غاستون باشلار: أمبادوقليس (1)
ترجمة: سعيد بوخليط
جَسَّدَ علاج الموت لأمبادوقليس فوق جبل إتنا ارتقاء بشعرية للنار. تفوَّقت الصورة حينها على الفعل .لقد أسَّس هذا التفوُّق فعلا شعريا أبديا.
ليس موت أمبادوقليس مجرَّد حادثة بالنسبة إلى تاريخ الفلسفة .لذلك، ما الذي يبقي على صورة أمبادوقليس في الحياة الروحية لكل متأمِّلٍ في الحياة والموت، ثم كل حالم بالنار؟ لا يتعلق الأمر حتما بتاريخ مغامرات حياة مجتمعية، ولا أيضا فلسفة متناثرة بين طيات شذرات فكر فلسفي يُصَنَّف خطأ باعتباره منتميا إلى متون فلسفة أولى. الأمر ليس كذلك! يعتبر أمبادوقليس واحدا من أكبر الصور الشعرية للإفناء. نتيجة فعل أمبادوقليس، فالإنسان عظيم مثل النار، وأكبر ملهم حقيقي لفعل تراجيديا كونية.
مأساة أمبادوقليس غير متوقِّفَة على جدليتي نعم ولا. يسري مفعول السَّلب على الأفكار، وليس الصور. تتضاعف جدليات التَّأويل .ألا يعني الانقطاع إلى النار، التحوُّل إلى نار؟ أو بالأحرى النجاح كي تصبح لا شيئا. انتقال كبير من مَهَابة الشُّعلة صوب مَهَابة اللاشيء .أو أكثر من ذلك، أليست هذه النار الكبيرة، الشاملة، تأمينا بخصوص تحقيق تطهير كلِّيٍّ؟ لكن، ألا يعني تحقيق التطهير سبيلا نحو انبثاق ثان؟ ألم ينطو قلب هذا الفيلسوف على جانب من آمال طائر العنقاء؟ هكذا تنفتح جملة تأويلات؛ وإذا أثقلنا كاهل مأساة الفيلسوف بتأويله من خلال فلسفته، فلسفة تنتقل من خلال عدَّة تشكُّلات أخرى، تغدو إبانها جلّ التحوُّلات ممكنة، تمثِّل كل واحدة منها موضوع تأملات فلسفية شاردة. من استساغ مختلف الممكنات –لأنَّه يلزم استساغتها جميعها- بوسعه الولوج إلى نفوذ شعرية للنار، هنا تحلم الأفكار. يمكن تحديد مختلف هذه التأملات الشاردة باعتبارها تحيل على أمبادوقليس .إنَّها في مرحلة ما قبل – أفعال لن تنتقل إلى الممارسة الفعلية، تآلفات حسَّاسة بين التوتُّرات وكذا المخاوف. يعرفها خلال أوقات معينة كل حالم كبير بالشعلة .سأقدِّم لاحقا شهادات بهذا الخصوص.
لا يتحقَّق هذا الإغواء بالنسبة إلينا، سوى من خلال الفعل الحرِّ للفيلسوف .إنَّه كامن، ندرك إمكانه، نحلم دوما بتبلوره، ويشكل إمكانية للإنسان الحرِّ .أمبادوقليس، بطل الموت الحرِّ وسط النار، يفتح أمامنا هذه التأملات الشاردة ويحافظ عليها داخلنا. يتجلَّى هنا مصير إنساني، هو مصير صورة. توجد ساعات تلزمنا النار خلالها كي نتخيَّل النار. لقد أمسك بأمبادوقليس مصير للصور.
هكذا، يقف فيلسوف يلقي بنفسه وسط الموت، مقابل كل الفلسفات أرادت إخبارنا بأنَّه قد ألقي بنا وسط الوجود. حتما، الولادة والموت تقديس للحظة. لكن الولادة تتأتَّى لنا خارجيا. للمرة الأولى، أمبادوقليس حرٌّ عندما ارتمى وجهة الموت.يلزم على شعرية للزمان، دراسة مثل هذه اللحظات الحاسمة.
تصرُّف أمبادوقليس لحظة فوق قمة. تتآلف هنا الحروف الأربعة الكبيرة .ينبغي على شعرية النار رفع نبرة تلك الحروف .لا يكفي قط التفسير النفسي، لكن بناء على حروف شعرية كبيرة ضمن سلطة الشعري نفسه. اللغز واضح: هل يمثِّل فعل الإرادة العظيمة عند قمة جبل النار، وضعية إنسانية أو حادثة كونية؟ حينما نريد أن نجعلها مأساة للإنسان، سنضاعف الاستعدادات النفسية، وكذا عروض ماقبل المشهد .تغدو الأسباب البعيدة فعَّالة كالأسباب الأخرى التي تحرِّك المأساة .علم النفس الفصيح، بتطبيقه وسائل صغيرة، ينحرف بنا عن سخاء النهاية. يظل الفيلسوف، حسب منظور هذا التفسير النفسي، إنسانا مهزوما. يتمُّ تقديمه مثل مواطن محبَطٍ، وزعيم سياسي مهجور. نبتدع إذن إحدى مظاهر مأساته الاجتماعية التي يمسك نسيجها بنفسيات خاضعة. نتيجة مختلف هذه الأصول الصغيرة لتحليل نفسي وهمي يستنزف خيال علماء النفس الدراما الاجتماعية، يغيب توقُّد الصدق الشعري .ينبغي رفع النبرة بغية الانتقال مبدئيا من النفسي إلى المسرحي. إذا لم يتناول المحلِّل النفسي المعطى المسرحي كقيمة شعرية، لن يتمكن قط من وصف ذلك الانتقال. كم المجهودات غير المجدية التي بذلها الكتَّاب المسرحيون بهدف تهيئ المشهد الأخير، وكذا وضع التاريخ تحت الأسطورة! جرَّاء تواتر حضور الشخصيات المخادِعة، والصبيانية – ملوك ونساء- نغفل عن الشخصية المحورية المتمثِّلة في بُركان إتنا. كيف نباشر إذن تحليلا نفسيا للبركان، الكائن المنادِي، ويبدي سعيا وسخطا، ثم ينام مع نوم الفيلسوف، ويستيقظ حينما يستيقظ الذكاء الكوني للفيلسوف؟ يراكم الكاتب المسرحي وقائع مرتبطة بالدراما النفسية، بينما هناك توطُّد للدراما الكونية، بحيث يلبِّي الفيلسوف نداء البركان وليس تلك المتاعب البئيسة لحياة الإنسان.
يرفض البركان الضحيَّة البسيطة، أو تضحية أيِّ إنسان، بل يريد أساسا أمبادوقليس. منذئذ، أضحت هذه الدراما الوجودية اسما لأمبادوقليس وجبل إتنا ثم تآلفا بكيفية سرمدية، فلا يمكننا أبدا استحضار أحدهما دون الثاني. من أراد التأريخ لموت الفيلسوف بالاعتماد فقط على تواريخ انفجارات البركان، فلن يحظى سوى باهتمام ضئيل من طرف الشاعر. .لا تحتاج الأساطير إلى التاريخ مادامت هي مستمرة، وتعثر على حياة جديدة بمجرَّد اكتشاف الشاعر صور جديدة قصد توضيحها.
أساطير القمم ثابتة. موهبة بروميثيوس في جبال القوقاز، بينما أمبادوقليس فقد ألقت به نار الجبل بأربعة رياح من السماء: تصبح قمة الجبل كائنا إنسانيا ضمن سياق تلك الأساطير. ويعكس حقا جبل إتنا عند أمبادوقليس قمَّة الإنسان وكذا العالم.
إنَّها القمَّة من تخلق هذا الانفراد، تشرف على البحر، البحر الوحيد، الذي يحلم دائما كبار المتأمِّلين بالتسيُّد عليه مثلما ساده أبطال الثقافة.
يبقى شاعر على منوال إدغار بو ينحدر من ساكنة العالم الجديد، في الحاجة إلى فضاء البحر الأبيض المتوسط كي يضفي على تأملاته الشاردة الكونية نُبْل الأفكار الأثَرية. ألا يمكن تخيُّل إدغار بو عند قمَّة جبل النار، بغية إعلانه عن يوريكا(ه) (ماوَجَدَه)! عند هذه القمَّة بوسع كائن، أكثر من مجرد إنسان، رؤية كل شيء، والإحاطة بالعالم عبر مختلف أبعاده، كي يدمج ضمن نفس الرؤيا، رؤيا أولى، الغرب والشرق، الشمال والجنوب، كل مايستيقظ ويغرب: ”انطلاقا من قمَّة جبل إتنا يَجُول حوله بعينيه بأريحية متأثِّرا أساسا بتنوُّع وتعدُّد اللوحة. يستدير بسرعة حول كعبه، ممتدِحا إمساكه بالمشهد البانورامي من خلال وحدته الفاتنة. لكن، كما الشأن في قمَّة إتنا، لم يستوعب قط دماغ أيّ إنسان وحدة الأفق المذهلة، بالتالي لاتمتلك وجودا وضعيا بالنسبة للإنسانية، مختلف الاعتبارات التي يمكن أن تنطوي عليها هذه الوحدة.لاأعرف بحثا واحدا أبرز هذا الارتفاع بسطح الكون (أستعمل هذا المصطلح بناء على تصديقه الأكثر رحابة والوحيد شرعيا) (1).ألا يشكِّل ذلك تمجيدا غير معتاد قط لمثالية جبل إتنا.
هامش:
Gaston Bachelard :Fragments d une poétique du feu (1988).PP :131-1
(1) :Edgar poe.Eureka ;trad .par charle Baudelaire.paris.Michel Lévy.1864.P.5.