الإبدَاع الشِّعري الموسُوم بنُون الِّنسْوَة في الأندلس
د. السّفير محمّد محمّد خطّابي
في الوقت الذي ما فتئنا نعيش أجواء الاحتفال بيوم المرأة العالمي الذي عشناه في الثامن من شهر مارس الفارط، جدير بنا – والحالة هذه – أن نلقى بعض الاضاءات الكاشفة على الإبداع الشعري النسوي في بلاد الأندلس لنبيّن للناس وللقراء وللمتتبّعين كيف أمكن للمرأة العربية أن تبلغ في بلاد الأندلس في غابر الأزمان شأواً بعيداً من الرقيّ الفكري والأدبي واللّسنيّ، ممثّلاً في قرض الشعر الجميل الذي ما زال يشنّف أسماعنا، ويغذيّ فكرنا، ويجذل قلوبنا، ويهذّب ذوقنا بعد انصرام قرونٍ مرّت حميدةً بأهلها في ذلك الصّقع الجميل النائي- القريب في بلاد الأندلس، فنشير أنه فى الوقت الذي نجد فيه بعضَ الدارسين، ورواة الأخبار فى تاريخ الأندلس أهملوا كثيراً من النصوص الشعرية التي صدرت عن الشواعر الأندلسيّات، وفى الوقت الذي لم يحظ موضوع الأدب النّسوي الأندلسي على وجه الخصوص بالاهتمام الكافي من طرف الباحثين والدارسين، على الرّغم من التأثير البليغ الذي أحدثه هذا الشّعر على اختلاف أغراضه، وألوانه، ومضامينه ، وتعدّد مشاربه، وروعته وازدهاره، وتألقه، وتباين مقاصده فى إسبانيا وفى الآداب الأوربية فى القرون الوسطى، حيث بلغ فى ذلك مقاماً عالياً ظلّ مجهولاً، أو منسياً، أو مُتناسياً، أومُهملاً، أو مُهمّشاً لزمنٍ غير قصير، فإنه من الجدير بالذكر- والحالة هذه- التنويه بالأبحاث الرّصينة، والدراسات المستفيضة التي نُشرت مؤخراً فى هذا المضمارالتي تعالجُ موضوع الشاعرات العربيّات فى بلاد الأندلس، والتي تزيح السّتار عن أهمية، وجمالية هذا الشعر وسحره وفى طليعة هذه المواضيع دراسة قيّمة باللغة الإسبانية للباحثة والشاعرة الإسبانية – الكتلانية “كلارَا خَانيسْ” (Clara Janes ) تحت عنوان: “الشِّعر النّسوي فى الأندلس”، حيث تقدّم لنا هذه الباحثة فكرة واضحة المعالم عن المدى البعيد الذي أدركته المرأة (عربية كانت أم أمازيغيّة) التي عاشت تحت الظلال الوارفة للحضارة الأندلسية من ازدهار، ورقيٍّ ينمّان عن حياة مدنية مُترفة، وإبداعات شعرية مُرهفة سبقت زمنها وبذّت عهودَ معاصريها.
الباحثة كلارا خانيس استهلّت عرضَها بتوطئة موفية، وتمهيدٍ ضافٍ حول وظيفة الفنّ والإبداع ومدى أبعادهما وتأثيرهما في الحياة اليومية للفرد والجماعة قديماً وحديثاً، واعتبرت الكاتبة موضوع شعر الجنس اللطيف فى الرّبوع والأصقاع الأندلسية اكتشافاً عظيماً، وعنصراً مفاجئاً بالنسبة لها في عالم الإبداع النسوي فى القرون الوسطى على وجه التحديد. عالجت الكاتبة بعد ذلك موضوع الخلق الأدبي، والإبداع الشعرى عند المرأة بشكل عام مُستشهدةً بما ذهبت إليه الكاتبة البريطانية “فرجينيا وولف” من آراء عن المصاعب، والإكراهات التي تواجه المرأة عند عملية الخلْق، والكتابة، والإبداع. حيث أشارت أنّ الكتابة عند المرأة لا يمكنها أن تتحقق إلاّ إذا توفّرت لديها شروط معيّنة منها التواجد في عصر بعينه يَسمح لها فيه المجتمع بالمشاركة في الحياة اليومية العمومية بشكل فعّال، مع توفير مستوىً ثقافي معيّن، فضلاً عن ضمان حرية القول، والإفصاح، والبوْح، والتعبير، بالإضافة إلى الانتماء إلى نمطٍ اجتماعيٍ بذاته. وتضيف الكاتبة عنصراً آخر ليتسنّى للمرأة مزاولة عملية الخلق والإبداع وهو الإنفتاح في العادات، والتقاليد، وعدم تحجّرها، وجفائها، وجفوتها مثلما كان عليه الشأن في المجتمع الأندلسي الذي كان من أكثر المُجتمعات تسامحاً وانفتاحاً فى القرون الوسطى كما هو معروف عند الباحثين الثقات.
شاعرات من مختلف الأجناس
وأجرت الكاتبة كلارا خانيس مقارنات بين شعر المرأة العربية والأمازيغية بالأندلس وشاعرات إسبانيات عشن في عهود متقاربة وموالية للعهد الأندلسي، إلاّ أنّ قصب السّبق في معالجة الموضوعات بنوع من الواقعية والرقّة والذكاء مع دقة الملاحظة، وعمق التحليل، وثراء المضمون، وخصوبة المعنى، وجمال المبنى، كلّ ذلك كان من نصيب الشّعر النّسوي العربي في الأندلس. وتماشياً مع ما سبق أن أشار إليه غير قليل من الباحثين المتضلّعين الإسبان مثل شيخ المستشرقين الإسبان “إميليو غارسيا غوميز”، أكدّت الباحثة بدورها أنّ الشعر العربي بشكل عام في الأندلس كان له تأثير بليغ في الشعر الاسباني فيما بعد على وجه الخصوص وفى الشعرالأوربي بشكل عام، وقد ظهر ذلك جليّاً لدى “الجيل الأدبي الإسباني 1927” الشّهير الذي ينتمي إليه غير قليل من كبار المبدعين الاسبان ذوي الصّيت العالمي البعيد أمثال “فثينتي ألكسندري” الحائز على جائزة نوبل في الآداب، و”خوان رامون خمينيث” الحاصل على نفس هذه الجائزة العالمية كذلك. يُضاف إلى هذين الشاعرين أسماء أخرى كثيرة مثل “خيراردو دييغو”، و”دامسو ألونسو” والعالمي “فيديريكوغارسيا لوركا”، فضلاًعن الشاعرالأندلسي القادسي “رفائيل ألبرتي” الذي يعترف صراحة في العديد من أعماله الأدبية بتأثير الشعر العربي في الأندلس عليه، وسواهم.
عن الحبّ العذري العفيف
تشير الباحثة الكتلانية أنّ الحبّ العذري شاع، وانتشر، واشتهر فى الأندلس مثلما كان عليه الشأن عند المشارقة، وكيف أنّ تأثيرات هذا الغرض على وجه الخصوص فى الشّعر الأندلسي انتقل عن طريق شبه الجزيرة الإيبيرية فى المقام الأوّل إلى فرنسا، حيث دخل أرقى بلاطات الحبّ، والهوى، وصالونات الصّبابة، والجوى، ثم انتقل بعد ذلك إلى بعض البلدان ألأوروبية الأخرى المجاورة، وبالأخصّ إلى إيطاليا بواسطة “برونيتو لاتيني” الذي كان سفيراً لبلاده لدى بلاط العاهل الإسباني ألفونسوالعاشر الذي كان يُلقب بالحكيم في القرن الثالث عشر. والذي كانت تربطه بالحضارة العربية، والثقافة الإسلامية رابطة وثقى، وآصرة متينة نظراً لإعجابه الكبير بها و نهله منها، وتأثّره بها حيث أمر بترجمة العديد من أمّهات الكتب والمخطوطات العربية الشهيرة فى مختلف العلوم والآداب والمعارف إلى اللغة الإسبانية منها على سبيل المثال وليس الحصر كتاب ” كليلة ودمنة” لعبد الله بن المقفّع وسواه .
ويشير المستشرق الكبير الرّاحل “إميليو غارسيا غوميس” عند تقديمه لكتاب “طوق الحمامة” الشهير للفقيه العلاّمة الأندلسي المعروف ابن حزم، إلى أن الحبّ العذري دخل الأندلس حوالي 890م. وكان لابن حزم نفسه تأثير واضح، وبليغ في هذا القبيل خاصة في البلاطات الأوربية الرّاقية. ومعروف أنّ هذا العالم الأندلسي الجهبذ قد سبق وبذّ بقرون العديد من علماء النفس الأوروبيين أمثال “كارل كوستاف يُونغ” و”ألفريد أدلر”، و”سيغموند فرويد ” وسواهم ممّن على شاكلتهم بملاحظاته العلمية الدقيقة، وتفسيراته وتحليلاته النفسية للأمارات، والعلامات والتغييرات التي تطرأ أوتعتري الحالة النفسية للعاشق المتيّم، المحبّ الولهان في كتابه الآنف الذكر “طوق الحمامة” الذي تُرجم إلى العديد من اللغات الحيّة ولقي فيها نجاحاً وإنتشاراً منقطعيْ النظير.
وتذهب الباحثة الكتلانية إلى القول أنّ إعمال النظر بعمق، والتمعّن في الشّعر النسوي الأندلسي وقراءته أمران يبعثان على الإعجاب والانبهار، ويثيران دهشة الغرب سواء لدى الدارسين المتخصّصين، أو الباحثين الجامعيين أو القرّاء على وجه العموم، نظراً لما تتضمّنه هذه الأشعار من رقّة، ورفاهية، وعذوبة وطلاوة ، وليونة ومرونة، فضلاً عن الخيال الخصب المجنّح الذي يطبعها، وحرية التعبير التي لا يمكن مقارنتها سوى بحرية التعبير المتوفرة في المجتمعات العصرية الرّاهنة، وتؤكّد الباحثة فى هذا القبيل أنّ هذه الحرية لم يتسنّ للمرأة الغربية في تاريخها أن تتمتّع بها إلى اليوم. وتورد الكاتبة رأياً للباحث الإسباني “أدولفو فديريكو شباك” مفاده أن الحرية التي تمتّعت بها المرأة العربية في الأندلس على وجه الخصوص فاقت، وبذّت الحريّات التي كانت لدى المرأة في المجتمعات الاسلامية الأخرى. ويضع المستشرق “هنري بيريس” في الاتجاه نفسه المرأة الأندلسية في مستويات راقية، ومراتب عليا تتساوى فيها مع الرّجال، بل إنّ المرأة الأندلسية كانت تتوارد على نوعٍ من الأكاديمّيات، والمعاهد التي تتعلم، وتتلقّى وتُلقّن فيها الفنون والآداب المختلفة، والعلوم التي كانت سائدة ومنتشرة في ذلك العصر، وأشهر هذه المدارس، والأكاديميات كانت موجودة بمدينة قرطبة التي يُقال إنها فاقت كلّ الامصار فى ذلك الإبّان حيث يقول الشّاعر فى ذلك:
بأربعٍ فاقت الأمصارَ قرطبةٌ / قنطرة الوادي وجَامعُها
هاتان ثنتان والزّهراءُ ثالثةٌ / والعِلمُ أعظمُ شئٍ وهو رابعُها
كما تورد الكاتبة نصّاً للعالِم الأندلسي ابن بسّام الشنتريني (نسبةً إلى مدينة شنترين البرتغالية) صاحب الكتاب الشّهير”الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة” يصف فيه امرأة عربية خرجت من إحدى هذه المدارس متحدثاً عن جمالها، ورقّتها، ومشيتها، وصوتها، ومواهبها، وثقافتها بل أنها كانت – مع ذلك – تجيد استعمال الأسلحة إلخ، حيث يؤكد لنا ابن بسّام أنه لم يكن لها نظيرأو مثيل في ذلك كله.
ماذا جرى بين المعتمد واعتماد؟!
وتشير الباحثة أنّ الشأو البعيد الذي بلغته المرأة العربية والأمازيغيّة في المجتمع الأندلسي لم تدركه زميلتها المرأة الأوربية في ذلك الأوان، وتشير إلى أنّ شعر الجِنس اللطيف فى الأندلس لم ينحصرفي موضوع الحبّ، والغزل، والشكوى، والعتاب وحسب- وإن كان هو الأغلب- بل تعدّاه الى مواضيع وأغراض أخرى مثل المدح، والهجو، ووصف الطبيعة، فضلاً عن شعر الحكمة. وكما أسلفتُ القول، لم يُعْنَ أحدٌ في جمع هذا الشعرالجميل ضمن ديوان مستقلّ، بل ظلّ مبثوثاً فى بطون المخطوطات، وبين دفّتيْ أمّهات الكتب التي تؤرّخ للأدب، والأنساب، والأخبار فى الأندلس. وتصف الباحثة أسلوبَ هذا الشّعر بأنه أسلوب طبيعي، وتلقائي، رقيق يخضع لقواعد شعر المشرق، بل إنّ بعض الشّواعر كنّ يلجأنَ الى معارضة شعر الرّجال، أو إستكمال مقطوعات شعرية، أو التعبير عن خواطر عابرة، أو الإجابة عن تساؤلات محيّرة، أو الدفاع عن النفس حيال أيّ تهجّم، أو تعدٍّ، أو إهانة، أوالزّهو والفخار. ولعلّ القارئ الكريم يتذكّر كيف تعرّف الخليفة، المنكود الطالع المعتمد ابن عبّاد على خليلته ثمّ زوجته اعتماد الرميكيّة بالمساجلة الشعرية، حيث كان ابن عبّاد قد طلب من صديقه ووزيره ابن عمّار أن يجيز بعد أن قال المعتمد:
(صنعَ الرّيحُ من الماء زَرَد)، فلمّا تردّد، وتأخّر ابن عمّار في الإجابة والإجازة أيّ في أن يتمّ أو يستكمل أو يقابل مصراع ابن عبّاد، بادرت الرميكيّة على الفورالتي كانت بالصدفة توجد بجوار النّهر (الوادي الكبير)، فقالت: (أيّ درعٍ لقتالٍ لو جَمَد) فتعجّب المعتمد من حُسن جوابها، و من حضور بداهتها.
أشهر الشّاعرات الأندلسيّات
ومن أشهر وأقدم الشّاعرات العربيّات الأندلسيات التي تعرّضت لها الباحثة الإسبانية الشاعرة “حسّانة التميمية” وهي من”إِلفِيرَا” بمدينة غرناطة، وُلدت خلال إمارة عبد الرحمان الداخل المعروف بـ (صقر قريش) (756 -788م) وأوردت الباحثة قصيدة مدحٍ لها بعثت بها إلى الأمير الحاكم الأول، تطلب منه فيها حمايتها من جور حاكم غرناطة. ومن أشهر الشّاعرات الأندلسيات المشهود لهنّ بطول باعهنّ فى قرض الشعروإجادة نظمه اللاّئي ورد ذكرهنّ في كتاب “نفح الطيّب” للمقرّي، وهو من أكبر المصادر القديمة التي حوت ثبتاً مستفيضاً لكثير من أسماء الشاعرات الاندلسيات، وفي كتب: “جدوة المقتبس” للحميدي، و”الصّلة” لابن بشكوال، و”التكملة ” لابن الآبّار، وفى سواها من المصادر العربية المشهورة الأخرى نجد الشاعرات المُجيدات : “لبنى” كاتبة الحاكم المُستنصر، و”الغسّانية”، و”حفصة بنت حمدون الحجارية”، و”أمّ الكرام” بنت المُعتصم ابن صُمادح، و”غاية المُنى”، و”اعتماد الرّميكية” زوجة المعتمد، و”عائشة بنت قادم القرطبية”، و”مريم بنت أبي يعقوب الأنصاري”، و”أمّ العلاء بنت يوسف الحِجارية البربرية”، وهي شاعرة عاشت في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) في وادي الحِجارة وإليه نسبتها، وهي من أصل بربري (أمازيغي) ، و”حَمدة بنت زياد المؤدّب” وأختها “زينب”، و”قمر” جارية إبراهيم اللخمي، و”أنَس القلوب “، و”مولاة أبي المطرف بن غلبون العروضية”، و”مُهجة” و”مُتعة” القرطبيتان، و”نزهون” الغرناطية، والشاعرة “العبّادية “والدة المعتمد، و”بثينة” بنت المعتمد ابن عبّاد، و”أم المُنى”، و”الأديبة الشلبية”، و”أسماءالعامريّة”، و”حفصة الركونيّة”، والشاعرة الأميرة الشّهيرة صاحبة ابن زيدون “ولاّدة بنت المُستكفي”.. الخ.
ثلاث شاعرات أنموذجاً
وحسبنا أن نقول إنّ المرأة في الأندلس خلال الوجود الإسلامي بها على امتداد العصور التي تعاقبت عليها انطلاقاً من عصرالإمارة، وعصرالخلافة، وعصر ملوك الطوائف، ثم عصر المُرابطين، والمُوحدين وما بعدهما، كانت دائماً مثار عاطفة الرّجل، وبؤرة اهتمامه، ومثار وجدانه، ومكمن سرّه، مرتع ملاذه، على الرّغم من تقلبات الدهر وصروف الزمان وتغيّراته، فقد كانت المرأة فى بلاد الأندلس محطّ الأنظار، وموضع الاحترام عند الرجال الأحرار، وقد شاركتهم في الحروب، وشاطرتهم معاناتهم في المعارك الضّروس، والأمثال فى هذا القبيل أكثر من أن تُحصى فى هذا المقام، وحسبي الإشارة فى هذا السّياق – على سبيل المثال وليس الحصر- إلى ما عانته، وقاسته زوجة المعتمد بن عبّاد اعتماد الرميكية فى أسره السّحيق، ومنفاه البعيد بأغمات (بالقرب من مدينة مراكش) حيث شاطرته وتقاسمت معه مرارة الأيّام ووعورتها، وشظف الحياة بعد نعيمٍ مفرط،ورغدِ العيشِ وترفه.
ونكتفي كمثالٍ بمدى جمالية، وروعة، وتنوّع هذا الشّعر ضمن هذه الأسماء الوافرة بأبيات لثلاث شاعرات أندلسيات، اللاّئي يقدّمن خيرَ دليلٍ على مدى تفوّقهنّ، وسيطرتهنّ على ناصية الشّعر فى الأندلس، وقد أثبتت الباحثة الاسبانية مقطوعات شعرية لإحداهنّ وهي ولاّدة بنت المستكفي صاحبة ابن زيدون التي تقول فيها:
ترقّبْ إذا جَنّ الليلُ زيارتي/ فإنّي رأيتُ الليلَ أكتمَ للسرّ
ولي منكَ ما لوكان بالشّمسِ لم تلحْ / وبالبدرِ لم يطلعْ وبالنجمِ لم يسرِ
كما أنّها إشتهرت ببيتين من الشّعر قيل إنّها كانت تكتب كلَّ واحدٍ منهما على جهةٍ من ثوبها :
أنا واللّه أصلح للمعالي / وأمشي مشيتي وأتيه تيهَا
وأمكّن عاشقي من صحن خدّي / وأعطي قبلتي من يشتهيهَا
وولاّدة هي بنت الخليفة “المُستكفي بالله”، كانت واحدة زمانها في الأدب والشعر، حسنة المحاضرة لطيفة المعاشرة، مع الصيانة والعفاف. وكان ابن زيدون يتعشقها، وله فيها القصائد الطنانة، والمقطوعات الرنّانة،أشهرها نونيته التي يقول في مطلعها:
أضْحَى التّنائي بَديلاً عنْ تَدانِينَا /وَنَابَ عَنْ طيبِ لُقْيانَا تجافينَا
بِنْتُم وَبِنّا، فَما ابتَلّتْ جَوَانِحُنَا /شَوْقاً إلَيكُمْ، وَلا جَفّتْ مآقِينَا
نَكادُ، حِينَ تُنَاجِيكُمْ ضَمائرُنا / يقضي علَينا الأسَى لَوْلا تأسّينَا
ويقول فيها أو عنها كذلك فى قصيدة أخرى شهيرة :
إنّي ذكرتكِ بالزّهراء مُشتاقَا / والافقّ طلقٌ ووجهُ الأرض قد راقَا
وللنّسيم إعتلالٌ فى أصائلهِ / كأنّما رقّ لي فاعتلّ إشفاقَا
وكانت ولاّدة أولاً تطارحه شعراً بشعر، وتبادله حبّاً بحبّ، ثم قلبت له ظهرالمُجن وصارت تهجوه، وكان لها مجلس يغشاه أدباء قرطبة وظرفاؤها ، فيمّر فيه من النوادر، والمُستملحات، وإنشاد الشعر شيء كثير.
وأمّا الشاعرة الثانية فهي “حَمدَة أوحَمْدُونة بنت زيّاد المُؤدّب” التي كان يقال لها خنساء المغرب لقوّة شعرها، و سموّ إبداعها، ولها المقطوعتان العجيبتان المشهورتان بالمشرق والمغرب، واللتان مازال أهل البلاغة يجعلونهما مثلاً أعلى للنّسج على منوالهما، والحذو على حذوهما، تقول في المقطوعة الأولى:
ولمّا أبى الواشون إلاّ فراقنا /وما لهم عندي وعندك من ثارِ
وشنّوا على أسماعنا كلَّ غارة /وقلّ حماتي عند ذاك و أنصارِي
غزوتهم من مقلتيك وأدمعي /ومن نفسي بالسّيف و السّيل والنارِ
وتقول في المقطوعة الثانية الجميلة وهي مشهورة جدّاً:
وقانا لفحة الرّمضاء وادٍ / سقاه مُضاعَفُ الغيثِ العميمِ
حللنا دوحَه فحنَا علينا / حُنوَّ المُرضعات على الفطيمِ
وأرشفنا على ظمأٍ زلالاَ / ألذّ من المُدامة للنديمِ
يصدّ الشمسَ أنَّى واجهتنا / فيحجُبها ويأذنُ للنّسيمِ
يروع حصاهُ حاشية العذارىَ / فتلمسُ جانبَ العقدِ النظيمِ .
والشّاعرة الثالثة التي نختم بها هذه العجالة هي أمّ العلاء بنت يوسف الحِجارية البربرية، ذكرها صاحب “المُغرب فى حلى المَغرب”، ومن شعرها:
كلّ ما يصدر عنكم حسن / وبعلياكم تحلى الزمنُ
تعطف العين على منظركم / وبذكراكم تلذ الأذنُ
ومن يعش دونكم في عمره / فهو في نيل الأماني يغبنُ
وعشقها رجل أشيب فكتبت إليه تقول:
يا صبح لا تبد إلى جنح / والليل لا يبقى مع الصبحِ
الشيب لا يخدع فيه الصّبا / بحيلة فاسمع إلى نصحي
فلا تكن أجهلَ من في الورىَ / تبيتُ في الجهل كما تضحي
ولها أيضاً :
أفهم مطارح أحوالي وما حكمت / به الشواهد واعذرني ولا تلمِ
ولا تكلني إلى عذر أبينه / شرّ المعاذير ما يحتاج للكلمِ
وكلّ ما قد جئته من زلة فبما / أصبحت في ثقة من ذلك الكرمِ.