التدخين.. لكل دماغ مزاج وسيجارة

التدخين.. لكل دماغ مزاج وسيجارة

عبد الرحيم التوراني

يصادف آخر أيام شهر ماي تخليد اليوم العالمي لمكافحة التدخين، ولا أعتقد أن الغاية من وراء إحياء هذا اليوم تحقق أهدافها كاملة في التحسيس بالآثار السلبية للتدخين وأضراره على الصحة العامة، والمخاطر التي يسببها على الزراعات وأشجار الغابات التي تتعرض للحرائق بفعل بقية لفافة سيجارة تلقى من غير انتباه. حيث لا زالت عائدات التبغ والسجائر تسجل أرقاما عاليا في الميزان التجاري لكل حكومات الدول. ولا زالت الإحصائيات تفيد بمخاطر التبغ، حيث أن التدخين يقتل شخصا واحدا على الأقل كل ست ثوان في العالم، بمعدل يزيد عن 7 ملايين قتيل في العام. 

التدخين حرام.. التدخين حلال

وبالرغم من أن التدخين في المجتمع المغربي عادة ممجوجة، بل مرفوضة، إلا أن الإحصائيات تقول إن المغرب من أعلى بلدان حوض البحر المتوسط استهلاكا للتبغ.

وإذا كان ينظر للتدخين كعادة دخيلة على المجتمع المغربي، تصنف ضمن العادات السيئة، فمن النادر  جدا أن تجد فقيها أو شخصا متدينا يدخن. يذكر التاريخ أنه لما وصل التبغ إلى المغرب، في عهد الدولة السعدية (القرن السادس عشر الميلادي)، سارع فقهاء المغرب إلى تحريم تعاطي التدخين.  هي نفس الفتوى مقتبسة عن علماء الأزهر في مصر، الذين حرموا التدخين ، مستدلين بالآية التي تتضمن “حرمت عليكم الخبائث”، وما دام التدخين يضر بالصحة فهو من الخبائث “التي حرمها الله تعالى على هذه الْأمة المطهرة”.

وفي العقود الأخيرة تم إلزام شركات التبغ عبر العالم بطباعة عبارة  تحذيرية على علب السجائر، مثل “التدخين مضر بالصحة”، و”التدخين يقتل”، ثم أضيفت إلى علب الدخان صور مخيفة لرئات وحناجر منخورة بالتدخين وأصابها التلف بالسرطان.

مغربي التبغ بمصر

في كتابه “ملامح القاهرة فى ألف سنة” كتب الأديب جمال الغيطانى عن التدخين وبدايته بمصر، وذكر أن والي القاهرة أصدر أوامره بمنع تعاطى الدخان فى الشوارع والدكاكين، وشدد بالإنكار والنكال بمن يفعل ذلك. وكان أول من أدخل التدخين إلى أرض الكنانة مغربي اسمه أحمد الخارجي، قبل الحملة الفرنسية إلى مصر 1798، ثم أجاز محمد على باشا زراعة التبغ فى أنحاء مصر، فهوجم وكتبوا عنه “تاجر التبغ على عرش مصر”، كما سمي الخذيوي إسماعيل بـ”ملك التبغ”.

كان المصريون يمضغون التبغ. وهو ما استغربت له لما شاهدت أول مرة الاتحادي عبد الرحمان فضلي (بوبو)، رئيس الاتحاد الوطني للمهندسين المغاربة، يمضغ السجائر بدل تدخينها كبقية الناس.

لقد تعامل المجتمع المغربي مع التدخين كعادة اجتماعية تخص الرجال، أما النساء فتدخينهن كان غير مقبول، واقتصر فقط على تدخين “الشيخات” الراقصات والمغنيات، والنظرة إليهن ظلت محافظة واستنكارية، تدخل في نطاق السلوك الشاذ وتشبه الإناث بالرجال، وتعد سلوكا سلبيا ومنحرفا وغير أخلاقي يخالف الأصالة والتقاليد العربية الإسلامية.

وفي كتاب “الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى” للمؤرخ المغربي أحمد بن خالد الناصري (1835- 1897)، نطالع أن علماء فاس أجازوا طلاق المرأة من الرجل إذا تعاطى التدخين.

وبعد انتشار التدخين بين الفتيات، فإن المغربية تتحاشى التدخين وهي تمشي في الشارع تمسك بيدها سيجارة أو تضعها بين شفتيها كالرجال، وكل النساء تقريبا يدخنن في البيوت، أو هن جالسات في المقاهي والمطاعم أو داخل السيارات. وقد زادت نسبة المغربيات المدمنات على التدخين، كما هو الشأن في اسبانيا وفرنسا وتركيا وغيرها…

تبغ وشيشة وكيف

وعلى الرغم من وجود قانون يحظر التدخين في الأماكن العامة في المغرب، إلا أنه لا يطبق، كما  يمنع الإشهار والترويج للسجائر، بعد أن أثبتت الدراسات العلاقة القوية بين إعلانات منتجات التبغ والسجائر وبين الإقبال على التدخين، إلا أن إشهار السجائر الإلكترونية منتشر باللوحات الإعلانية في الشوارع المغربية. وأضيفت السيجارة الإلكترونية إلى تدخين “الشيشة” التي حاربتها السلطات بعض الوقت، ثم غضت عنها الطرف، لتنتشر بعدها مقاهي الشيشة بالتدريج.

في السابق قبل وصول السجائر الأوروبية، كان المغاربة القدامى يدخنون الكيف، وفي السبعينيات شنت الدولة حملات توضح مخاطر تدخين الكيف، إلا أن الكيف بقي منتشرا، خصوصا بالقرى والبوادي، ثم أصبح شباب المدن يخلطون الكيف بالتبغ في ورق لفافات مشهور باسم “زيغ زاغ”، إن لم تكن الخلطة بالحشيش. وقد تصادف لافتة داخل مقهى تشدد على منع تدخين الكيف والمخدرات.

وتعتبر سيجارة “مارلبورو” هي العملة المتداولة بين السجناء داخل السجون بالمغرب، وقد وردت إشارة في مقال نشر بأمريكا سنة 1999 أنه “بحلول سنة 1600 أصبح التبغ شائعا ويستخدم كعملة للتبادل والمقايضة. “لقد كان التبغ مثل الذهب تماما”.

رؤساء العرب والدخان

بالنسبة للرؤساء العرب، كان الرئيس المصري جمال عبد الناصر يدخن أكثر من 60 سيجارة يوميا، في حين عرف الرئيس أنور السادات بإدمانه تدخين الغليون.  واشتهر الرئيسان الجزائري هواري بومدين والعراقي صدام حسين بتدخين السيجار الذي كان يصلهما ضمن هدايا الزعيم الكوبي فيديل كاسترو.

لم يكن المغاربة يعرفون أن الملك الحسن الثاني مستهلك للتبغ إلا بعد أن شاهدوه في التلفزيون، وهو يدخن في إحدى جلسات القمة العربية التي احتضنتها الرباط في السبعينيات، ثم تآلفوا مع ملكهم أثناء ندواته الصحفية، وهو يمسك بلفافة على رأسها مصفاة للتقليل من نسبة النيكوتين، وقد توفي الحسن الثاني بمرض صدري.

أما والده الملك محمد الخامس، الذي اقترب المغاربة من تقديسه، درجة تخيل صورته على صفحة القمر، فقد كان يدخن بالسر، كما جاء في تحقيق صحفي نشرته مجلة “لوجورنال” عن سيرته.

وكانت مجلة “جون أفريك” الفرنسية نشرت صورة للملك محمد السادس في شارع بباريس، وهو يحمل علبة سجائر بيده من نوع “مارلبورو”، وظهر في الصورة برفقة صديقه حسن أوريد، الناطق الرسمي السابق باسم القصر الملكي. بعدها شاهدوه سنة  2017 على شاشة التلفزيزن يدخن بمقر الاتحاد الإفريقي، حينها كتبت صحيفة “الأسبوع الصحفي” أن “صحفيا مغربيا، حكى في سياق حضوره حفل قبول المغرب في الاتحاد الإفريقي، أن الملك محمد السادس من فرط ضغوط المناورات، أشعل سيجارة ودخنها”.

بعض أدباء العرب والتدخين

بالرغم من تقدمه في العمر، ظل الكاتب الراحل إدريس الخوري وفيا لكثير من عاداته اليومية، ومنها ارتياده لنادي الكرة الحديدية المقابل لكلية الآداب بالعاصمة، المشهور باسم “الشاربان”، وإدمانه لسجائر “كازا سبور” الشعبية، وكان “بّادريس” أحيانا يتغزل في التبغ الأسود المحلي الشعبي ضد “السجائر البورجوازية”.

أما الكاتب محمد زفزاف فكان يدخن سجائر “أولمبيك الحمراء” السوداء، قبل أن يبدلها بسجائر “المغرب” (اختفت هذه الماركة اليوم). ذات مرة لاحظت إكثار زفزاف من التدخين، حين أشعل سيجارة بعقب أخرى، رد علي صاحب “أفواه واسعة” قائلا:

– أنا لا أبلع الدخان، فقط أدوره داخل فمي ثم أنفثه”.

ومن المعروف أن محمد زفزاف توفي بعد إصابته بسرطان الفك، نفس الداء الذي أصاب صديقنا الكاتب باللغة الفرنسية محمد خير الدين، وكان يدخن سجائر “مارلبورو” الحمراء”، أما الشاعر أحمد الجوماري والقاص بشير جمكار فكانا من أصحاب “الأولمبيك الحمراء”،  وهي السجائر التي كانت مفضلة للشهيد الاشتراكي عمر بنجلون، في حين كان الزعيم الشيوعي علي يعته يفضل الاستمتاع بالسيجار الكوبي، وتغيب الصور التي ظهر فيها يعته بالسيجار، كون تدخينه يعد ضمن نطاق الأبهة البورجوازية والبذخ الفاحش.

وكان صاحب “الخبز الحافي” محمد شكري، ينوع في السجائر، بين التبغ الأسود والأشقر، من “فافوريت” و”كازا سبور”، و”التروبو” المخصصة للعسكر، وكانت متاحة للبيع للعموم بأرخص سعر ، إلى السجائر الأمريكية على أنواعها، وقد لفظ أنفاسه ذات فجر على سرير المستشفى العسكري بالرباط بعد معاناة مع سرطان الرئة.

أما الشاعر الراحل محمد الطوبي فكان مدمنا على سجائر “ماركيز”، وهي من التبغ المحلي المخلوط، ويفضلها الحشاشون مع  سجائر “لاكي سترايك” التي استهدفت في البداية النساء الأمريكيات، كما تظهر ذلك الحملات الإعلانية. وقبل إنتاج السجائر الخفيفة “اللايت” التي أقبلت عليها أغلب المدخنات، فضلت النساء سجائر “لوكي” الخضراء، لأن بها نكهة نعناع باردة، إلا أن الأبحاث العلمية في الولايات المتحدة الأمريكية أثبتت أن هذا النوع من السجائر هو أخطر على الصحة العامة من السجائر العادية.

اعتراف حشاش على الهواء

عندما تعرفت على الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم فوجئت بشراهته الكبيرة في التدخين، وكان يبرم أيضا لفافات حشيش، ولم يتردد مرة خلال برنامج تلفزيوني في الاعتراف بتعاطيه لمخدر الحشيش، حين خاطب مقدم البرنامج قائلا: “أنا حشاش.. ولو دلوقتي فيه حشيش هشرب عادي”. وعندما وجد نفسه ضيفا على سيدة مثقفة ببيتها في الدار البيضاء، أثنى أحمد فؤاد نجم كثيرا على شخصية تلك المرأة ووقارها، وكانت يهودية مغربية، لكنه أعجب بها أكثر لأنها كانت تدخن السيجار الكوبي. ولنجم قصيدة يقول في مقدمتها “دلي الشكارة/ جنب الشكارة/ واقعد يا حفني/ ولعلك سيجارة”.

 ولعل الشاعر اللبناني بول شاوول هو أشهر المدمنين على التدخين بين الأدباء والشعراء العرب، يذكرنا بالمغني الفرنسي سيرج غينسبورغ، فبول شاوول لا تفارق السيجارة شفتيه، وقد تعرض في السنوات الأخيرة لأزمة صحية تطلبت خضوعه لعملية جراحية مفتوحة على القلب، لكنه عاد سريعا إلى التدخين، وقد أخبرني وأنا أجالسه في مقهى “روسا” بمنطقة الحمرا ببيروت، أنه ورث عادة التدخين من والدته المرحومة، وأنه يشبهها في ذلك، هي التي أدمنت التدخين حتى الموت، وهي تحتضر طلبت قبل أن تغيب، أن تمس بشفتيها “سيجارتها الأخيرة”. بول شاوول، الذي يقال عنه إنه يفتتح الصباح بسيجارة ويودع الليل بسيجارة، ونادرا ما تجد بول بدون سيجارة مشتعلة أو مطفأة، ونادرا ما تجد له صورة بدون تلك “الشمس التي تشرق بين أصابعه”،  وقد خص ديوانا كاملا للسيجارة عنونه بـ “دفتر سيجارة”.

 

Visited 71 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد الرحيم التوراني

صحفي وكاتب مغربي، رئيس تحرير موقع السؤال الآن