لبنان: الفراغ القاتل وفسحة الأمل
د. وفيق ريحان
أما وقد وصلنا الى ما كنا نخشى من الوصول إليه، فلنستعد الى مرحلة جديدة من محاولات إستراداد الدولة والاقتصاد ووحدة الوطن، في ظل الفراغ القاتل الذي تنعكس آثاره المدمرة على جميع مرتكزات المجتمع، حيث يعجز نواب الشعب المنتخبون حديثاً والذين يمثلون جميع القوى السياسية والمناطق والطوائف والمذاهب وقوى المعارضة والتغيير عن التوصل إلى صيغة سياسية تغلب مصلحة الوطن على مصالحهم الفئوية والمذهبية والطائفية، للاتفاق على انتخاب رئيس جديد للجمهورية يتمتع بالمواصفات المطلوبة لتجاوز هذه المرحلة المعقدة، ويكون قادراً على إنقاذ البلاد من أزماته المتفاقمة، بالتعاون والتنسيق مع سائر المؤسسات الدستورية الأخرى ويكون مقبولاً من المجتمع الدولي. وما الارتفاع الجنوني للأسعار والمواد الغذائية الأساسية وتفلت قيمة سعر صرف الدولار الأميركي وانتشار حالة الفوضى الأمنية وتدهور خدمات الإدارة العامة والمؤسسات العامة، إلا الانعكاس الواقعي لهذا الفراغ المميت، في ظل حكومة تصريف الأعمال ذات الصلاحيات الضيقة والقيود المفروضة عليها سياسياً وقانونياً، من أجل إخضاعها لمنطق الفراغ الدستوري ومستنقعه الأمني والاقتصادي والاجتماعي.
لقد استبشر اللبنانيون خيراً بعودة القضاة الذين إعتكفوا لعدة أشهر عن العمل إلى مكاتبهم في قصور العدل، بعدما تلقوا وعوداً من السلطة الحاكمة بتسوية أوضاعهم بما يليق بأوضاعهم المهنية والإجتماعية، إلا أن حادثة الاحتجاج التي قام بها أهالي شهداء جريمة مرفأ بيروت ومناصروهم أمام قصر العدل في بيروت، من أجل التصدي لمحاولة تعيين قاض رديف للمحقق العدلي القاضي “طارق البيطار” خلافاً للقانون وللحقيقة والواقع، ودفاعاً عن استمرارية العمل بالتحقيقات الجنائية في تلك الحادثة المهولة والمروعة، بشكل قانوني وأمني مستقر، ودون أية تدخلات سياسية في شؤون القضاء، قد أعادت إلى الأذهان مشاهد المواجهات الشعبية ضد منظومة الفساد في كل ساحات الوطن، بما تخللها من أعمال عنف سافرة، وجرائم بحق المتظاهرين من أجل لقمة عيشهم وحياتهم الكريمة، وصوناً لحرية التعبير عن الرأي أو المعتقد السياسي في الدولة الديمقراطية، والتي نصت عليها مقدمة الدستور اللبناني والشرائع الدولية لحقوق الإنسان ومحكمة العدل الدولية والمعاهدات ذات الصلة. وإن حادثة اعتقال الناشط “وليم نون” أخ الشهيد في جريمة انفجار مرفأ بيروت، والثائر لحقه في الكشف عن الحقيقة وتحقيق العدالة، قد شكلت صدمة إنسانية وأخلاقية لغالبية الشعب اللبناني الذي تضامن مع أهالي الضحايا منذ الرابع عشر من آب- أغسطس للعام 2020 وحتى تاريخه، بعيداً عن أي شعور طائفي أو مذهبي، وحيث أصبحت هذه القضية بحجم الوطن، بل وتعدت حدوده نحو المجتمعات الدولية ومنظمات حقوق الإنسان على اختلافها، وهي تدخل حالياً في مسار التحقيقات الدولية كجريمة ضد الإنسانية وبسبب وجود ضحايا من الأجانب في هذه المجزرة.
لقد عجزت منظومة الفساد من كبح مشاعر الخوف والقلق عند المواطنين، على مستقبل التحقيقات الجنائية بالنسبة لجريمة المرفأ ولقضية المودعين وتهريب الأموال نحو الخارج، كما عجزت عن تأمين النصاب الدستوري للإتيان برئيس للجمهورية يؤمن لهم الاستمرارية في إعادة الإمساك بالسلطة بالطرق الشرعية والدستورية والديمقراطية، فلجأت الى أساليب القمع البوليسية في أكثر من مناسبة أو قضية حتى في قضايا الفساد الإداري، وهي تحاول جاهدة استغلال حالة الفراغ في السلطة من أجل تكريس النظام الأمني والبوليسي كبديل عن حالة العجز عن الإمساك بمفاصل السلطة بالطرق الدستورية، ومحاولة عرقلة مسيرة القضاء ومحاولة حرف الأجهزة الأمنية التي تحمي البلاد من جميع المخاطر المحدقة بالوطن عن مسارها الصحيح، في خدمة مخططاتهم وأهدافهم الفئوية والمنحرفة عن حفظ النظام العام ووحدة الوطن وأمنه واستقراره الاقتصادي والاجتماعي، باللجوء إلى العنف في مواجهة حالات التمرد والاعتراض على سوء أداء السلطة واستثمارها في خدمة أهدافهم المغرضة.
لقد انتصرت إرادة اللبنانيين في الإفراج عن الناشط “وليم نون”، وهذا الإاتصار هو تجسيد للإرادة الشعبية في مواجهة حالات الانحراف في استعمال السلطة، وتكريس لحرية التعبير عن الرأي ولاستقلالية القضاء عن السياسة، والتعاطف الإنساني والاجتماعي في كل أنحاء الوطن من أجل قيام الدولة المدنية، دولة القانون والمؤسسات والقضاء العادل والمستقل.
إن استمرار الفراغ الرئاسي والحكومي هو لمصلحة معرقلي مسيرة القضاء، واستمرارية التحقيقات الجنائية ذات الصلة بالجرائم المالية، وحالات الإثراء غير المشروع وتبييض الأموال، وعدم ضبط عمليات التهريب عبر الحدود، كما يستثمر هذا الفراغ من أجل إرغام المعترضين على فساد السلطة وسوء أدائها بقبول التسويات الرئاسية والحكومية وفقاً لشروطهم، حتى ولو أدى ذلك إلى المزيد من التدهور الشامل لأوضاع البلاد، على قاعدة “ومن بعدي الطوفان”.
إن استمرارية الفراغ الدستوري تشرع الأبواب لشريعة الغاب في الوطن، وتفسح بالمجال للتدخلات الخارجية في مواضيع الرئاسة وتشكيل السلطات، لكن المجتمع الدولي والإقليمي كما يبدو راهناً، قد لا يكون مندفعاً هذه المرة للاهتمام بالأوضاع الداخلية في لبنان نظراً لتعقيداتها الاجتماعية ولعمق الأزمات المحدقة به، وهنا تبرز أهمية التضامن السياسي والاجتماعي على أوسع نطاق من أجل إنقاذ الوطن، والإسراع بإنجاح الانتخابات الرئاسية، ومن ثم تشكيل الحكومة الجديدة الكاملة الصلاحيات، لتبدأ من جديد مسيرة إعادة بناء الدولة على أسس سليمة قانونية ودستورية والخلاص من حالة الفراغ القاتلة.
إن المسؤولية الرئيسية في هذه المرحلة تقع على عاتق المجلس النيابي للقيام بواجباته الموكلة إليه من الشعب اللبناني بجميع مكوناته السياسية والطائفية والمناطقية بإعتباره ممثلاً للأمة جمعاء، لكن إذا استمر عجز نواب الشعب عن تحقيق أمنياته بالأمن والاستقرار والازدهار، فليبادروا للإستقالة من مناصبهم تباعاً لإعادة إنتخاب مجلس نيابي جديد على قاعدة قانون نتخابي خارج القيد الطائفي وعلى قاعدة النسبية، يكون أشد حرصاً وأمانة وإستجابة لحقوق المواطن، وإعادة تكوين السلطة على أسس من العدالة والمساواة والإنماء المتوازن.