أحمد الرمح: لم يعد خطاب الاستفراد والإلغاء و”المظلومية” ينفع الظلاميين
حاورته: فاطمة حوحو
في هذا الحوار، الذي خصنا به المفكر أحمد الرمح، يتحدث لقراء “السؤال الآن” عن إطلاق مبادرة تسعى لتأسيس حركة تنويرية عربية جديدة، باعتبار هذه المبادرة حاجة وضرورة مجتمعية ملحة لنهضة حضارية لمجتمعات المنطقة العربية. وينتظر عقد المؤتمر التأسيسي للحركة في أوروبا خلال أمد قريب، وذلك بمشاركة نخبة من المفكرين والباحثين العرب من مختلف البلاد العربية، يتطلعون للمساهمة والاجتهاد في مناقشة وتنسيق مبادئ وقيم التنوير والتوافق على مضمونها وبرامجها الإجرائية والعملية.
أحمد الرمح باحث وكاتب سوري مهتم بشؤون الإسلام السياسي، شارك في نشاط لجان إحياء المجتمع المدني في سورية، وفي تأسيس “ملتقى الحوار الوطني السوري”، وله العديد من الكتب في موضوع التنوير الإسلامي. وهو عضو في “المنتدى العالمي للإسلام الديمقراطي”، وشغل منصب مدير “مرصد الشرق الأوسط وشمال إفريقيا”.
* تحضرون لمؤتمر حول التنوير هل يمكن لكم إعطاءنا فكرة عن هذا المؤتمر، ومن الداعي لها، ومن سيشارك فيه، وماذا سيطرح من مواضيع؟
– خلال وجودنا في أوروبا وتواصلنا مع عدد من منظمات المجتمع المدني، التي تعمل على اندماج اللاجئين السوريين خصوصا، والمسلمين عموما، في المجتمع والقيم الأوروبية، طرحتُ فكرة انعقاد أول مؤتمر للتنويريين العرب. وبعد ما لاقت الفكرة ترحيبا كبيرا من المنظمات، شرعوا في البحث على تبنيها. ومن خلال تواصلنا معهم استطاعت هذه المنظمات التفاعل مع أعضاء بالبرلمان الأوروبي. ونالوا موافقة مبدئية على الاستفادة من دعم، لا أقول دعما كاملا، بل هو نوع من الدعم للفكرة. ونتيجة مباحثات طويلة انطلقت منذ سنتين، لكن المؤتمر تعثر لسببين ولم يلتئم، السبب الأول وصول جائحة كورونا، وبعدها اندلاع الحرب الأوكرانية. وأخيرا تمت الموافقة على انعقاد المؤتمر. وسيشهد حضور ما بين عشرين إلى ثلاثين مفكر تنويري مقيمين بدول الاتحاد الاوروبي وباقي أوروبا. في الحقيقة هناك أسماء كبيرة، تتوزع ما بين سوريا وموريتانيا والمغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر، وكذلك من الأردن وفلسطين وأقطار الخليج العربي، ما يمثل عشرين مفكرا تقريبا، سيتمكنون من الحصول على تأشيرات للحضور. وستكون على جدول أعمال المؤتمر ثلاث مسائل أساسية.
– المسألة الأولى: التقاء هؤلاء التنويريين وتعارفهم، لأن أغلبهم لا يعرفون بعضهم إلا من خلال الكتابات.
– المسألة الثانية: الاتفاق على منهج مشترك للعمل التنويري، فكما تعرفين، أن كل واحد منهم يشتغل بطريقته الخاصة. لقد قمنا بإعداد منهج لعمل التنويرين، وهذا المنهج سيعرض على المشاركين لتكون مناسبة لأعضاء هذا الفريق لإبداء ملاحظاتهم والقيام بتعديلات، حتى تحصل المصادقة عليه ويصبح إطارا عاما للعمل التنويري.
– المسألة الثالثة: وهي مهمة أيضا، إنشاء مركز دراسات للتنويريين العرب، وموقع إلكتروني ينشر هذه المساهمات. بالنسبة لمركز الدراسات جرى تأسيسه قانونيا، وتم تسجيله في الاتحاد الأوروبي مع كندا والولايات المتحدة. أما الموقع فهو تقريبا شبه جاهز، ولكن سيعرض على المؤتمرين لإبداء الآراء.
في مركز الدراسات والموقع الإلكتروني سيكون هناك مقال تنويري، دراسة قصيرة تنويرية، أبحاث تنويرية، إضافة إلى لقاء مرتين كل شهر، عبارة عن ندوات مع مفكرين تنويريين يتم بثها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويوضع رابطها على الموقع.
مسألة أخرى، وهي مهمة جدا، تتصل بالعناية والاهتمام بالتنويريين الشابات والشباب. بمعنى فسح المجال لهم للكتابة، وإجراء دورات تعليمية لهم حتى يصبحوا في المستقبل كُتّاباً. ولدينا فقرتين أساسيتين، عبارة عن “نوافذ” في المركز وفي الموقع، هي “مواهب تنويرية”. أي إذا كان هناك شاب لديه فكرة تنويرية، سنقوم بمساعدته في ترتيب الفكرة وكيفية صياغتها. إضافة إلى دورات تأهيلية سنعمل على تنظيمها كي يصبحوا كتابا باحثين ومقدمي أفكار وبرامج.
طبعا، هناك رجال أعمال سنعتمد عليهم كي يغطوا لنا نفقات “الويب سايت” الذي نرغب في إنشائه. ضمنها تغطية تعويضات الاستكتاب وأجور العاملين في الموقع. حتى لا نضطر إلى الاعتماد على جهات محددة، قد تحاول أن تفرض علينا أجنداتها، وحتى يبقى كل كاتب ومجموعة الكتاب التنويريين أحرارا في طرح الأفكار.
هذه فكرة عامة، إن شئت، حول المؤتمر وما سينتج عنه، كان مقررا عقده في نهاية أبريل الحالي، اليوم أطوار الحرب الأوكرانية متواصلة، لكننا وحتى الآن لم نتوصل بأي تأكيد أو تأجيل بهذا الصدد والاتجاه.
* لماذا إثارة قضية التنوير للنقاش من جديد، ما مدى أهميتها، وهل تعتقد أن النخب العربية قادرة اليوم على التوصل إلى خارطة طريق لتغيير الصورة الحالية عن التطرف الإسلامي وانتشار تياراته وتنظيماته التي لعبت دورا سلبيا في الثورات العربية؟
ــ طبعا، مجال التنوير اليوم مهم جدا. لماذا؟ فكما تعرفين، مرت المنطقة العربية خلال العقدين الماضيين بأعمال إرهابية، وأغلب هذه العمليات والإرهابيين الذين قاموا بها، يتحدثون باسم الإسلام. ونحن نريد أن نقول إن الأديان عامة لا توافق على الإرهاب، وليس من منهجها الإرهاب. ولذلك ما نريد قوله هو أن هناك مسألة أساسية في مسألة التدين. نحن هنا نتكلم عن المسلمين تحديدا في حالة ما بعد الصحوة الإسلامية التي بدأت مطلع السبعينات. وأعتقد أنها انتهت بـ”الربيع العربي”. هناك حالة إسلاماوية أفرغت الإسلام من محتواه ومضمونه الإنساني. بمعنى آخر هناك خواء إنساني في الخطاب الإسلامي. يعني دائما نواجه إقصاء وإلغائية.
مسألة أخرى، هي أن الأديان تقوم على التشاركية، والإسلام يدعو إلى التعددية. “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ”. يعني أن الإسلام أقر بالتعددية. وبالتالي فثقافة الإلغائية الموجودة عند المتطرفين والمتشددين والجاهلين بالإسلام، هي ثقافة مرفوضة ولا يقبلها الاسلام. بل إن الإسلام يدعو إلى الثقافة التشاركية. “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا…”، لتعارفوا هذه، تبدأ من الزواج وتنتهي بفتح المجتمعات على بعضها، وهي التشاركية. فالإسلام يرفض الإلغائية. ودائما يقول للآخر “قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ”.
إننا نعمل على إحياء المقصد الإنساني في السلوك الإسلامي، وهذا ضروري جدا. واليوم لم يعد العالم قرية صغيرة، بل أصبح العالم كله بين يدي أي مواطن موجود في أي مكان من خلال الهاتف الذكي.
*هل ترون أن هناك مجالا للمفكر العربي كي ينافس القوى المحافظة في عقلنة المجتمع العربي، بعيدا عن التطرف والجمود؟
ــ نعم، اليوم يستطيع الكاتب والمفكر التنويري أن ينافس المدرسة التقليدية والمدارس الإسلاموية المتطرفة. رغم أنه يشكو من قلة المنابر. فنحن لا نجد منابر متاحة، حيث أن كل مؤسسة إعلامية لها أجندتها وتابعة لدولة ما. وهذه الدول ليس من مصلحتها أولا الخصومة مع هذه التيارات، ولا أن تفتح منابرها للتنويرين إلا فيما ندر، يعني، أحيانا يحصل ذلك بمثابة عملية “مكياج”. أما اليوم فبإمكان الكاتب التنويري والمفكر التنويري أن يقدم رسالته بشكل أفضل من أي وقت مضى. لسببين:
– السبب الأول هو أن مرحلة الإرهاب والتطرف المتوحش الذي قدمته “القاعدة” من خلال عملياتها الإرهابية في بداية هذا القرن، وفي العقد الماضي.
-والسبب الثاني، هو فشل الإسلام السياسي في إدارة “الربيع العربي”، بعد أن تسلط وسطا عليه، ثم خاب، بعد أن حول الربيع العربي إلى خريف، بل إلى شتاء قاسٍ. وبالتالي اليوم المجتمع صار مهيأ ومتهيئا أكثر كي ينصت إلى التنويرين. اليوم التيار التنويري أصبح يطرح ويعرض يوما بعد يوم الأفكار التنويرية التي أضحى لها قبول في المجتمع، خصوصا بعد أن أصبحت المجتمعات – كما أوضحت سابقا – كلها منفتحة على بعضها البعض، من خلال وسائل التواصل. وبالتالي فالأفكار المتطرفة واللا إنسانية، والأفكار الإلغائية، التي ترفض الآخر، لم تعد مقبولة، لا هي ولا أصحابها.
من هنا يعني تكون الساحة أفضل من أي وقت مضى. وإذا لم نكن نتوفر في السابق على منابر إعلامية، تساعدنا في بسط أفكارنا، فإن مواقع التواصل اليوم، وعلى اختلاف أنواعها وتنوعاتها. يستطيع التنويري بواسطتها أن يوصل خطابه إلى فئات محددة، سواء كانت فئات كبيرة أو صغيرة من الناس.
*كيف يمكن تقييم فشل تجربة تيارات الإسلام السياسي في قيادة ثورات واتفاضات “الربيع العربي”؟
– الحقيقة، إن الإسلام السياسي في “الربيع العربي” فشل فشلا ذريعا. صحيح حتى الآن يخجل الإسلام السياسي من إعلانه لهذا الفشل. ولم يقم أي فرع من فروع الإسلام السياسي، على امتداد هذا الشرق، المسمى بالوطن العربي، وأنا أسميه “الشرق البائس”، لم يقم بأي مراجعات بهذا الشأن. إنهم ما يزالون يكابرون، لأنهم تربوا على ثقافة الاستعلاء وعدم الاعتراف بالخطأ.
لقد أيقن المواطنون في هذا “الشرق البائس” أن الإسلام السياسي لديه بأس شديد في المعارضة، ولكن في المقابل، لديه بؤس شديد في السياسة، وفي إدارة الدولة. هذا من جهة، ومن جهة ثانية لم يعد الشارع والمجتمع يصدق حركات الإسلام السياسي وتياراته، التي لم يعد بمقدورها المضي في استغلال ما يسمى بـ”المظلومية” التي لاقاها من الأنظمة الديكتاتورية والمستبدة. وقد كانت تشكل له حاضنة. لقد أدى الفشل الذي حصل في “الربيع العربي”، إلى جعل روايات الإسلام السياسي مع خطابهم العاطفي، وخطاب الإلغاء والاستفراد، روايات وخطابات غير مقبولة. ولذلك نستطيع القول إنه رغم المآسي، التي نتجت عن “الربيع العربي”، أنه انطوى على حسنات كثيرة، في مقدمتها أن هناك قناعة عند غالبية الرأي العام، ولا أقول كل الرأي العام، أن الإسلام السياسي لم يعد صالحا، لا للمعارضة، ولا لقيادة الدولة. وأن المواطنة بمعناها الإنساني ومقاصدها الإنسانية هي الأهم، وعلينا أن نكون مواطنين متشاركين في كل شيء، بغض النظر عن الانتماء لهذه الطائفة والدين، أو الانتساب لتلك الإيدولوجية.
– وماذا عن نظرتكم من قضية المرأة والفئات المهمشة في المجتمع العربي؟
– أكيد إن التيار التنويري يرفض التقاليد والأعراف التي قيدت المرأة باسم الاسلام، وأدخلتها في سجن اسمه الدين، والدين منه براء. ولذلك يعمل التيار التنويري بشكل كبير على مسألة منح المرأة حقوقها وفق ما قدمه الدين الحنيف. أما الدين الموازي فهو دين يضطهد المرأة. ويقوم بأسرها تحت ذرائع مختلفة. إن كل النصوص التي راجعناها والتي تسيء للمرأة، وجدناها من إنتاج الدين الموازي، وتتعارض مع الدين الحنيف.
أما موضوع الطفولة فنحتاج إلى تربية حديثة. تربية تنشئ الجيل القادم نشأة علمية عقلانية، تقوم على المعارف الحديثة، وليس على الطاعة الأبوية التي ترسخ مفاهيم الأعراف والتقاليد التي هي مرفوضة عموما. كونها تتعارض مع الدين الحنيف، وواضح، نحن كتيار النويري نرفضها.
ــ لكن كيف تنظر إلى واقع اضطهاد مفكرين ومناضلين تنويريين بالعالم العربي، ومنها بعض الحالات التي تجاوزت السجن والتنكيل، لتصل حد الاغتيال والتصفية، هل تعتقد أنه بالإمكان مواجهة مثل هذا العنف، سواء الآتي من الأنظمة أو من القوى المتطرفة والظلامية، وكيف السبيل إلى ذلك؟
– إن الاضطهاد ضد التويريين، الذي يخرجونه الآن من الصندوق، ليس بدعة جديدة، لقد بدأ منذ أخذ الدين الموازي ينشأ ويتكون ليخرج عن خط الدين الحنيف. إن له إرهاصات منذ “العهد الراشدي”، أيام عثمان بن عفان، حين تمثل الإرهاص الذي كان لأبي ذر الغفاري، الذي رفض أن يتحول الإسلام إلى أوليغارشية من قبل الأمويين، ثم توسع أكثر بالاغتيال الداعشي لغيلان الدمشقي بفتوى رسمية. وهكذا امتد عبر التاريخ. لكنه في عصرنا هذا أصبحت الأنظمة، التي تعتمد الدين الموازي، تستعين بقوى الظلام والإرهاب والتطرف من الدين الموازي، لإسكات الأصوات التنويرية. بدأ هذا منذ تكفير طه حسين، واغتيال فرج فودة، ومحاولة قتل نجيب محفوظ، وانتهاء بعمليات اغتيال ما بعد الموت، التي قام بها الإعلام الذي ينافق الدين الموازي والأنظمة المستبدة، ويمهد الطريق لخفافيش الظلام. ونستعرض هنا ثلاث حوادث عاصرناها قريبا.
– حادثة وفاة المفكر التنويري محمد شحرور، وما فعلوه بعد وفاته باتهامهم له باتهامات كاذبة. لكن محمد شحرور بقي وذهب خفافيش الظلام إلى جحورهم.
– وما فعلوه بعد وفاة الكاتبة نوال السعداوي، حتى أن بعضهم وصلت به الجرأة إلى أن يدخلها للنار، وكأنه رب العالمين.
– وأخيرا وليس آخرا، ما حدث مع المفكر سيد قمني.
وقبل هذا وذاك، حادثة الاغتيال، التي لم توظف حتى اليوم، لنصر حامد أبو زيد. فالأنظمة المستبدة عبر التاريخ تتحالف مع سدنة الدين الموازي. وهذا التحالف الذي أسميه “زواج المتعة”، الذي يسمح للخفافيش من المتطرفين باضطهاد واغتيال الفكر التنويري.
أما كيف سنواجهه؟ فنحن لا نملك سوى الكلمة. الكلمة، وصدق الكلمة، والجرأة في الجهر بها. وسنبقى ثابتين. لأنه منذ بدء البشرية حتى اليوم، السُّنة التي نسير عليها كتنويريين هي سنة الأنبياء والمرسلين، والأنبياء والمرسلون جميعا تعرضوا للاضطهاد، وتعرضوا للاختبار. وهذا معروف في تاريخ النبوة. فليس لنا إلا الكلمة، وسنبقى من خلال الكلمة نقاوم، والمستقبل بالتأكيد هو للتنوير والعقل.