الزعماء السياسيون والنقابيون وسؤال القداسة

الزعماء السياسيون والنقابيون وسؤال القداسة

محمد بولعيش

  للقداسة وجهان: وجه “سماوي” ووجه “بشري”!..

  فالوجه “السماوي” المتعدد للقداسة يأتي أساسا من الأديان بتعدد مصادرها، موحِدة كانت أم وثنية، حين تُصبَغ على أناس صفات وتمنحهم “هبات” تجعلهم فوق البشر، يتمتعون بكل أشكال الحصانة التي تحميهم من المراقبة والمساءلة والمحاسبة، باعتبار أنهم يستمدون سلطتهم ويعتمدون فيما يحتلونه من مناصب ومكانات على قوى فوق – بشرية لا تناقَش ولا تحاسَب، بل هي التي تحاسِب وتعاقِب، وصورة الحاكم تأتي على صورتها، فيحاسب ويعاقب ويعتقل ويعذّب ويحرق ويقطع الرؤوس بلا حسيب ولا رقيب، ما دام يستمد حكمه من السماء ويحكم باسمها على البشر !

  قد تختلف التسميات والألقاب من منطقة لأخرى ومن دين لآخر، وتختلف المصادر المانحة للقداسة من جهة لأخرى (كنيسة، كهنوت، مجالس الإفتاء ، رجال دين، “مؤسسات” منظِّمة للحقول الدينية…)، لكن المضامين تبقى متشابهة وعابرة للحِقَب والأزمان: جبروت وتسلط وتركيع وركوع وتصرف في الرقاب وتقبيل الأرض واليدين، وطقوس قروسطوية مُذِلة للبشر

  “شرعيات” تمنح باسم الدين تارة، وباسم النسب أحيانا، وباسم التاريخ حينا… وكلها تلتقي في بؤرة واحدة: التحكم في العباد وقرصنة أدمغتهم، والتصرف فيهم كعبيد أو أقنان أو رعايا… كيف يمكن أن يصبح بعضٌ من البشر أسيادا على الناس، إن لم يكن هناك قبول بهاته “السيادة” طوعا أو كرها!!! ولا زوال لهاته الأوضاع إلا بزوال أسبابها ومصادرها: فك الارتباط بين الناسوت والكهنوت/اللاهوت، فك الارتباط بين الشأن “السماوي” والشأن البشري سياسةً وتدبيراً، فك الارتباط مع الطقوس العتيقة المهينة، الماسّة بكرامة الإنسان، وتثبيت حق الإنسان في تقرير مصيره إراديا وديمقراطيا!

***

  الوجه الثاني للقداسة هو الوجه “البشري”، حين نجعل من بشر قد يكونون أبلوا البلاء الحسن في فترة ما أو مرحلة ما من حياتهم، ونالوا إعجابنا بكفاحيتهم ونضالهم وصمودهم، وحصلوا على كاريزما معينة، فوضعهم البشر مثلهم في مصاف أهل الكرامات والمعجزات، وبوؤوهم مكانات لا ياتيهم الباطل فيها من بين أيديهم ولا من خلفهم، ونسجوا حولهم حكايات وأضافوا إلى حياتهم الفعلية أحداثا ووقائع، هي من نسج خيالهم لكثرة حبهم لهم إلى حد التبجيل بل والتقديس حتى

 وهكذا يختلط في سِيَر هؤلاء المناضلين الكبار الواقعي بالخيالي، الفعلي بالوهمي، فنجعل من بعضهم مستبدين، نصنع منهم أصناما يتحكمون في الرقاب والمؤسسات، يوزعون فيها الإكرامات والإنعامات ريعا وأتاوات ومراكز، أمام أعين المناضلين القابلين بصمتهم أحيانا وتواطئهم أحيانا أخرى بما يمارس من سلوكات لاديمقراطية ومخططات “مخزنية”، تصل إلى حد دعوة وزير الداخلية لمؤتمر نقابة كانت يوما بديلا تاريخيا لنقابة “خبزية” كان يتحكم فيها مستبد آخر له هو أيضا “كاريزماه” (بفضل نضاله النقابي منذ أيام الحماية واعتقاله حين تضامُن النقابيين المغاربة مع النقابيين التونسيين، واستنكارهم لاستشهاد المناضل النقابي فرحات حشاد سنة 1952)، وكان أحد الزعماء “يؤمن” بأن الملك عليه أن يسود ولا يحكم، وكان يرى في المسؤولين الكبار “قطاطعية” أُدخِل بسببهم إلى السجن

 فكيف تحول قادة مركزيات، كانت مناضلة، إلى مستبدين لا يساءَلون ولا يحاسبون ولا يقدمون تقارير مالية عن أموال تسلموها باسم النقابة ومناضليها على مرأى ومسمع حتى من أكثر المناضلين جذرية وتطرفا؟؟، بل نجدهم يقبلون “الريع” المخصص لهم: تفرُّغا وكوطا وتأثيثا للمشهد القيادي لهاته المركزية أو تلك….

***

  ما سبق أن قلته عن الزعماء النقابيين يكاد ينطبق على الرموز والقادة السياسيين، ما دامت العقلية المهيمنة هي ذاتها، وما دامت الميكانيزمات المحركة هي هي! فلا عجب أن نجد هالات تُرسَم وأحداثا وحكايات تُصنع لتلميع صور شخصيات سياسية إمعانا في التعبير عن حبها والارتقاء بها إلى مصاف الأولياء والصالحين والملائكة تبجيلا وتقديسا، مع رفض كل نقد لها مهما تكن موضوعيته ووجاهته، ورفض “الهبوط” بها إلى مصاف البشر الذين يمارسون فيصيبون ويخطئون !!!

  فهل هؤلاء القادة في حاجة إلى مثل هذا “التضخيم” في الشخصية والتقديس ليكونوا محترمَين مقدَّرين؟ ألم يكن نضالهم الوطني والسياسي ضد الاستبداد، وانتماؤهم التقدمي كافيين لتحصينهم وإشعاعهم؟ هل هم في حاجة إلى من يدافع عنهم – وقد تكون النتيجة أحيانا عكس المراد – ليكون لهم اعتبار بين مواطنيهم؟ وهل مسألة نقدهم والوقوف عند هفواتهم وأخطائهم أمر فيه إهانة لهم أو تنقيص من قدرهم إو مساس بكرامتهم، وهم بشر كما قلت لهم مزاياهم ولهم كبواتهم؟

  لِمَ تقام الزوابع كلما يتم نقدهم وبموضوعية في معظم الأحيان؟ لِمَ كل هذه العصبية والتعصب كلما مُست “زغبة” من رأسهم؟ لِم يُستظَلّ بهم ويوظَّفون كغطاء لبعض الممارسات والأنشطة السياسية لإعطاء “البرهان”على التشبت بخطهم (وكأن الأحزاب ليست لها خطوط أقرتها مؤتمراتها!)، وجعلِ كاريزماهم منقذا من النقد والمساءلة (أما المحاسبة فبعيدة المنال!)؟ أليس هذا ما تؤاخذ عليه “حكومة صاحب الجلالة” و”معارضة صاحب الجلالة”، أي اتخاذ الملك مظلة لممارسات خاطئة؟؟

  ألا يستحق هؤلاء القادة أمثال عبد الرحمان اليوسفي ومحمد بنسعيد وعبد الرحمان بنعمرو وغيرهم التقدير والاحترام؟

نعم يستحقونه بكل تأكيد، لكنهم مع ذلك يبقون بشرا مثلنا يصيبون ويخطئون، لكن أخطاءهم أبرز و”أضخم” لمكانتهم وريادتهم، ومن حق كل المناضلين ديمقراطيا التموقف من هذه الأخطاء ونقدها، حتى لا يبقى المناضلون البسطاء وحدهم عرضة للنقد والمحاسبة بل و”التسريح“..

  ما أوردته هنا جاء غيرة على هؤلاء الرجال ومصيرهم، ويبقون – إلى أن يثبت العكس – نماذج للمناضلين الذين قدموا الكثير لوطنهم شعبهم، سيرتهم مرآتهم، ومع ذلك فلكل فرس كبوة… وأخيرا أقول وأكرر مع من قال: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري (من المدافعين المتزلفين عن حق أو باطل) خطأ يحتمل الصواب!

 

Visited 7 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

محمد بولعيش

ناشط حقوقي