جمهورية النائم بأمر الله

جمهورية النائم بأمر الله

نجيب علي العطار

   دعْ قلبكَ حيثُ أنتَ وتعال إلى لبنان.. لا تحاول إختبار قدرتِه على التحمّل.. فكلُّ القلوب ضعيفةٌ في حضرة بيروت المترنّحةِ بين الأحلامِ والألغام.. احملْ قلمًا أحمرًا وصندوقًا كبيرًا للذكريات ونفسَكَ وتعال إلينا برًّا.. لا طاقةَ للبحر على حمل المسافرين.. وسماؤنا مثقلةٌ بثاني أكسيد الموت.. لا طريقَ تحملكَ إلّا الأرض.. فعظامُ أبنائها المدفونين فيها صلبةٌ جدًّا.. وقلوبُهم كذلك

   قفْ عند حدود الجمهوريّة قليلًا.. ستجدُ عبارةً يُفيدُ معناها أنَّ الجمهوريّةَ اللبنانيّةَ تُرحِّبُ بمجيئكَ.. ولِكَوْنِي لبنانيًا منذ اثنتين وعشرين سنة أجدُ في نفسي بعضًا من الثقة لأطلبَ منكَ أن تشطبَ عبارة “الجمهورية اللبنانيّة” بقلمِكَ الأحمر وتكتبَ تحتَها؛ جمهوريّةُ النائم بأمرِ الله تُرحّب بكم.. اكتبها بخطٍّ عريضٍ يُقرأُ من مسافةِ عشرة آلافٍ وأربعمئة واثنين وخمسين كيلومترًا إلّا سنتيمترًا واحدًا.. لا لشيئ ولكن حتّى لا تُحاكم بتهمة الإستهزاء بمساحة هذه المزبلةِ التي ستدخلُها عمّا قليل.. تلكَ التي يُسمّونها على الأوراق الرسميّة وفي الأدبيّات الدبلوماسيّة بـ “الجمهوريّة اللبنانيّة”.. على كل حال تمسّك بإنسانيّتكَ جيّدًا قبلَ أن تدخلَ.. فكلُّ شيئٍ مستباحٌ على هذه الأرض.. حتى إنسانيّة الإنسان

  إن كنتَ ترغبُ في الحفاظ على ذكرياتكَ القديمة فاكتبها على ورقٍ أبيضٍ واتركه خارج الحدود.. لأنّكَ يقينًا ستَنسى وتُنسى.. سيهولُكَ حالُ الأحياء على هذه الأرض.. ستخمّنُ أنَّ الأمواتَ أكثرُ حياةً من هؤلاء الأحياء.. معكَ الحقّ.. لا حيَّ هنا إلّا اثنين؛ أحدهما مات والآخر يُحتضرُ وحيدًا بين أوراقه.. ستشعرُ بأنّكَ غريبٌ تمامًا عن هذا العالم.. كأنّكَ الحيُّ الوحيدُ في هذه المقبرة.. فتقرّرُ أن تبكي.. لعلّ في دموعكَ ما يؤنسُ وِحشتكَ في غُربتك.. لكنّكَ تحتار في سبب بكائك؛ ألأجلكَ تبكي أم لأجل الناس؟ لستُ قادرًا على تحريركَ من حيرتكَ هذه.. فأنا وأنتَ شركاءُ فيها.. على كل حال، أيًّا كان باعثُكَ على البكاء فهو ممنوعٌ عليك.. فدموعكَ تُزعزعُ أمنَ المواخير الحكوميّة.. ثم ترى أن تكتبَ مشاهداتكَ المرعبةَ على الورق.. لعلّكَ بذلك تنسجُ ذاكرةً صلبةً تبعثُ في نفوس التُعساء بعضًا من حياة.. لكن لسوء حظّكَ لقد صادر أمنُ الإله كل الأقلام.. فالكلماتُ تُهدّدُ استقرارَ الحالة النفسيّة لروّادِ الإسطبل الجمهوري.. وسيُحاكمون كلماتِك بتهمة تخريب الأمن الإجتماعي.. ستُحكَمُ بأن تحيا في وطنٍ لا يصلحُ حتى لأن يكون لكَ منفى

   هنا ستشعرُ برغبةٍ شديدةٍ في الانسحاب الى زاويةٍ ما والجلوس الى صمتكَ العالي جدًا.. دعكَ من هذه الرغبةِ أيّها المسكين.. لم يبقَ في هذا البلد زاوية للحياة.. لقد دوّروا كلّ الزوايا.. دوّروها حتى انقلبَ التدوير الى دُوارٍ جعلَ الناس قِطعانًا هائمةَ تركضُ نحو صوتِ كبيرِهم الذي علّمَهم الجهل.. وأنصحُكَ بأن لا تتبرّم من التدوير والدُوار.. فتبرّمُكَ يمزّقُ نسيجَ المجتمع وصِيَغَ الموتِ المشترك.. وإيّاكَ أن تُحدّثُكَ نفسُكَ بأن تربطَ، من باب الكوميديا السوداء، بين تدوير الزوايا وتدوير النفايات

   في جمهوريّة النائم بأمر الله تُمنحُ الجنسيّة اللبنانيّة لكلِّ البؤساء على هذه الأرض.. كلُّ البؤساء لبنانيّون.. وكلُّ اللبنانيين بؤساء.. هنا حيث يولدُ الإنسان غريبًا في منفى.. هنا حيث نولد في بلدٍ نعيشُ فيه وكلُّ رغبتِنا أن لا نموتَ فيه.. هنا حيث الكثير من الآلهة التي لا يستحقُّ أيٌّ منها أن يُعبد.. هنا حيث سقطت كلُّ المقدّسات.. حتى الله لم يعد مقدّسًا في هذا البلد

   في بلدِ الآلهة الطفيليّة التي تنمو في مستنقعات التاريخِ المزوّرِ يقاومُ الإنسانُ كي يبقى إنسانًا.. نحاولُ أن لا نَنسى فنكتبُ آلامَنا.. ونقسو على أوراقِنا لأنّ الضحيّةَ تُنسى حين تَنسى.. وحتى لا يُزوّرَ تاريخُ أحفادنا بأيدينا فتكون الضحيّة شاهدةً على براءة جلّادِها.. وتكون آلامُها، بذلكَ، أهلًا لأن تُنسى 

Visited 4 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

نجيب علي العطار

كاتب لبناني