لبنان .. وشياطين دوستويڤسكي!
محمود القيسي
الطيورُ معلّقةٌ في السموات
ما بين أنسجةِ العَنكبوتِ الفَضائيِّ:
للريح مرشوقةٌ في امتدادِ السِّهام المُضيئةِ
للشمس
رفرفْ..
فليسَ أمامَك
والبشرُ المستبيحونَ والمستباحونَ: صاحون
ليس أمامك غيرُ الفرارْ
الفرارُ الذي يتجدّد كُلَّ صباح.
*أمل دنقل
كنت قد قرأت رواية “مقبرة مهددة بالحياة”. قصة شاعر لبناني في السجون الإيرانية يروي فيها تجربته الأليمة رغم “طوارىء النسيان”، مؤمناً بانتصار الجرح على السكين!
في لبنان أصبحنا سجناء وطن وسلطة فاسدة، نعيش حياة مهددة بالمقبرة رغم طوارئ النسيان ورغم طوارىء الجرح والسكين والذاكرة!؟.. سأل الشاعر أحمد مطر أبيه يومًا من الأيام من هم الشياطين يا أبي؟! فقال يا ولدي الشياطين ثلاثة أنواع.. الأول يخاف من آية الكرسي! والثاني يخاف على الكرسي! والثالث يصفق للجالس على الكرسي!. في لبنان تعشعش كل أنواع الشياطين السياسية، والاقتصادية، والمالية، والغذائية، والكهربائية، والهوائية، والمائية والترابية من الحاكم إلى الحاكمية إلى المحكومين.
كتب فيودور دوستويڤسكي رواية “الشياطين”، بعد عودته من المنفى السيبيري، إلى جانب رواية “الجريمة والعقاب” ــــ (1866)، ورواية “الأبله” ــــ (1869)، ورواية “الإخوة كارامازوف” ــــ (1880) أو كما نعرفها “الأخوة الأعداء”!.. رواية “الشياطين”، هي رواية اجتماعية وسياسية ساخرة، ذات بُعد درامي نفسي، ورواية مأساوية على نطاق واسع.. وصفتها الكاتبة الأمريكية جويس كارول أوتس بأنها «رواية دوستويڤسكي الأكثر تشويشًا وعنفًا، وعمله «المأساوي» الذي يبعث على الرضا». ووفقًا لرونالد هينغلي، فإنها رواية دوستويڤسكي الأكثر “هجومًا على العدمية”، و”إحدى إنجازات الإنسانية الأكثر إثارة للإعجاب – بل وربما إنجازها الأسمى – في فن الخيال النثري”، أو كما أعتقد في فن الممكن والحقيقة والواقع المشابه النثري.
ليس هناك أهمّ من الكرامة، ودائماً ما تواجه الشعوب الحرة تسلّط الخوف ورفضه بإسم الكرامة. وإن كانت تجربة العار ليست حادّة كتجربة الخوف، إلا أنها تُبقي الشعوب الحرة متيقظة من أي أذى قد يلحق بكرامتها.
نعم، الشعوب الحرة تستغني عن حياتها دفاعًا عن كرامتها، وذلك كي لا تطأطئ رأسها وتركع. رواية “الشياطين” هي رواية تمثيلية للعواقب الكارثية المحتملة للعدمية السياسية والأخلاقية، التي كانت سائدة في روسيا في ستينيات القرن التاسع عشر. فقد انزلقت مدينة خيالية بأكملها إلى الفوضى، بعد أن تحولت إلى نقطة مركزية لثورة حاولت القيام بها، تحت إدارة المتآمر الرئيسي بيوتر فرخوفنسكي. تهيمن الشخصية الأرستقراطية الغامضة التي يمثلها نيكولاي ستافروجين ـــ نظير فرخوفنسكي في المجال الأخلاقي ــــ على الرواية، وتمارستأثيرًا غير عادي على قلوب وعقول كل الشخصيات الأخرى تقريبًا في الرواية والثورة المتخيلة.
يُقدم الجيل المثالي المتأثر بالغرب في أربعينيات القرن التاسع عشر، والذي تجسد في شخصية ستيفان فرخوفنسكي والد بيوتر فرخوفنسكي ومعلم الطفولة لنيكولاي ستافروجين، على أنه سلف غافل ومتواطئ بائس مع القوى «الشيطانية» التي تستولي على المدينة.
إذا كان الاضطراب هو الانفعال الذي يولد من المعاناة كما يقول سيلفان تومكينز، فإنّ العار هو الانفعال الذي يولد من المذلّة والانكسار والانتهاك والاغتراب. نعم، نحن في لبنان نعيش الاضطراب والانفعال والمعاناة والعار والمذلة والانكسار والانتهاك والاغتراب الذاتي والموضوعي والاستسلام.
نعم، يتحدث دوستويڤسكي في رواية “الشياطين” عن مدينة خيالية انزلقت إلى الفوضى، بعد أن تحولت إلى نقطة مركزية لثورة إجتماعية كبرى حاولت القيام بها، تحت إدارة المتآمرين في الداخل والمتآمرين في الخارج. شيء يشبه ما نعيشه في لبنان هذه الأيام الوجودية أو العبثية أو العدمية إذا جاز التعبير. الواقعية الوجودية والعبثية والعدمية في بلد فقد كل شروط ومواصفات الوجودية في حدودها الدونية وما بعد الدونية وما بعد بعد الدونية. في بلاد تهيمن فيها الاوليغارشيا والمافيات والعصابات الأرستقراطية السياسية والمالية الغامضة الحاكمة التي تمثلها طبقة سياسية وأحزاب متواطئة فاسدة في المجال الأخلاقي والسيادي والوطني والسياسي والاقتصادي والمالي والديني والاجتماعي والمجتمعي. متواطئة على المواطن والمواطنة الضحية، أحزاب سياسية مشبوهة ونُخب فكرية و ثقافية مأجورة تمارس تأثيرًا غير عادي على قلوب وعقول معظم المواطنين وكل ما يتحرك تقريبًا تحت راية وأعلام وأسماء أمراء المحاصصة الطائفية السياسية وشياطينها الروحية من كل الأسماء والصفات والمواصفات والدسائس والمؤامرات الداخلية والخارجية على الأرض وتحت الأرض وفي السماء وفوق السماء. كما يُقدم الجيل المثالي الذكي المتأثر بالغرب في عصرنا الحالي، عصر ما بعد الحداثة الذكية على مقياس التكنولوجيا الذكية وأخواتها، والذي تجسدت في شخصيات “كلن يعني كلن”، على أنه سلف غافل ومتواطئ بائس مع القوى «الشيطانية» التي تستولي على المدينة في ثنائية الرعب في “وحدة” و “صراع” الأضداد في عنوانها الخارجي وقشورها الخارجية. في صراع الأضداد في شكلها الخارجي ووحدتها في المضمون وقطبة الشياطين المخفية في حقيقة الأمر والمضمون والمؤامرات الداخلية والخارجية!؟.
يسترعي العار دائمًا انتباه الذات الأكثر وضوح لنفسها وذاتها. كما يُسلّط العار دائمًا الضوء على الذات، فيولّد دائمًا عذابات الوعي. الوعي الذاتي والوعي الموضوعي. العار هو تجربة أو أختبار الذات لذاتها. حيث إنه في لحظة شعور الذات بالعار تعيش وتموت الذات تجربة الذات لنفسها وكرامة ذاتها.. واختبار ذاتها. واختبارنا!؟. لا أعتقد أن العروض التي نشاهدها في هذه المرحلة العبثية على خشبة مسرح “مجلس النواب” اللبناني مجرد مسرحية عبثية في أنتظار إنتخاب الرئيس “غودو” العتيد. غودو العبثية. أو مجرد مسرحية هزلية على مسرح الدمى المتحركة بخيوط غاية في الدقة وتوزيع الأدوار والأوراق والأسماء والمسميات داخل المجلس أو [الماتركس] المضبوط على توقيت ساعة الشياطين. ما نشهده ونشاهده في مسرحية “إنتخاب رئيس جمهورية” يأخذنا إلى “وظيفة الشياطين”. شياطين القصيدة الملحمية “الفردوس المفقود” التي تلعب فيها الشياطين دور البطولة. ودور الملائكة!؟. كما إن تهافت التهافت النيابي – الرئاسي الذي نشهده ونشاهده هذه الأيام الشيطانية ليس سوى مجرد جس نبض (المريض اللبناني) العتيد ليس إلا. وسرقة للوقت والمريض في إنتظار التشخيص الخارجي قبل الداخلي وقبض فاتورة العلاج الوهمي والأدوية الفاسدة للمواطن الوهمي والوطن الوهمي مقدمًا وسلفًا والمدفوعة في البنوك السويسرية دون وسيط.
ما نشهده ونشاهده في البلاد التي دفنت قبل موتها ليس سوى مناورة رخيصة كما الليرة صعودًا غير آمن وهبوطًا غير آمن. ليس سوى مناقصة سياسية على مقياس وقياس ريختر العرض والطلب والمناقصات الوطنية والمناقصات الأخلاقية السياسية وثقافة البيع والشراء بالأسعار المحروقة على جثة المواطن وجثة الوطن “الحي” في الأفران “الوطنية” والمطابخ “الوطنية” والطحين والخبز الوطني المغشوش الذي يوزع عن روح الوطن والمواطن. ما نشهده ونشاهده ليس سوى حرق بعض الاسماء والمسميات والصفات والمواصفات على مقياس تردد (الصفعات) و(التسويات) و (الصفقات). وارتفاع سعر الدولار أعلى وأعلى على منصة انعدام الميثاقية الوطنية والاخلاق الوطنية والانتماء الوطني. على منصات شياطين الإنس والنمس وشياطين الجان!
لم يعد أمامنا في لبنان سوى ان نردد جزءًا من قصيدة محمود درويش يوميات جرح ” لا تقولي ..! نحن في لحم بلادي.. وهي فينا”… لا، لا تقولي: “وطني ليس حقيبة.. وأنا لست مسافر”.
<
p style=”text-align: justify;”> لا، لا.. لقد باعوا الأرض. وباعوا البحر. وباعوا السماء. وباعوا الجرح وباعوا الحقيبة! ولم يبق لدينا حتى جواز السفر. عذرًا محمود. عذرًا فدوى. لا يتوقف أمر الفساد في لبنان تاريخيًا على الدولة والحكومة وأحزابها ونوابها ووزرائها وإداراتها وننسى ونتناسى الناس في مجتمع طائفي فاسد.. هناك فرد فاسد، ومجتمع فاسد، وأحزاب ونخب فاسدة أنتجت طبقة سياسية فاسدة!. ما الذي يتبقى من أرواحنا بعد واقع كهذا، لتحترق في جحيم السياسات القادمة!؟ لا أحد. لا شيء!. لم تعد المشكلة في لبنان صوت من هنا أو صوت من هناك. هتاف من هنا أو هتاف من هناك. كذبة من هنا وكذبة من هناك. بل بوجد أصوات وصراخ وهتافات عديدة متراكمة في حروب يومية وصراعات مستمرة ومتواصلة كمن يحمل في الداخل ضده ونقيضه وعدوه!. ليس هناك مشكلة في الأصوات والصراخ والهتافات، لكن المشكلة أننا لا نعلم أيهم نحن!؟. في صراعه الأخير مع الحياة. في صراعه الأخير مع الموت. كتب شاعر البسطاء والمهزومين. كتب شاعر “لا تصالح” جلاديك ومن سرق خبزك وثيابك وأرضك وكرامتك. كتب الشاعر الصعيدي أمل دنقل: في غرف العمليات، كان نقاب الأطباء أبيض لون المعاطف أبيض تاج الحكيمات أبيضَ، أردية الراهبات الملاءات لون الأسرة، أربطة الشاش والقطن قرص المنوم، أُنبوبة المصل كوب اللبن كل هذا يشيع بقلبي الوهن كل هذا البياضِ يذكرني بالكفن. فلماذا إذا متُّ يأتي المعزون مُتشحين بشارات لون الحداد؟ هل لإن السواد هو لون النجاة من الموت، لون التميمة ضد الزمن ضد من؟ ومتى القلبُ في الخفقان اطمأن؟ بين لونين.. أستقبل الأصدقاء الذين يرون سريري قبرًا وحياتي دهرًا وأرى في العيون العميقة لون الحقيقة.. لونَ التراب.. لون الوطن!؟