القدس في الحسابات الجيوسياسية
عمر الزيدي
حدد قانون التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة سنة 1947، والقاضي بإنهاء فترة الانتداب البريطاني على فلسطين وإنشاء ثلاث كيانات، يهودية وعربية ودولية. وقررت تل أبيب عاصمة للدولة الصهيونية والقدس دولية.
– في 1949 أعلنت دولة إسرائيل ومن جهة واحدة القدس عاصمة لها.
– في يوليوز 1980 صوت الكنيست على قانون يعتبر “أورشليم/القدس كاملة عاصمة للكيان الصهيوني واعتبرها مبدأ دستوري. رد مجلس الأمن على ذلك بقرارين رقم 476 و478، مضمونهما “وجه مجلس الأمن اللوم الى اسرائيل بسبب إقرارها هذا القانون وأكد أنه يخالف القانون الدولي، ومن شأنه أن يمنع استمرار سريان اتفاقية جنيف الرابعة عام 1949.
– سنة 1995 أصدر الكونغرس الأمريكي قانون “سفارة القدس” يعترف بالقدس عاصمة دولة إسرائيل، كما أشار هذا القانون إلى نقل السفارة الأمريكية إلى القدس خلال خمس سنوات.
– في 6 دجنبر 2017 قرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نقل السفارة الأمريكية إلى القدس.
– ردود الفعل قوية محليا وعلى صعيد الشعوب العربية والإسلامية، وكذلك الدول. وردود فعل دولية قوية للدول والمنظمات الجهوية مثل: الاتحاد الأوربي، منظمة المؤتمر الاسلامي، جامعة الدول العربية وغيرها من الروابط ومنظمات المجتمع المدني.
استراتيجية الكيان الصهيوني في القدس
تعني الجغرافيا السياسية تحديد السلوك السياسي في حدود المعطيات الجغرافية للدولة. الجغرافيا السياسية بالنسبة للنازية تعني تحديدها في ضوء أهداف القرار والسلوك السياسي والقوة القادرة على تحقيقه، ومن ثمة نهجت سياسة التوسع إلى آخر حكاية الحرب العالمية الثانية.
وانطلاقا من تشبع الصهاينة بالأفكار النازية فقد عبروا عن هذه المدرسة الجيوسياسية بتطرف استثنائي لم يحدث مثله في التاريخ، حيث رفضت إسرائيل الى حد الآن تحديد الحدود.
فقضية القدس التي تم تأجيلها الى مفاوضات الوضع النهائي في اتفاق أوسلو، اضافة الى مجموعة من القضايا، هي لب الصراع العربي الصهيوني مثل المستوطنات واللاجئين والحدود والمياه، جميعها أجلت كي تعطي للكيان الصهيوني الفسحة الزمنية اللازمة لتوفير شروط عملية القضم الاستراتيجي، وهو ما يعني في الحقيقة أن هذه القضايا غير قابلة للتفاوض من وجهة نظر الكيان الصهيوني، ولم يكن الهدف من التأجيل إلا لتحقيق وظيفتين: الأولى، حفظ ماء وجه المفاوض الفلسطيني حتى يستكمل تنازلاته. الثانية، إعطاء المفاوض الصهيوني الوقت الكافي لخلق وقائع جديدة على الأرض تتيح له وضع الجميع أمام الأمر الواقع والتسليم له تاليا بعدم قابلية هذه القضايا للتفاوض.
للقدس مكانة هامة في اطار القضية الوطنية الفلسطينية، ليس فقط لاحتوائها على مقدسات اسلامية ومسيحية، ولكن بالأساس لما للإجراءات الصهيونية في القدس من دلالات خطيرة تؤشر على مألات القضية الوطنية الفلسطينية، واتجاهات آثار المشروع الصهيوني على كل المحيط العربي.
التجليات الأربعة للمشروع الصهيوني في القدس
– تزوير التاريخ: أرض الميعاد – عاصمة الأجداد الذين بنوها ونستمر في البناء – طعن الاردن بعدم احترام اتفاقية وادي عربة
– قضم الجغرافيا: “وحدة أرض إسرائيل” – ربط أراضي 48 بنهر الأردن عبر توسيع أراضي القدس، العمل الاستيطاني مستمر الى حدود غور الأردن.
– خلخلة السكان: “أرض إسرائيل” يجب أن تكون خالية من السكان غير اليهود. عمليات الطرد وهدم المنازل مستمرة بدون توقف. الكيان الصهيوني يضع امام الفلسطينيين ثلاث خيارات لا غير: 1- قبول العمل لديهم في وضع تمييزي عنصري، 2- الرحيل أو 3- القتل.
– تحريك الحدود: اعتبار نهر الأردن هو الحدود الآمنة.
القدس أمام رهانات الراهن
1- هل من إمكانية لحل الدولتين؟
حين نقول القدس فإننا نعني مجموع القضية الفلسطينية، لقد أصبح واضحا أمام الغطرسة الصهيونية وحلمها “بإسرائيل الكبرى” أن قيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل لم يعد مطروحا، بحيث حتى في اتفاقات أوسلو لم يرد كلمة دولة فلسطينية ولكن “مناطق للحكم الذاتي، وعليه فإن الأمر أصبح أكثر من أي وقت مضى “صراع وجود وليس صراع حدود.
-على المستوى الاسرائيلي التطرف اليميني العنصري غير مستعد لأي تراجع في عملية التخلي عن المستوطنات، بل يسير بشكل حثيث في الزيادة منها، وتسليح المستوطنين، وتكثيف عمليات القتل والتهجير وتحطيم البيوت ونزع الاشجار لتضييق الخناق على أصحاب الارض الأصليين في إطار مشروع “الوطن البديل” الذي هو الأردن. وأمام الصراعات التي يعرفها شارع الكيان حول المشروع القضائي للحكومة الاسرائيلية، فإن وثيرة الاستيطان والقتل ترتفع أمام المقاومة التي يبديها الشعب الفلسطيني بشكل يومي.
-على المستوى الفلسطيني لم يعد أحد يعترف باتفاقات أوسلو، بحيث تزداد نداءات الشارع الفلسطيني للسلطة الفلسطينية بوقف التنسيق الأمني، الذي بقي النقطة الوحيدة التي يحتفظ بها الكيان الصهيوني من اتفاقات اوسلو. القوى الفلسطينية المقاومة أصبحت واضحة في كفاحها من أجل القضاء على الاحتلال وتحرير كامل فلسطين من البحر إلى النهر.
2- فلسطين في ظل التطورات الدولية:
أ- تعيش المنظومة النيوليبرالية في الغرب وباقي أطراف العالم أزمة مركبة غير مسبوقة تتمثل في أربع أزمات كبرى متداخلة:
-أزمة مالية واقتصادية تتمثل في انهيار ابناك وارتفاع منسوب التدين العمومي، في وقت تتوسع انتصارات الصين التجارية والتكنولوجية (أكثر من 800 مرفأ تجاري موزع على العالم). إضافة الى تعافي اقتصاديات البلدان الصاعدة باستفادتها من الصناعات المرحلة من الغرب وتطور مجال البحث العلمي (الهند، إندونيسيا، البرازيل وغيرها)
-أزمة اجتماعية كبيرة تتمثل في انتشار البطالة وارتاع تكاليف المعيشة مما يزيد من درجات الفقر والتهميش.
-أزمة ديمقراطية غير مسبوقة وانتشار العنصرية وصعود اليمين المتطرف (نموذج فرنسا، وترامب في الولايات المتحدة الأمريكية).
-أزمة إيكولوجية تتمثل في التغيرات المناخية وانهيار التنوع البيولوجي، التي تنظر بتأثير خطير على حياة البشرية في كوكب لم يعد يتحمل الاستنزاف المرتفع للثروات وتراكم التلوث بشكل يهدد استمرارية الحياة لكل مكونات الطبيعة بما فيها الانسان.
أمام هذه الأوضاع أصبحت الأولوية عند الغرب الامبريالي هو مواجهة الصين من أجل ايقاف تطورها لأن ذلك يهدد هيمنة أمريكا وأروبا على العالم. والبداية في مخططها الاستراتيجي هو القضاء أو على الاقل القضاء على روسيا، فتم استخدام اليمين المتطرف في أوكرانيا للقيام بهذه المهمة مدعوما من دول الحلف الأطلسي.
الحرب الروسية – الأوكرانية تبرز لحد الآن صمود روسيا واستطاعتها ايجاد بدائل لتعاملاتها التجارية مما زاد في قوة اقتصادها وبالمقابل تؤدي أوروبا فاتورة الحرب حيث ازدادت مشاكلها الاقتصادية والسياسية، وتبقى الولايات المتحدة الامريكية الطرف الرابح تجاريا في بيع السلاح وبيع الغاز لأروبا بثمن مضاعف أربع مرات عن ثمنه السابق من روسيا.
أمام هذا الوضع صعود مجموعة “البريكس” وهي المجموعة التي كانت مكونة من خمس دول (البرازيل، روسيا، الهند، الصين وجنوب إفريقيا) وأصبحت مقبلة على التوسع لتضم بلدان أخري، والأخطر من هذا هو اعتمادها العملات المحلية في التعاملات التجارية، واسقطت التعامل بالدولار كمرجع عالمي للصرف، وهذا من شأنه أن ينهي هيمنة الدولار يعني أمريكا من العالم الذي استمر منذ الحرب العالمية الثانية. إنه مؤشر قوي لدخول العالم الى مرحلة تعدد القطبية تنهي هيمنة الغرب على العالم.
بناء على ما سبق لم يعد الشرق الأوسط ولا الكيان الصهيوني من أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، مما يجب أن يفتح الباب الى استراتيجية جديد للمقاومة والكفاح من أجل التحرير.
3- التسويات الإقليمية:
منذ 1947 لم تخرج المملكة السعودية من عباءة الولايات الامريكية المتحدة بموجب اتفاق الحماية، مما جعل العالم يفاجأ أمام رفض محمد بن سلمان اطلب بايدن الزيادة في انتاج البترول إبان زيارته الأخيرة للسعودية. بل أنه أقدم على تخفيض الانتاج وفق اتفاق “الأوبيب”، بل أكثر من ذلك ولتأكيد توجه المملكة السعودية الجديد انضم إلى نادي شانغهاي وقد قدم طلب الانضمام إلى مجموعة “البريكس”.
منذ حوالي شهرين أقام صلحا مع إيران بوساطة صينية، ومنذ ذلك الحين انطلقت مجموعة من التسويات في المنطقة، بداية باليمن حيث توقفت البنادق وانطلقت عملية تبادل الأسرى في اتجاه تسوية شالة، وانطلقت صيرورة التسوية مع سوريا لعودتها الى الجامعة العربية.
4- الداخل الاسرائيلي:
في ظل هذه الأجواء من التسويات بين مختلف الدول العربية في الشرق الأوسط، يعيش الكيان الصهيوني أزمة غير مسبوقة في تاريخه الاستيطاني. هناك انقسام صعب في الشارع الاسرائيلي حسب تعبير الساكنة الاسرائيلية نفسها. بحيث فقدت جماعات كثيرة من الساكنة الثقة في إسرائيل:
30 في المائة من اليهود لا يريدون البقاء في فلسطين المحتلة.
800 ألف رحلت إلى أروبا في إطار الهجرة العكسية إلى حدود 2021.
تقلصت الهجرة إلى “إسرائيل” من ما يفوق 70 ألف سنويا إلى 15 ألف سنة 2021.
تصريحات لمسؤولين في الكيان الصهيوني تنذر بالانهيار:
أ- دافيد وايز (حاخام)، ناطق رسمي باسم منظمة “ناطوري كارتا” التي تأسست سنة 1935، تعارض قيام “دولة إسرائيل” في أرض فلسطين، وتعتبر ذلك “عصيان لله” ومخالفة للدين وتعاليم التوراة: “لا تسرق، لا تقتل”. وبناء على هذه القناعة يعتبرون أن الصهاينة سرقوا فلسطين من أصحابها ويقتلون أهلها. لذلك يقومون بمساندة الشعب الفلسطيني، ويدعون بزوال إسرائيل.
ب- إسحاق هرتزك، رئيس “دولة إسرائيل”: “إنني قلق بصدد ما يحدث في المجتمع الاسرائيلي. أرى أمام عيني الانقسامات والتصدعات التي أصبحت أكثر عمقا وألما في هذا الوقت، ولا يسعفني إلا أن أفكر بجدية في حقيقة أنه خلال التاريخ نشأت دولة يهودية لمرتين في أرض إسرائيل وانهارت قبل أن تبلغ سنتها الثمانين”. وللتذكير فإن دولة الكيان الصهيوني اقتربت من إتمام ثمانين سنة على تأسيسها.
ج- نفتالي بنيت (رئيس الحكومة السابق)، قال كلاما مشابها: “نعيش أكبر خطر منذ 1973، خطر اقتصادي – سياسي وأمني. إننا نعيش خطر الانهيار. تفككت دولتنا منذ ألفي سنة لمرتين قبل إتمامها 80 سنة، الآن اقتربنا من 80 سنة، هل ستستمر دولتنا؟”.
د- رئيس المخابرات في 9 مارس 2023 يقول: “إسرائيل في مصيبة، إننا أمام الخطر الوجودي. من أجل التفكيك لسنا في حاجة إلى ايران”.
ه- وزير الدفاع (الذي أقاله نتنياهو واضطر لإرجاعه للحكومة أمام الضغوط المختلفة)، قال: “الانقسام تسرب إلى الجيش، عصيان في صفوف جنود الاحتياط”، وفي هذا الإطار أخبرت صحيفة هآرتس الاسرائيلية، بأن جنود الاحتياط لم يحضروا التداريب العسكرية التي استدعوا لها.
5- المقاومة طريق الخلاص:
كان الشهيد أبوعمار ينادي الشعب الفلسطيني، دائما، “شعب الجبارين”، وهو كذلك بحيث ينوع أساليب الصمود والمقاومة باستمرار أمام غطرسة العدو الصهيوني بأطفاله وشيوخه، بنسائه ورجاله، وأصبحت أطياف المقاومة موحدة في شعار تحرير كامل فلسطين من البحر الى النهر بما في ذلك مناضلو فتح في الميدان، مما زاد من عزلة السلطة التي أصبح ايقاع الثورة يفرض عليها اتخاذ بعض المواقف التنديدية بممارسات الكيان الصهيوني.
وأمام مراوحة مشروع الوحدة الوطنية أبدع الشباب الفلسطيني “عرين الأسود” الذي يضم مناضلين من كافة الفصائل بما فيها مناضلين من فتح، وهي مبادرة تجديدية للكفاح الفلسطيني الوحدوي المتجسد في الميدان من أجل المقاومة والتحرير، وهو ما أصبح يرعب الكيان ومستوطنيه فبات جوابه كالعادة ارتفاع منسوب القمع والقتل واستهداف المناضلين وأسرهم وتحطيم بيوتهم وتسليح المستوطنين، وهذا يزيد من ارتفاع وتنوع أشكال المقاومة، في الوقت الذي تزداد جهوزية فصائل المقاومة من الناحية العسكرية في ظل ارتفاع منسوب الخوف لذى الكيان الصهيوني وعدم استعداده لدخول حرب جديدة لأن كل المؤشرات في المنطقة تبين أن أي حماقة لحرب يشنها الكيان الصهيوني سيتكبد فيها خسائر غير مسبوقة قد تعجل بانهياره.
لقد أبرزت المواجهة السابقة على اثر معركة حي الشيخ جراح في القدس أن وحدة الساحات بين غزة والضفة والداخل الفلسطيني المحتل منذ 1948 قد أثمرت انتصارا على العدو مما جعله يسارع الى مصر طالبا تدخلها لإيقاف الحرب. هذه التجربة جعلت فصائل المقاومة تهئ مخططها الاستراتيجي الآن بتنسيق عملها على كافة مواقع جبهة المقاومة تحت شعار “وحدة الساحات” استعدادا لأية حرب قادمة والتي قد تضم بالإضافة الى الضفة والقطاع والداخل الفلسطيني جنوب لبنان، وربما اليمن والحشد العراقي وسوريا. كل المؤشرات تبرز أن أي حرب مقبلة ستكون مغايرة لسابقاتها أمام اتساع دائرة التضامن مع الشعب الفلسطيني في العالم وارتفاع درجة الادانة للكيان الصهيوني.
سلا، 15 أبريل 2023
* مداخلة بمناسبة اليوم العالمي للقدس