حِكَايَة صَوْتِ صَفِير البُلبُل..!

 حِكَايَة صَوْتِ صَفِير البُلبُل..!

د. محمّد محمّد خطابي 

   يطيب لي أن أدرج  للقرّاء الكرام  من كتابي (رجال ونساء ..طرائف وقصص) طرفة تحمل عنوان: (حكاية قصيدة صوت صفير البلبل) فقد سبق أن تفضّل ذات يومٍ من أيّام الله الخوالي أن سألني أحد الأدباء الأصدقاء الظرفاء عن فحوىَ ومغزىَ ومعنىَ هذه القصيدة الشهيرة التي تُحكى على سبيل الطرفة والدعابة، والمزاح، فقلت: “صوت صفير البلبل” قصّة أشهر من نارٍ على عَلَم، امتلأت بها بطون الكتب والمجلدات، والأسفار  والمصادر  والمراجع، والمظانّ العربية قديمِها وحديثِها، وقعت في عهد الخليفه المنصور الذي كان يقيم مجلساً للشّعر والشعراء واشترط على الشعراء أن يأتوا بقصـيده لم يسمعها قطّ من قبل ويعطيهم عنها وزنها ذهباً.وكان الخليفة ذكياً يحفظ القصيدة اذا سمعها من أول مرّة، وكان عنده غلام يحفظ القصيده اذا سمعها من ثاني مرّة، وعنده جارية تحفظ القصيده اذا سمعتها من ثالث مرّة، فكان كلّ مرّة يأتيه شاعر ويلقي قصيدته يقول الخليفه: إنها قصيدة قديمة وانا سمتعها واحفظها وقام الخليفه وألقى القصيده له فالشاعر متفاجئ لم يصدق، قال الخليفة اذا  لم تصدق فنادوا على الغلام وجاء الغلام وقال الخليفة هل سمعتَ هذه القصيدة من قبل؟ قال نعم سمعتها وقام وألقىَ القصيدة أمامهم والشـاعر لم يحرّك ساكناً، فقال الخـليفه نادوا على الجارية فقال للجارية:  هل سمعتِ هذه القصيدة؟ قالت الجارية نعم وقامت وألقت القصيده، فقال الخليفه للشاعر إذن فأنت تسرق الأشعار أخرجْ ولا ترجع لي فكان كلما يأتيه شاعر عمل الخليفة  نفس الفعل حتى لا يعطيهم الذّهب فالشّعراء أفلسُوا وكانت ألسنتهم رأس مالهم.

   وفي يوم من الأيام عندما كان معظم الشعراء جالسين دخل عليهم الأصمعيّ وقال ما بكم هكذا؟ فأخبروه بالقصّة وقالوا كلّما نعدّ قصيدة بالليل ونأتي لنسمعها للخليفه نجده حافظاً لها هو وغلامه وجاريته فقال الأصمعيّ: إذاً في الأمر حيلة. وفى اليوم التالي أعدّ  الأصمعي قصيدته الشهيرة ودخل على الخليفة في مجلسه متنكّراً واضعاً عباءة على وجهه حتى لا يعرفه أحد فقال للخليفة: عندي قصيدة سألقيها عليك فقال الخليفة أتعرف الشروط؟ قال نعم أعرفها قال فألقها علينا: فصاح الأصمعيّ  صادحاً وقال على مسامع الخليفة: (صَـوْتُ صَفِيْـرِ البُلْبُــلِ.. هـيَّـجَ قَلْبِـيَ الثَمِــلِ.. الـمَاءُ وَالـزَّهْـرُ مَعَــاً.. مَـعَ زَهـرِ لَحْظِ الـمُقَلِ.. وَأَنْـتَ يَـاسَيِّــدَ لِـي.. وَسَيِّـدِي وَمَـوْلَـى لِـي.. فَكَـمْ فَكَـمْ تَـيَّمَنِــي.. غُـزَيِّـلٌ عَـقَيْقَــلـي.. قَطَّفْـتُ مِـنْ وَجْنَتِــهِ.. مِـنْ لَثْـمِ وَرْدِالخَجَـلِ.. فَقَـالَ بَـسْ بَسْـبَسْتَنِـي.. فَلَـمْ يَجّـدُ بـالقُبَــلِ.. فَـقَـــالَ لاَ لاَ لاَ لاَ لاَ.. وَقَــدْ غَـدَامُهَــرْولِ.. وَالـخُودُ مَالَـتْ طَـرَبَـاً.. مِـنْ فِعْـلِ هَـذَا الرَّجُـلِ.. فَوَلْـوَلَـتْ وَوَلْـوَلَــتُ.. وَلي وَلي يَـاوَيْـلَلِــي.. فَقُـلْـتُ لا تُـوَلْـوِلِـي.. وَبَـيِّنِـي اللُـؤْلُـؤَلَـي.. لَمَّـا رَأَتْـهُ أَشْـمَـطَـا.. يُـرِيـدُ غَيْـرَالقُبَــلِ.. وَبَـعْـدَهُ لاَيَـكْـتَفِـي.. إلاَّ بِطِيْـبِ الوَصْلَلِــي.. قَالَـتْ لَهُ حِيْـنَ كَـذَا.. انْهَـضْ وَجِدْ بِالنَّـقَـلِ.. وَفِـتْيَـةٍ سَـقَـوْنَنِـي.. قَهْـوَةً كَالعَـسَلَلِــي.. شَـمَمْتُـهَا بِـأَنْـفِـي.. أَزْكَـى مِـنَ القَرَنْفُــلِ.. فِي وَسْـطِ بُسْتَانٍ حُلِـي.. بالزَّهْـرِ وَالسُـرُورُ لِـي.. وَالعُـودُ دَنْ دَنْـدَنَ لِـي.. وَالطَّبْـلُ طَبْطَبَّلَ لِـي.. وَالسَّقْفُ قَدْ سَقْسَـقَ لِـي.. وَالرَّقْـصُ قَدْ طَبْطَبَ لِـي.. شَوَى شَوَى وَشَـاهِـشُ.. عَـلَـى وَرَقْ سِفَرجَـلِ.. وَغَـرَّدَ القِمْـرِ يَصِيـحُ.. مِـنْ مَلَـلٍ فِـي مَلَـلِ.. فَلَـوْ تَـرَانِـي رَاكِـباً..عَلَـى حِمَـارٍ أَهْــزَلِ.. يَـمْشِـي عَلَـى ثَلاثَـةٍ..كَـمَشْيَـةِ العَـرَنْجِـلِ.. وَالـنَّـاسُ تَرْجِمْ جَمَلِـي..فِي السُـوقِ بالـقُلْقُلَـلِ.. وَالكُـلُّ كَعْكَعْ كَعِكَـعْ..خَلْفِـي وَمِنْحُوَيْلَـلِـي..لكِـنْ مَشَيـتُ هَـارِباً..مِـنْ خَشْيَـةِ العَقَنْقِـلِي..إِلَـى لِقَــاءِ مَلِــكٍ..مُـعَظَّــمٍ مُـبَجَّــلِ..يَـأْمُـرُ لِـي بِـخَلْعَـةٍ.. حَمْـرَاءْ كَالـدَّمْ دَمَلِـي.. أَجُـرُّ فِيـهَا مَـاشِـيـاً.. مُـبَغْــدِد اًلذِّيَّــلِ.. أَنَـا الأَدِيْـبُ الأَلْمَعِـيّ.. مِنْ حَـيِّ أَرْضِ المُوْصِـلِ.. نَظِمْـتُ قِطعاً زُخْرِفَـتْ.. يَعْجِـزُ عَنْهَا الأَدْبُ لِـي.. أَقُـوْلُ فِـي مَطْلَعِـهَـا..صوت صفير البلبل).

   وبعد ما انتهى الأصمعيّ من قصيدته حاول الخليفه أن يجمع شيئاً من القصـيدة فلم يستطلع إلاّ صوت صفير البلبلي وقال نادوا على الغلام قال: ياغلام هل تحفظ القصـيده؟ قال لا والله فقال: نادوا على الجارية فسألها: ياجارية هل سمعتِ القصيدة من قبل؟ قالت لم أسمعها قطّ من قبل فقال الخليفه: يا أعرابي ما رزقك الاّ من عند لله هات ما كتبت عليه القصيدة قال لقد كتبتها على لوح من الرّخام وأريد من يساعدني على حمله وبعد وزنه للرّخام أخذ الأصمعيّ كلّ ما في خزينة الدولة من ذهب من ثقل الرّخام وبعد ماخرج الأعرابيّ قال أحد الجالسين في مجلس الخليفة والله إنه الأصمعيّ فقال الخليفة: إئتوني بالأعرابيّ فلما جاء قال للأعرابيّ أزل العباءة عن وجهك فلمّا أزالها ظهر الأصمعيّ فقال الخليفة أعد الذهب فقال الأصمعيّ: أرجعه على شرط قال الخليفة: ما هو؟ قال: أن تعطي كلّ شاعر أتاك ثمن قصيدته صوت صفير البلبل..!

   هناك طائر وسيم  يُسمّى فى شمال المغرب “عايشة القرعة” ويُشمّى فى الريف “تقشّرث” وهو طائر وسيم يزورنا خلال فصل الربيع وهو يشبه صقراً مُصغّراً إذ له منقار يشبه منقار الصّقر، وهناك أيضاً عصفور حَسَن الصّوت، عذب الغناء، حلو الزقزقة يُسمّى بالرّيفية (مَنْقَبْ) ويُسمّى فى مدن شمال المغرب  مثل تطوان،والشّاون وطنجة (مَقْلال) كما يُسمّى فى مدن مغربية أخرى مقيلل، ويُسمّى فى بعض البلدان العربية “رُوبين”وكذلك “عصفور الحسّون الجميل” ويُسمّى بالإسبانية El jilguero.. وبالفرنسية Le chardonneret والإنجليزية The goldfinch وقد أصبح صيد هاذين الطائرين محظوراً اليوم لندرته وكنّا في شرخ الشباب وريعانه نصطادهما بسهولة ويُسر بواسطة أداة تقليدية تُصْنعُ من قصَبٍ وقنّب نبات الصبّار تُسمّى بالأمازيغيّة الريفيّة (ارْمَدْوَازْ) وربما تُسمّى فى سائر مدن شمال المغرب ” الخطّار” والله أعلم !..

Visited 36 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. محمد محمد الخطابي

كاتب، وباحث، ومترجم من المغرب عضو الأكاديمية الاسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا