشاكل وتأهيل المنطقة،

 أكلوا الكفتة في (محطة الاستراحة) 

أما هؤلاء الذين يمنحون حقوق أصواتهم المدنية زمن الانتخابات دون مسؤولية  أو وعي فهم يأدون أدوارا تكمل مسرحية هزلية يدلي فيها الأحياء/ الأموات اجتماعيا بأصواتهم متوارين خلف أسماء مفقودة وهو ما يشي بمنتهى الوجع الذي ينفي كل ديموقراطية في المشهد السياسي حيث ممارسة الحق الانتخابي

 طقس يلفه الغموض والعبثية.  

ولا يغفل القاص شخصيات الهامش المسحوقة داخل المجتمع إذ يمجد عامل النظافة ويمنحه تأبينا أدبيا ينم عن مكابدة مريرة وعناء أمر في سبيل تأمين لقمة عيش دون راحة فيكون مصيره الهلاك، يقول :في نص بعنوان: 

موت موظف

 من جيب المعطف المثقوب، جذبوا رسالة عون نظافة وجهها لرئيسه

 مكتوبة بخط مرتعش بسيط 

سيدي أريد الحصول على إجازة   ص: 40

إنها شخصيات تعاني، تكابد الفقر والتهميش والإهمال وتتعرض للإهانة يقول: في نص آخر بعنوان

 عقد فراغ

–  وقفوا أمام بيتها، قالوا غير صالح للسكن، ليس وفق التصميم…،

 –  الأرضية صلبة والسقف هش… نخاف أن ….

 –  تمتمت….إني وحيدة…

 – لم يشفقوا عليها، حطموا السياج والحديقة، دمروا ال….

–  خرجت باكية في يدها مفتاح البيت. ص:34

 ونجد المبدع هنا مسكونا بهموم المجتمع وتطلعات مواطنيه، هؤلاء الذين يبنون أحلاما ويرغبون في عيش كريم ووطن آمن ،عادل ، يحقق لهم الكرامة الإنسانية وهم حين يفقدون الأمل في تحقيق كل هذا أو بعضه تراهم كما الصورة الآتية، التي يرسمها للشباب منهم يقول في ص:34

 مظاهرة

 خرجت الأحلام إلى الشارع في وصف طويل، تتجول… 

في حين لبث الشباب في منازلهم يتفرجون

في إشارة ذكية إلى فقدان الأمل في التغيير، والخضوع للأمر الواقع والتفرج على واقع محتوم يفرض على الجميع ويدعوهم إلى الاستكانة والاستسلام. ورغم كل هذا يسكن  الوطن جهة القلب عند المبدع وعندنا نحن القراء، نحبه ونريده جميلا، محتضنا، متقدما. 

وغير بعيد عن المجتمع تحضر الذات بانكساراتها ومشاعرها وتنكشف عورات النفس الإنسانية من خلال لقطات سردية مقتضبة تكثف شعورالإنسان في مختلف الأوقات، كالاعتراف بالحب الذي قد يرميك في سلة المهملات، يقول: 

  قرار

لأني قلت:أحبك…أحبك…أحب…ك

بادرت إلى التهجم علي…. رميي بالجنون ودسي في سلة المهملات    ص:  15

 والغدر الذي يوقع صاحبه في شراكه المنصوبة يقول في ص: 19

 مصيدة

نصبنا فخاخا في الطريق في الطريق

واختفينا خلف أكمة نراقب

كان أخي أول الطرود.

 أو الهجر والخذلان كما في نص : هجر

 كانت تمسك ابنتها الوحيدة

تتمايل يمينا ويسارا بفعل ازدحام وهدير الحافلة،

 في رأسها أحلام وأحلام

 تدمع

 لأن زوجها تركها بدون مأوى

 أو تأنيب الضمير يقول في نص” ما الذي يفعله؟”

 ملامحه بارزة،

 وجهه مسحة حزن،

 حين انتهى…. تراءت له الطريق،

 تشتت تركيزه في أغنية وتاريخ طويل،

 فقط بقي ظل المذنب كنقطة عبور.ص: 48

 النفاق الاجتماعي وازدواجية المعايير التي تسقط قيمة الوفاء، في نص بعنوان ” تلصص” يقول:

 الكلب الذي يسبني الآن ، هو الكلب الذي يظل يبصبص بذيله، حين يراني ينبح كلما غبت عنه. ص:51

 لم يكن النص القصصي في هذا المقام إذن ذو اتجاه واحد حيث سلك اتجاهات ثلاثة: محاورة الذات والمجتمع والبحث عن قضايا النص بإيجاز دون تكلف  في أسلوب سردي بسيط  يعتمد الإشارة والتكثيف

 وينأى عن الصورة المغرقة في الخيال، حيث يختار زاوية التصوير من حياة واقعية واجتماعية ومعاناة ذاتية  وهذا ما يجعل النص شاملا جامعا مانعا للكل في الجزء، هذا الجزء ليس إلا القصة القصيرة جدا 

بوصفها جزء من أجناس سردية عديدة تتشابك معها في عناصر وتحتفظ مع ذلك بإمكانية الاختلاف المعاصرة التي أخرجتها إلى الوجود.

[1] د. حميد لحميداني، القراءة وتوليد الدلالة، تغيير عاداتنا في قراءة النص الأدبي المركز الثقافي العربي ،ص : 14

[2] عز الدين الماعزي،” نقطة ونهاية السطر” قصص قصيرة جدا، الدار المغربية العربية للنشر والطباعة والتوزيع،2024، وسنحيل بعد هذا على جميع صفحات العمل موضوع القراءة في المتن  

[3]  R .Barthes  ,leçons  P :17

Visited 47 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

ميلودة العكرودي

كاتبة مغربية