لبنان .. المأساة والمهزلة معًا!
محمود القيسي
“أَثر الفراشة لا يُرَى.. أَثر الفراشة لا يزولُ.. هو جاذبيّةُ غامضٍ يستدرج المعنى، ويرحلُ حين يتَّضحُ السبيلُ.. هو خفَّةُ الأبديِّ في اليوميّ.. أشواقٌ إلى أَعلى وإشراقٌ جميلُ.. هو شامَةٌ في الضوء تؤمى حين يرشدنا الى الكلماتِ باطننا الدليلُ..؟ هو مثل أُغنية تحاولُ أن تقول، وتكتفي بالاقتباس من الظلالِ ولا تقولُ… أَثرُ الفراشة لا يُرَى.. أُثرُ الفراشة لا يزولُ!
*محمود درويش
عندما تزدحم وتتزاحم وتتراكم الاسئلة الوجودية في لبنان هذه الأيام الوجودية والمراحل الوجودية بإمتياز الرعب الوجودي في لبنان الوطن والمواطن والمواطنية.. الوطن الذي يتحلل منهجيًا ويذوب وجوديًا ومنهجيًا.. عندما تتزاحم وتتراكم الاسئلة الوجودية في أشكالها الوجودية الهزلية وتحولاتها الوجودية المأساوية.. حينئذٍ، وحينئذ فقط نتحول معها إلى مجرد كائنات لا ترى غير ما يكشف عنه الضوء كما يقول جبران “النبي”.. ولا تسمع غير ما يُعلنُ عنه الصوت، فأنتم في الحق لا تبصرون ولا تسمعون. وكلما إزداد العقل علماً – كما يقول سبينوزا في رسالة في أصلاح العقل – ازداد فهماً لقواه ولنظام الطبيعة… وكلما ازداد فهماً لنظام الطبيعة ازداد مقدرةً وسهولة على تحرير نفسه من الأشياء التي لا فائدة منها.. في حين نحن في لبنان نزدحم ونتزاحم امام مقصلة منصات الدولار والعملة الصعبة بالسؤال الهزلي الوحيد والأوحد.. بالسؤال المأساوي الوحيد والأوحد في حقيقة مأساة الوطن والمواطن والسؤال الوحيد الأوحد: “كم سعر صرف الدولار الآن”!؟.. والبسمة الخبيثة – الغبية تظهر على وجه المواطن والوطن المهشم الهش دون أن يدري أو يدري إنه يتحلل والوطن تدريجيًا.. ويتحول إلى اشياء أو أشلاء وطن ومواطن.. مجرد أشياء لا تألفها الفراشة.. فلسفة الفراشة.. فلسفة الفوضى..!؟؟
مصطلح تأثير “الفراشة” هو استعارة لفظية تُستخدم للتعبير عن نظرية “الفوضى”، وهي نظرية فلسفية فيزيائية تعتقد بأن الأسباب الصغيرة، لها تأثير واضح على النتائج (المسلكية والسلوكية) على المدى القريب والمتوسط والبعيد. وتعتمد هذه النظرية على ما يسمى بـ”حساسية الظروف الأولية”، أي أن “النظام” يكون حساسًا تجاه المتغيرات “البسيطة” التي تحدث منذ “البداية”. جملة واحدة صغيرة من الترهيب والتخويف، يقولها أب لطفله لكي يمنعه من ارتكاب خطأ، من الممكن أن تنتج في المستقبل إنسانًا غير مكترث بالقانون، وعبدًا لأي شخص صاحب قوة أو تابعًا لأي سلطة قمعية… كيف يكون ذلك؟ بحسب نظرية “تأثير الفراشة”، فإن الأحداث متناهية الصغر، قد تشكّل نتائج هائلة الاتساع. وإن تتبعنا طريق هذه الجملة في حياة هذا الطفل، فسنجد أنها بَنَتْ جدارًا من الخوف في شخصيته، فتصبح تصرفاته مبنية على أساس الخوف لا القناعة، بمعنى أنه قد يتصرف بسلوك جيد، ليس قناعة منه بحسن السلوك، بل لأنه خائف من العقاب، حتى لو كان ذلك العقاب وهميًا. وفي حياته العملية، سيخضع هذا الشاب إلى هيمنة صاحب السلطة والقوة، رغم علمه بأن الحاكم ديكتاتور فاسد ومستبد لأنه تعلم منذ الصغر أن عليه طاعة صاحب السلطة!
هي نظرية تم إطلاقها لأول مرة في عام 1963 على يد عالم الرياضيات والأرصاد إدوارد لويرنتز الذي حاول جمع المعادلات الرياضية للتنبؤ بالأحوال الجوية لفترة معينة، وقام بإدخال البيانات لأجهزة خاصة قام بتطويرها بنفسه. حيث وجد تفاوتًا واختلافًا في النتائج عند تكرار التجربة بسبب إهماله لبعض المنازل (العشرية البسيطة) التي لا يتم احتسابها عادةً، فوجد أن هذه الأعشار البسيطة تحدث (فرقًا) عند (التكرار) ولمدة طويلة، وذلك من خلال دحرجة كرة على سبيل (التجريب) من أعلى الجبل لحساب (سرعتها)، إلا أن (أسباب صغيرة) قد تؤثر على سرعتها و(تغيير اتجاهها) مثل نسمة الهواء البسيطة، أو وجود حصوة صغيرة أثناء الدحرجة، وهكذا تتأثر النتائج بأبسط الأمور مما جعله يطلق نظرية تأثير الفراشة. إلى هنا ينتهي نص النظرية وعند محاولة تفسير النظرية بشكل منطقي فيمكننا القول إنها تعني أن أي عمل ولو كان صغيرًا سيؤثر ولو بشكل غير مباشر على أحداث أخرى، دون تحديد وقت معين فقد يحدث التغيير بعد يوم أو سنة أو أكثر. أخيرًا يمكننا القول أن كل أعمالنا وتصرفاتنا تؤثر بشكل غير مباشر على الماضي والحاضر والمستقبل، لهذا يجب أن يشعر الإنسان بمكانته وقدرته على إحداث تغيير في هذا العالم، بهذا علينا أن تكون جناح الفراشة الذي يساهم في إحداث الإعصار والتغير في الحاضر والمستقبل.
أعتقد عالم اللسانيات السابق في معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا البروفيسور الأميركي نعوم تشومسكي إن العنصر الأساسي للرقابة الاجتماعية هو استراتيجية الإلهاء والتي تعني تحويل انتباه الجمهور عن القضايا والتغييرات المهمة التي تحددها النخب السياسية والاقتصادية وطبقتها الحاكمة الفاسدة، عن طريق تقنية الإغراق بالمشتتات المستمرة والمعلومات التافهة. وتجريد الجمهور من كل شيء واي شيء حتى السؤال عن أدنى حقوقها المعيشية من قطرة الماء إلى ساعة كهرباء إلى حبة القمح إلى حبة الدواء .. ربما تلخّص هذه الأفكار مضمون السياسات المعتمدة تجاه “مختبرات” العالم الثالث والدول النامية، التي أُغرقت منذ سنوات بأزمات وحروب ومخططات تجويع وحصار لإطاحة كلّ الأفكار والجهود الساعية إلى التحرّر والاستقلال والتنمية. كما عملت دوائر المخابرات ووسائل الإعلام ومنظمات في المجتمع المدني بكلّ طاقتها لتزوير الواقع وإيهام الرأي العام بأنّ مشكلتها الحقيقية تكمن في عقم السياسات المتبعة داخل الدول وليس من خارجها. ولأن الفساد والهدر والمنفعة الخاصة والتهميش والبيروقراطية تسيطر في العديد من دول المنطقة، قُدّر للخارج توجيه العقل العربي والإسلامي نحو ما يسمى بـ”الثورات البرتقالية” و”الربيع” و “الحراك” وما شاكل من عناوين حرفت طبيعة الصراع وتحكّمت فيه، مغيّبة دور الأجهزة الخارجية وملحقاتها عن اهتمام الكتلة الشعبية الغارقة تحت أثقال الهموم اليومية. النموذج اللبناني خير تعبير عن “استراتيجية الإلهاء”. منذ الاغتيال “المشبوه” لرئيس الوزراء رفيق الحريري وما تلاه من اغتيالات، وصولاً إلى الكارثة الاقتصادية والمالية والاجتماعية الراهنة، التي نسجت بذكاء أرضية الصراع الأهلي والتناحر السياسي!؟
تجرَّع سقراط السم قبل أن ينفذ فيه حكم المحكمة الأثينية بالإعدام، وقدّم نفسه قرباناً على مذبح الموقف الفلسفيّ في الحق المطلق في السؤال والتساؤل.. وأستطرد قائلًا: “الحياة بلا أسئلة وتساؤلات لا تستحق الحياة”. يعد طرح الأسئلة بشكل عام من أهم أدوات العلم والمعرفة بالشيء، والوصول إلى الحقيقة، وتبديد الجهل حولها، ومن ضمن أنواع الأسئلة التي تفيد الحقيقة السؤال المباشر والجريء، وهو السؤال الذي يهدف إلى الوصول إلى حقيقة ما يجري، والتي يكون دافعها الحيرة الناتجة عن الشعور بوجود مشكلة. هو نمط أسئلة جريء يهدف للوصول إلى الحقيقة، وإن تعذرت الأفهام عن الوصول إليها. كما إن هناك فرق بين السؤال والتساؤل وذلك ان السؤال بصيغته المختلفة: من، ماذا، ما، لماذا، وجميع الصيغ القريبة أو المشتقة منها يتعلق باستفهام محدد عن معلومة أو إجابة أو تقرير والوقوف عند ذلك، بينما التساؤل يتعلق بموضوع مفتوح أو بقضية غير منتهية أو بتبادل مشكلة جزئية أو كلية بحاجة للمزيد من البحث والجواب.. نحن وللأسف من الشعوب التي لم تستوعب حتى اليوم أسباب مأساتها وانحطاطها الأولية. وتلك هي أحدى أهم وأخطر المفارقات التي ابتُلي بها العقل اللبناني والعربي المعاصر.
لبنان.. المأساة والمهزلة معًا!؟ قصة مختبر سياسي واقتصادي ومالي وديني في مناطق النزاع والاستبداد وجغرافيا الزلازل التي تعيد إلى الأذهان قولًا مأثورًا للفيلسوف للألماني، كارل ماركس –”التاريخ يعيد نفسه، أولا كمأساة، ثم كمهزلة”. في حين نحن نعيش في لبنان المأساة والمهزلة معًا!؟… نعيش في لبنان السؤال والجواب معًا، السؤال عن حقيقةً المأساة وحقيقة الجواب المهزلة والهزل السياسي في السؤال والجواب المأساة والمهزلة!؟!.. السؤال المأساوي يوميًا عن سعر الدولار وحرارة الليرة اللبنانية واحوال السيادة الوطنية وأخواتها وشركائها!؟.. نحن في لبنان نكرر السؤال المأساة نفسه يوميًا ونعيش على المأساة وتكرار المأساة.. نعيش ونموت على سؤال الوجودية وأسعارها اليومية في بلاد يوميات الموت البطيء والتحلل.. بلاد الجواب الوجودي نفسه في إرتفاع الأسعار والتسعيرات.. الارتفاع الفضائي فقط.. إرتفاع تسعيرات مولدات مافيا وعصابات الكهرباء الكهربائية.. وارتفاع أسعار رغيف الخبز المر والطحين المغشوش.. وأسعار المشتقات النفطية في بلاد حقول وخطوط “كاليش” الغازية والنفطية ومشتقاتها الغازية والنفطية.. والمياه المقطوعة والكهرباء المقطوعة والدواء المقطوع… “هناك عبارة شهيرة لماركس وهى أن البشرية لا تضع نصب أعينها إلا ما تستطيع تحقيقه، وهذا صحيح فقط بمعنى ما. فإن الطريقة الوحيدة إلى رفع سقف الممكن هى تحدى المستحيل، فهذا وحده هو الملهم للشعوب”.. نعم، هذا وحده هو الملهم للشعوب التي تعزف سيمفونية الممكن من اجل تحقيق ما يعتقد البعض انه مستحيل!؟