نص حكائي من السودان.. النَّوْ: بِرِيدْنَكْ

نص حكائي من السودان.. النَّوْ: بِرِيدْنَكْ

 صلاح الأحمر

المكان: قرية (عِدِيدْ السُّرَه) في محافظة الجزيرة بوسط السودان.

الزمان: حقبةٌ تمتد من منتصف ستينات القرن العشرين حتى منتصف السبعينات منه.

بطلُ حكايتنا اسمه التِلِبْ ود عَجَبِينْ ولا أحد يناديه سوى باسم (النَّو) الذي اشْتُهر به بين الناس. كان شخصا نحيفاً ضئيل الحجم ضامر البنية ، يمشي مسرع الخطى وهو يتمايل محركا رأسه يمنةً ويسارا كمن يتلفت متوجساً أو هارباً من مطاردةٍ لا توجد إلا في خياله. تخطى الخامسة والأربعين عاماً بل ربما هو في خمسيناته، لكنه يبدو كشابً في الثلاثين لولا الشيب الذي علا هامته وغطى فوديه.

النو شخصيةٌ غريبة الأطوار،في حديثه ميوعةٌ بادية تسائل رجولته فطريقة كلامه أقرب لأسلوب النساء ،لدرجة أن البعض يتهمه بالشذوذ مع أنه لم يثبت قط أن ضبط بالجرم عياناً بياناً. يمازح هذا ويشاغب ذاك كمن يبحث عن خطيئةٍ لم يرتكبها ولم يسبق أن صرح بها علانيةً.

اشتهر النو بأنه دائما ما يحمل حبات الودع في جيبه المليء بالغرائب والعجائب من علكةٍ وبخورٍ وعملاتٍ معدنية تحمل صور الملك فاروق ولم تعد صالحة للتعامل منذ أن نال السودان استقلاله عن الاستعمار الثنائي المصري البريطاني في عام 1956.

يجلس النو القرفصاء ويسحب حبات الودع من جيبه الواسع الممتد بعرض صدره ويدعوك كي يقرأ لك طالعك ويكشف لك ما خفي من أسرار عن حياتك ، مستقبلك، المال، الزواج، الحظ،الأهل، الاصدقاء والأعداء، ثم قصص القلوب والمغامرات وحكايات العشق الممنوع.

يختم تنبؤاته بصمتٍ عميق لا تشوش عليه إلا حركات عينيه إذ تدوران في محجريهما بسرعة ٍملفتةٍ وكأنهما كرتان زجاجيتان في لعبةٍ ضمها صندوقُ ساحرٍ من زمنٍ سحيق .يرفع النو الجلسة بضحكةٍ طويلةٍ مخنثة ويفاجئك بلمسةٍ مفاجئةٍ في خاصرتك وهو يقهقه عاليا قائلاً لك: (بِرِيْدَنّكْ)، أي أنك أثير لدى بنات حواء وأنهن يحببنك.

كان النو شخصيةً فريدةً من نوعها ، يبدو وكأنه قادمٌ ٌمن عالم الأساطير والقصص الخيالية . لم يكن الناس في القرية قادرين على تصنيفه ، فقد احتاروا في أمره، هل هو مجذوبٌ من عيال الله لا يدرك أحدٌ سره، أم هو درويشٌ كسائر الدراويش في بلدٍ يهرب فيه ملايين الناس من حياة الضنك وشظف العيش وقسوة الظروف وقلة الحيلة إلى أحضان الخرافات والانغماس في صفوف حركاتٍ صوفية تعتاش من تشوهات واقعٍ أليم وتقتات من بساطة الناس ومآسيهم، وتستغل جهلهم وتمتص دماءهم بإثقال كواهلهم بما هو فوق طاقاتهم.

النو حالةٌ نادرة من نوعها لامثيل لها في الواقع ولا نظير لها في الحكاوي، كان مزيجاً عجيباً لنفسٍ بشريةٍ معذبةٍ في الوجود، وروحٍ إنسانيةٍ هائمةٍ في متاهات الكون الشاسعة. لم يستطع أيٌ كان أن يدرك كنهه ولا أحدٌ ادّعي أنه تمكن من سبر أغواره العميقة وعوالمه المبهمة. يظهرُ تارةً ثم يغيب لمدةٍ تطول أو تقصر لكنه حاضرٌ دائماً في مواسم الأعراس وزمن الحصاد عندما تكتنز المطامير بعطاء أمنا الأرض غلةً وأماناً وفرحاً ورضىً، وحين تفيض النفوس بكرم الضيافة وتكثر الخيرات في بيئةٍ ترتبط معيشتها و أفراحها وكل طقوس حياتها بمواسم الحرث والزراعة والحصاد.

عاش النو مع الناس مسافرا لا يكل بين القرى والحلّال (جمع حِلَّه وهي القرية الصغيرة أو الفريق أو الحارة في القرية)، متنقلاً من فريقٍ إلى حوشٍ ثم دار. ينزل مع أسرٍ بعينها يختارها بعنايةِ خبيرٍ في لمس طيبوبة أفرادها ، فيقيم بينهم لفتراتٍ متقطعة يختفي بعدها بلا سابق إخطار ودون أن يعرف أحدٌ إلى أين ذهب. كل ما يعرفه الناس أنه سائحٌ جوال ينحدر من حلة (طرفة ود الشبلي) إحدى حلّال(الضهاري- أي محيط المراكز)الصغيرة المنتشرة في أرض الجزيرة بين النيلين الازرق والأبيض.

يرتدي النو على امتداد العام في حره وبرده جلباباً متسخاً من قماش ٍ خشن تخاله من نسيج (التيل)الابيض المائل للصفار يلبسه الافندية والمدرسين في أردية قصيرة ورثوا عادة ارتدائها من الخواجات إبان فترة الاحتلال الانجليزي ، أو أولاد جون كما يسميهم السودانيون. لم يكن النو يغيٌر ذلك الجلباب على امتداد فصول العام حتى تحول لون قماشه من (الدمورية وزن عشرة) السمراء إلى لون التراب من كثرة ماعلق به من غبارٍ وأوساخٍ وكأنه ممسحةٌ للأرض .

في حله وترحاله وتجواله بين الحلّال والقرى كان النو محلَّ ترحيبٍ وقِبلة محبةٍ أينما نزل . يجتمع حوله الصغار قبل الكبار يستمعون بشغف شديد لحديثه الفكه وحكاياته الآسرة ونبواءته الساحرة ولم لا بعض بذاءاته المغلفة التي تثير عاصفةً هستيرية ًمن الضحك في مجتمعات تغلب عليها روح الحشمة ويغطيها وجه الحياء وتحيط بها روعة الستر وعفة اللسان.

كانت حلقاته المفضلة بين النساء اللاتي يفجرن مكبوتاتهن ويجهرن بالمسكوت عنه في حضرة النو بلا مكابحٍ أو قيود. تعلو ضحكاتهن فوق أسوار البيوت دون مجونٍ أو تعمدٍ في وسط اجتماعي لا ترفيه فيه سوى المذياع وتجمعات الأنس البريئة والحكي الذي لا ينقطع بقصصه ونميمته وحتى فضائحه.

كان الغموض يحيط بشخصية النو وتشعباتها في المكان والزمان الممتدين بلا حدودٍ أو شروطٍ في ذلك الفضاء الذي يمنحك الاحساس بأن الحياة تمضي بطيئة ورتيبة لدرجة أن الناس يخلقون من كل حدث مناسبة للتجمع والكلام الذي لا ينتهي.

كان البعض يعتقد أن النو مملوك ٌ للجن ينطق بما يملونه عليه ،بينما كان هناك من يعطف عليه باعتباره من عطايا الرب، وآخرون يكرهونه لاقتحامه حرمات البيوت وتسلله إلى مجالس النساء اللائي لم يكن ينظرن إليه كبقية الرجال. أما البعض فيرونه من الأولياء الصالحين وعباد الله الذين لا يعلم سرهم إلا خالقهم . وهنالك من يجزم بأنه دجالٌ صغير يقتات من غفلة النساء وعاطفتهن ويعيش على هبات الكرماء من بسطاء الناس.

كان النو يقيم في القرية التي يحل بها لفترة قد تمتد إلى أسبوعٍ أو أكثر قليلا. وأينما حل كان يصطحب معه ثلاثة صناديق كبيرة من الزنك الملون بالزخارف تبدو ثقيلة الوزن ولها عدة أقفال محكمة الإغلاق ،كان النو حريصاً على ألا يغفل عنها في يقظته ومنامه ،يحمل مفاتيحها تحت جلبابه الفضفاض ويخفيها في حزام سرواله الداخلي. كان أغلب الناس يعتقدون أن تلك الصناديق محشوةٌ بالذهب والنقود والعجائب مع أن أحداً لم تتاح له رؤية محتواها.وبسبب هذا الاعتقاد تعرض النو عدة مرات لمحاولات اعتداءٍ ونهبٍ من قبل قطاع الطرق، لكنه في كل مرة كان ينجو بأقل الأضرار والاصابات وسلامة صناديقه العجيبة من السرقة.

مضت أعوامٌ عديدة غادرت فيها البلد نحو بريطانيا لاستكمال تعليمي ،حيث مكثت هناك لمدة تجاوزت الخمس سنوات . لم تنقطع صلتي بالمكان وناسه الطيبين من أهلٍ وجيران وأصدقاء. كانت الرسائل البريدية وسيلة التواصل الوحيدة في ذلك العهد بيني وبين جذوري . ظللت أسأل باستمرار عن مختلف الأشخاص غريبي الاطوار الذين كان يؤثثون مدارات قريتنا وما أكثرهم، ديّان، عنبر، حواء كباتو ، كتيرة مراة المغو، تكل، فكي حسن، اسحق ستربا والنو صاحب هذه الحكاية.

كان شقيقي الأكبر من هواة كتابة الرسائل وتضمينها الأخبار المفصلة لكل أهل القرية ،ذلك المجتمع الصغير الذي يعرف فيه الناس بعضهم فرداً فردا.

في إحدى المرات تلقيت رسالة ثقيلة الوزن من كثرة أوراقها ، كنت منشغلا حينها بالإعداد لامتحان نهاية عام دراسي فلم أفتح تلك الرسالة وتركتها جانبا لأتفرغ لقراءتها عقب الامتحانات. بقيت الرسالة موضوعة على الطاولة التي تتوسط غرفة الجلوس، تطل على ناظري في كل لحظة وكأنها تلح عليّ بأن أفتحها فلربما تحمل أخباراً مهمة لا تحتمل التأجيل.

قاومت تلك الرغبة الملحة ورفضت كل وساوس العقل وإغراءاته . كنت مرهقا تلك الليلة فاستغرقت في النوم مبكرا وأفقت في منتصف الليل منزعجا إثر حلم رأيت فيه النو يخاطبني بنبرة حزينة وهو مطرق جالساً في مكان تحيط به المياه من كل جانب . قال لي هل وصلتك أخباري؟

ترى ماذا كان يقصد بهذا السؤال؟ مددت يدي إلى مفتاح الضوء قرب سريري ،نهضت مسرعاً وتناولت رسالة شقيقي حسن. كان كعادته يستهلها بالسلام والسؤال عن الحال والمآل ويضمِّنها أخبار الأسرة والجوار وشلة أصدقائي الذين تركتهم خلفي ثم يحشوها بأخبار أهل كل القرية، من غادرها ومن تزوج ومن طلّق ومن خلّف ومن رحل عن الدنيا وكل التفاصيل الدقيقة.

أخذت أقفز بين سطور الرسالة متلهفاً لأجد تفسيرا يلجم فضولي تجاه كلام النو في ذلك الحلم.

بلغت الصفحة السادسة ولم أعثر على مبتغاي، تجاوزت السابعة بقراءةٍ سريعة وأدرت الصفحة الاخيرة في عصبيةٍ زائدة بعد أن كدت أيأس من وجود أي إشارة إلى النو. وفي آخر سطور الرسالة بعد التحية والسلام ،قرأت جملة تقول (النو تعيش انت عليه رحمة الله).

يا الله نزل الخبر علي كالصاعقة ودار أمامي شريطٌ طويل من ذكرياتٍ وصور وحكاياتٍ كان فيها النو قاسماً مشتركاً مع المكان والزمان وحكاياته بين الناس منهم وإليهم. تذكرت في تلك اللحظة نبوءته الغريبة حين قال لي ذات مرة ستعيش كل حياتك غريبا وبعيدا عن الاهل والديار.

عدت إلى البلد في عطلة دراسية بعد عامين منذ أن غادرتها ، لم يفارق النو خيالي وكان من بين أول أسئلتي بعد وصولي . قيل لي فيما قيل أنه كان يعبر النهر من قريتنا (عِدِيَدْ السُرّه) إلى الضفة المقابلة قاصدا حلة (رِهِيدْ السُنُطْ). كان الوقت خريفا في زمن (الدميرة) أي لدى الفيضان حين يمتلئ النيل الأزرق الهدار بحمولة مهولة من مياه الامطار التي تهطل في هضاب الحبشة فيتضاعف حجمه وتتباعد ضفتاه.

كان النو بين ركاب عبّارة خشبية تقليدية تحركها المجاذيف. تسع في جوفها البشر والانعام والدواب التي تحمل البضائع وصناديق النو الثلاثة . كانت الحمولة فوق طاقة العبارة التي لم تستطع الصمود بسبب تمايلها إثر اهتزازاتٍ مفاجئة أحدثتها حركة الدواب.

حاول قائد المركب ومساعده انقاذ الموقف بمناوراتٍ حثيثة عبر المجاذيف والدفة لتثبيت مسارها الذي بدأ يتأرجح ويتلاعب به التيار الجارف لعنفوان النهر.

تسربت المياه من جنبات العبّارة الى داخلها وحدث هرجٌ ومرجٌ وفوضى عارمة بين صراخ الاطفال وعويل النساء وجلبة الرجال الذين قفز بعضهم ممن يجيدون السباحة إلى النهر أملا في انقاذ القارب ،لكن الأقدار كانت هي صاحبة القرار .انقلب المركب في ثوانٍ معدودة وغاص سريعاً إلى أعماق النهر . مات من غرق ونجا من عام وجرف الموج صناديق النو إلى وجهةٍ مجهولة لتزداد غموضاً فوق غموضها إذ لم يعرف مصيرها إلى الأبد. أما النو فقد بقي عالقا ً في أذهان الناس من خلال سيرته التي تعملقت حتى غدت أسطورةً تغذيها حكايات الإنسان من واقع الحقائق ومن بخار الخيال البشري الذي لن ينضب إلا بنهاية الوجود.

الرباط – 24 يونيو 2025

شارك هذا الموضوع

صلاح الأحمر

أديب وإعلامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!