حول طبيعة وأساليب الحكم في ظل الحكومة المغربية

حول طبيعة وأساليب الحكم في ظل الحكومة المغربية

د. محمد كلاوي

   في الغرب الليبرالي لا يقتصر مفهوم الديمقراطية على التعريف القانوني الكلاسيكي، الذي يتأسس على تواجد السلط الثلاثة التي تحد إحداها الا خرى، بل صارت تفيد استحالة وعدم قدرة أي طرف أو “مجموعة أطراف التأثير أو الهيمنة على باقي الأطراف. فالسلطة باعتبارها نشاطا إنسانيا، لزم عدم شخصتنها حفاظا على حيادها، بإضفاء صفة المِؤسسة المجردة عليها، فنتحدث عن الدولة والحكومة والبرلمان… طبعا هذا التعريف النظري لا يتحقق في شموليته طالما وجد مواطن قد يبدي بدوره نوعا من المقاومة المعلنة أو المضمرة. لهذا السبب عمد عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر  Max Weber إلى وضع تعريف شامل يمكن أن تحشر فيه مختلف التعريفات العامة لمفهوم السلطة أو الهيمنة. فيقول بأن السلطة “ضرورة إلزامية في التنسيق بين فئتين بمعنى أن هناك مصدرا معينا يعطي أوامر محددة تفرض على مجموعة من الأشخاص طاعتها، مع افتراض أن تكون هناك ضمن فئة اجتماعية توافق بين الأوامر والطاعة، أي ان الفرد يخضع بملء إرادته إلى حد أدنى من الأوامر الصادرة عن سلطة معينة، وهي الخلاصة التي ينتهي إليها فيبر حتى ولو اصطدمت بكثير من الانتقادات «Le savant et le politique col10/18 p102»، وتؤكد هذه الخلاصة أن استعمال القوة من لدن النظام يصبح مشروعا طالما حظيت بالشرعية «غير أن شرعية السلطة تختلف حسب أنواعها وعلى هذا الاساس بنى تصنيفه الثلاثي الشهير لأنماط الشرعية: تقليدية، كاريزمية وقانونية عقلانية، والتي يشكل كل نوع منها نموذجا مثاليا «idéaltype».

   قد نجد صعوبة كبيرة في وضع المغرب في إحدى هذه الأنماط من الشرعيات لعدم صفاء تركيبته، ولو أنه يبدو أقرب إلى نمط الشرعية التقليدية، ناهيك على أن فيبر نفسه يؤكد على عدم وجود نموذج صافي بالمطلق قابل للتطبيق، إذ يتخلل كلا منهم مواصفات تنتمي للنماذج الأخرى. فنموذج الشرعية التقليدية قد تتخلله عناصر من الشرعية الكاريزمية، والبيروقراطية القانونية قد تسقط في الجمود ان لم تعزز مرحليا بنفحة من مواصفات الشرعية التقليدية والعكس صحيح.

  فالمغرب كأعرق نظام ملكي في العالم العربي ظل يسعى إلى إدماج بعض من كل نموذج كالحداثة والعصرنة ودولة المؤسسات… في تسيير الحياة اليومية، لكنه في العمق بقي على مستوى تدبير سياسة الحكم مشدودا إلى الطقوس التراثية والتقاليد البائدة. فلا هو حكم قانوني عقلاني ولا هو كاريزمي ولا هو تقليدي بالمعني الفييري. فهو كنظام وراثي لا يستثني الخصائص الكاريزمية المرتبطة بشخص الملك، لكن الملك وإن أبدى عزيمة قوية في التغيير إبان اعتلائه العرش، ما لبث أن وجد نفسه مكبلا بشروط هيكل عتيق لا يقبل التغيير.

   أما الحكومة التي يرأسها أخنوش والتي تنتمي لحزب ليبرالي المفترض فيها أن توسع مجال الحريات والدمقرطة والمساواة في الحقوق والواجبات بين عموم المغاربة، سلكت سبيلا هجينا بفرض سيطرتها عن طريق الهيمنة من خلال تدجين الأحزاب والمؤسسات والإعلام وحتى بعض مكونات المجتمع المدني… ونفي كل رأي معارض عبر الاعتقالات التعسفية التي لم يسلم من سطوتها كل من جاهر برأيه، رجلا أو امرأة، بالغا أو قاصرا، سواء كان حقوقيا أو صحفيا أو حتى مجرد مدون. وهو أمر لم يعرفه المغرب لربما حتى في أحلك فترات سنوات الجمر والرصاص. فالحزب يعيش تناقضا خطيرا بين المبادئ التي تحكم نظريا مذهبه مثل الأحزاب الليبرالية وبين سياسته العملية. فهو يغرف من الحداثة والحرية كذريعة، ويدفع في ذات الحين نحو ترسيخ الفكر الخرافي عبر تشجيع الأضرحة والزوايا وتفريخ لوبيات تحتكر هياكل الاقتصاد بدأ برئيسها، في ضرب صارخ للقوانين بل ونفيها كليا كما هو الأمر بالنسبة لتضارب المصالح وسحب قانون الإثراء غير المشروع والاعتماد على الريع والزبونية والولاء وشراء الذمم ، وما الضجة التي خلفها وزير العدل عبد اللطيف وهبي في ما سمي فضيحة امتحان الأهلية لولوج مهنة المحاماة سوى نتيجة لمدى الاستخفاف بقواعد دولة الحق والقانون، هذا دون الحديث عن انعدام الكفاءة لذى أغلب الوزراء والبرلمانيين عكس الشعار الذي قامت عليه حملتها الانتخابية. فهل يعزى هذا الأمر لكونها ليست هي مصدر القرار وتجبر على تنفيذ الإملاءات الخارجية نظرا لتراكم ديونها؟ هل هناك أسباب باطنية لا تفصح عنها لانعدام التواصل في اتخاذ القرار.

   في حين وبالعودة إلى أطروحة فيير سنرى أنها تستدعي لكي تتطابق مع تطور المستجدات على مستوى الفكر السياسي مفهوما آخر، هو مفهوم الوعي السياسي لدى المحكومين إذ بدونه لن تتشكل لديهم رؤيا موحدة للعالم تسمح لهم بالسير على خط سوي تعززه الإنجازات الملموسة وهي الركيزة المركزية في كل عمل دعائي لا يستكين إلى الشعارات الجوفاء والكاذبة. وفي هذا السياق يكون دور الإعلام حاسما في توضيح خلفيات أي قرار سياسي دون مواربة أو تضليل. وهنا يتجلى دور الدعاية السياسية بكل مكوناتها وأشكالها خاصة في أهدافها الني تثغيا خلق سلوك خاص يتماشى مع الاستراتيجية التي رسمها مسبقا صاحب السلطة، دونما حاجة إلى استعمال الإكراه أو العنف لتعديل سلوكهم. وهو ما يسميه الفكر السياسي الدعاية السياسية سواء كانت عقلانية أولا عقلانية، بمعنى مجمل الوسائل التي تستعملها جماعة سياسية بهدف اشتراك جمهرة من الأفراد، عن وعي أو دونه، في نشاطها عبر تعديل إدراكاتها وتغيير أحكامها التقويمية.  

  وعلى هذا المستوى لعب التواصل السياسي في الدولة الحديثة دورا بارزا في تحقيق نسبة كبيرة من التوازن والانسجام البنيويين بين الفئات المجتمعية. فالتواصل هنا يساهم بقسط كبير في التعريف بالمشاريع الطموحة والواقعية التي تجعل حاملها يحظى بالثقة، فيصبح في أعين الناس قدوة في الإتيان بالحلول العملية للصعوبات والمشاكل اليومية التي يواجهونها يوميا بحيث يجعلهم أكثر حماسا وطمأنينة في علاقتهم بحكامهم، خاصة حينما نكون موجهة لعقل ووعي المتلقي لا إلى إثارة مشاعره وعواطفه. وهذا المنزلق هو الذي يستغل أحيانا من طرف أصحاب القرار كأداة مضللة للوصول إلى أهدافهم، أي جعل الأفراد تتحرك ولو إلى حين وفق الشعور بخدمة مصلحة البلد والدفاع عن مبادئها. من الأكيد أن التواصل قد ينحرف إلى بروباغاندا تقوم أساسا على ترويج أخبار زائفة أبعد ما تكون عن الموضوعية قصد التأثير على أكبر عدد ممكن من المصوتين خلال الحملات الانتخابية. لنتذكر الإجماع الحاصل في عهد الرئيس الأمريكي بوش حول حرب العراق وسوريا والذي ما فتئ أن أبان على بطلان مزاعمها في نشر مبادئ الحرية والديمقراطية، لأهداف استراتيجية واقتصادية. لكن الدعاية السياسية المعاصرة تكون عقلانية بارتكازها على الوقائع والإحصائيات وتتوجه إلى وعي الفرد وعقله، بعيدا عن أي أسلوب تضليلي مقصود.

  وهذه الطريقة التمويهية بالضبط تكاد لا تختلف شكلا عما يبدو أنه كان المحرك أيضا لحزب التجمع الوطني للأحرار في حملته الدعائية. فإلى حدود اليوم، وإذا ما استثنينا الأوراش الكبرى التي كان وراءها ملك البلاد، لا شيء تحقق من الوعود التي قدمها رئيس الحكومة امام منتخبيه من الجماهير الشعبية، رغم أنها كانت بحجم لا يقبل التصديق. بل عرف المستوى المعيشي اليومي تصاعدا صاروخيا لم يسبق له مثيل مما أدى إلى تفقير الطبقة الوسطى وبالتالي تفاقم الفوارق الاجتماعية.

  إنه لمن المؤسف حقا أن تتغاضى الحكومة الحالية عن دور الإعلام المتحرر في تعزيز العمل السياسي. فالأعلام الموجه قد يطمْين إلى حين أصحاب القرار، وقد يؤثر على فئة من الشعب غير المؤطرة سياسيا وغير المؤهلة ثقافيا، غير أنه حتما لن يكون في صالحهم على المدى المتوسط والبعيد. فزيادة على كون أغلب أصحابه قد يغيرون جلدتهم حسب تغير الظروف فإنه حتما سيجلب عليهم سخطا عارما للرأي العام وتفريخا غير متحكم فيه لمعارضة تلقائية على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي يكون جل المؤثرين فيه لا يمتلكون المعرفة الكافية بخصائص العمل الصحفي مما يجعلهم يسقطون أحيانا في فخ السب والقذف والتشهير.

  ترتيبا على هذه المعطيات يحضرني تحليل بيير كلاستر  Pierre Castres الذي يتساءل عما إذا كانت مجتمعات “اللادولة” بالمعنى الأنثروبولوجي، وخاصة المجتمعات البدائية والإسلامية تشكل بالفعل تنظيما سياسيا، أم أنها مجرد مؤسسات طابعها التسلط والاستبداد كما يعتقد ذلك الأنتروبولوجيون الغربيون. وقد اعتمد طوال تحليله على وضع هذه الأطروحات العنصرية للثقافة الأوروبية على محك التجريب معيبا عليها انجرافها نحو نفي واحتقار ثقافة الآخر لأنها تعتبرها بدون تاريخ مادامت بدون دولة. ودون أن ينفي ثقافته الأوروبية فإنه لم يتوانى في رفض جوهر طرحها الذي لا يرى الآخر إلا عبر الانا الغربي بالطبع. يؤكد كلاستر بأن “حكم البدائية والفوضوية والاقتصاد الاكتفاءيي ونقص الكتابة في تلك المجتمعات، حسب هذه الاستنتاجات نابع في الأصل من نقص في السياسي كما عرفه الغرب. لذلك كان حكمهم ينطلق من مسلمة “الغرب هو النموذج”. وقد تصدى لهذه الأطروحة بغير قليل من الذكاء بعض المثقفين ذوي النزعة القومية داعين المجتمع إلى التحرر من قبضة المستعمر الغربي لكي يصبح كائنا حرا. (الفكر العربي عدد 23، 1981، صص. 299-305).

  في هذا السياق كانت أطروحة عبد الله حمودي في تفحصه لطبيعة النظام السلطوي في كتابه حول علاقة الشيخ والمريد أكثر ملامسة للواقع المغربي. فهو يرى أن بنية النظام السياسي من منظور سوسيو-تاريخي تستمد أصولها من نموذج الشيخ والمريد كما تطور داخل الحركة الصوفية منذ القرن الخامس عشر. فهو لا ينكر أن المغرب شهد تغيرات بعد الاستقلال، لكنها لم ترقى إلى مستوى خلخلة 1ممارسات العمل السياسي على ما كانت عليه حيث يعتبر بأن نموذج التبعية التامة التي تربط المريد بشيخه أي الفكر والممارسة الصوفيين يتجلى اليوم في مناهج وبرامح الأحزاب السياسية ونقابات العمال وكذا في \لإدارات العمومية التي تستلهم روح الاسلام وتهيمن على هذه الممارسات العلاقة بالسيد أو المولى التي تعتبر تجسيدا لنموذج الشيخ-المريد” (عبد الله حمودي: آليات النظام السلطوي في المغرب، دائف. ف. أيكلمان، مقدمات، ع. 10، 1999) والأدهى أن عموم الأنظمة السلطوية دأبت حكوماتها على تشريع الهيمنة وتقنينها لدرجة غابت فيها سلطة المراقبة ودجن فيها القضاء.  

  خلاصة القول هو إنه لا أحد يجادل في ضرورة التخلص من ربقة الاستعمار، لكن السؤال هو هل استطعنا فعلا التخلص من رواسب الماضي؟ فالحداثة ليست في مظاهر العصرنة التكنولوجية واللوجستيكية التي تعم العديد من بقاع العالم العربي والإسلامي ما لم تمس عقول وسلوك الأنسان. لقد كان أولى بالحكومة أن ترفض النموذج المتطرف من الليبرالية السوسيو-اقتصادية لأنه يكرس الاستبداد خاصة في بيئة اجتماعية وثقافية لم تعرف مرحلة المجتمع الصناعي، حتى ولو أدت في ذلك ثمنا باهظا إن كان هاجسها حقا هو المصلحة العليا للبلاد. لكن يبدو في واقع الأمر أننا لا زلنا هنا والآن محكومين بعقيدة “المخزن” التي تسودها علاقة الراعي بالرعية وتتنافى بالمطلق مع كينونة الفرد باعتباره في آخر المطاف عربون     المرور إلى الحرية والديمقراطية.

Visited 6 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. محمد كلاوي

باحث أكاديمي وناقد سينمائي