إشكالية الواقعي والمتخيل في الرواية التاريخية “منفي موكادور” للدكتور محمد لشقر

إشكالية الواقعي والمتخيل في الرواية التاريخية “منفي موكادور” للدكتور محمد لشقر

أحمد الكامون

  • ماذا يمكن للإنسان أن يقول عند هذا المؤلَّف ،الذي يبدو أن صاحبه الدكتور محمد لشقر ألقى فيه بأوراقه منذ الصفحات الأولى؟:
  • الجنس؟: يقول أنه رواية Roman
  • النوع؟: رواية تاريخية بطلها القايد حدو بن حمو لكحل.
  • زمن الأحداث؟: 1921-1926، بعيد معركة أنوال التي انتصر فيها “الفقيه” سيدي موحند بن عبد الكريم الخطابي على جيوش الاستعمار الأسباني، إلى مرحلة استسلامه للحماية الفرنسية بعد تواطئها مع إسبانيا.
  • المكان: الريف الساحلي الذي كان من نصيب الحماية الإسبانية، وجزء من المغرب الشرقي والغرب الجزائري فيما يخص الحماية الفرنسية.

بعد هذه المعطيات التي يوفرها الكاتب لقارئه منذ الصفحات الأولى، ماذا يمكن لهذا الأخير أن يطلب من رواية د. محمد لشقر؟، خصوصا إذا كان من القراء غير المتمرنين الذين يقيفون عند المستوى التقريري للإبداع السردي.

إن هذه الملاحظات الأولية تضعنا في الحقيقة أمام إشكاليتين الجواب عليهما هو الذي سيؤطر بقية هذا البحث:

1- الإشكالية الأولى:

   أين يمكن أن نصنف هذا العمل الأدبي للدكتور لشقر ضمن الرواية التاريخية المغربية التي عرفت أوجها الآن منذ بداية الألفية الثالثة؟

إذا وقفنا عند هذا الكم من الرواية التاريخية المغربية، يمكن أن نحصرها في نظري في ثلاثة اتجاهات:

  • الرواية العرفانية: وهي التي تتخذ من التاريخ أرضية لتحلق بالقارئ في أجواء صوفية وروحانية، ويمثل هذا الاتجاه عبد الإله بن عرفة بما يسميه “الكتابة النورانية” وتتميز بلغة راقية وشاعرية صوفية.
  • رواية الأسر أو السجون: وهي الروايات التي تتحدث عن الاعتقالات التي صاحبت ما يسمى ب”سنوات الرصاص”وهي اعترافات في شكل سير ذاتية يفصح فيها أصحابها عن ما عرفوه من أنواع العذاب وتتميز بضعف الجانب الفني مع لغة يومية أو أجنبية.

ورغم التقاطع الموجود بين هذا الاتجاه ورواية “أسير موكادو” لمحمد لشقر في جانبي: أ- السجن والاعتقال، ب-سيرة ذاتية للقائد حدو، فإنها لا تدخل في هذه الخانة، لأن الكاتب تطرق لهذا الجانب بشكل وثائقي في مؤلفات أخرى.

  • الرواية ذات النقد الاجتماعي الرمزي: روايات تتخذ كمنطلق لها حقبة من حقب تاريخ المغرب، ولكن مع القفر الرمزي من الماضي لقراءة الحاضر. ويمثل هذا الاتجاه بالخصوص، أحمد توفيق، وحسن أوريد، وكذلك بنسالم حميش وتتميز برصانة اللغة وتعدد المرجعيات التاريخية والثقافية والحرص على الجانب الفني (نسبيا).

   ورواية الدكتور لشقر لا تندرج كذلك ضمن هذا الصنف. فأين يمكن دمجها إذا؟، وماهي خصوصيتها التي تعطيها هذا النوع من التفرد؟ هذا يدفعنا إلى البحث في الإشكالية الثانية.

2- الإشكالية الثانية:

إن خصوصية وجودة العمل الروائي تتمثل في نوعية تعامل الكاتب مع المكونات الأساسية لهذا الجنس الأدبي وهي بالأساس:  المكان – الزمان- الإنسان – الحدث – اللغة أو الأسلوب. وكيفية التعامل مع هذه المكونات هي التي ستجعلنا نحكم بشيء من الموضوعية على العمل الروائي للكاتب الدكتور لشقر.

ويبقى أن نشير بأن الرواية كإبداع أدبي محوره الإنسان، وهو كائن متحرك في الزمان والمكان وفق الأحداث التي يعيشها والتي تجعله يصدر خطابا يترجم علاقته بالآخر، وبالكون وكذلك بذاته. ومن ثم فإن مكونات الرواية التي أشرنا إليها تكون متداخلة ومتشابكة يحيل بعضها على الآخر ويصعب الحديث عن بعضها بمعزل عن الباقي.

وانطلاقا من هذه الملاحظة سنحاول رصد بعض خصوصيات رواية “منفي موكادو” للدكتور لشقر، دون فصل قطعي بين كل مكوناتها، مشيرا في البداية إلى الانطباعات الأولى التي تثيرها هذه الرواية لدى القارئ.

  • استراتيجية الوهم:
  • الانطباع الأول:

الرواية انطلاقا من صورة الغلاف –العتبة- تضعنا في قلب الريف في فترة الحماية من خلال  زي القائد حدو الذي لم نتعرف عليه بعد، تتكون من 24 فصلا يحمل كل واحد منهم عنوانا تقريرا له علاقة بالمحتوى، ثم من خاتمة وملحق خاص بشمال المغرب ومعظم قبائل الريف، ومعجم خاص بمعاني بعض الكلمات إلى جانب قائمة خاصة بالشخصيات الفرنسية والإسبانية التي لعبت دورا مهما بالريف والمغرب الشرقي في تلك الفترة إبان الحماية. ثم منذ بداية قراءة الفصول الأولى للرواية نجد أن الكاتب يحرص على ضبط كل الوقائع باليوم والسنة، مما يعطي الانطباع للقارئ على أنه أمام عمل وثائقي يحتاج إلى درجة عالية من التخيل لكي يصبح رواية أدبية.

  • الاتطباع الثاني:

الرواية تبتدئ بإسم المتكلم الذي يقدم نفسه للقارئ منذ الصفحة الأولى، مما يوحي له بأن الرواية هي من نوع السيرة الذاتية وهو نفس الانطباع الذي نجده في نهاية الرواية عندما يخبرنا القائد حدو، من منفاه بمدينة موكادو بأنه وجد عزاءه في كتابة سيرته الذاتية.

  • الانطباع الثالث:

بدءا من الفصل الأول توهمنا الرواية بأنها تتخذ مسارا خطيا لكثافة الأحداث، وتعاقبها وسرعتها لدرجة تنتفي فيها العلاقة المنطقية بين السبب والعلة:

  • على مستوى الشخصيات: القائد حدو من قبيلة بقوة، تبناه عمه علوش وهو يتيم في السادسة من عمره، ثم ذهب به إلى Port-say لمزاولة القرصنة والتهريب والعمل عند أحد الفرنسيين (لويس Louis). دخل إلى المدرسة وتفوق في الدراسة بوهران، ثم أصبح مخبرا لدى القنصلية الفرنسية بوجدة ضد الإسبان الذين يعملون لصالح ألمانيا النازية، ثم طيارا حربيا، ثم تاجرا، إلى أن يدخل في خدمة الفقيه سيد محند بن عبد الكريم الخطابي، الذي لا يعرف شيئا عنه إلا من خلال عمه، والذي سيعيّنه قائدا ملحقا بالعلاقات الخارجية إلى جانب صهره أزرقان.
  • على مستوى الزمان: الأزمة متداخلة ومختزلة ومتعاقبة: القفز من 12 سنة إلى 30 سنة.
  • على مستوى الأمكنة: الانتقال السريع بين الأمكنة: بقيوة، وهران، بورساي، تاوريرت، أجدير… لا يفسح المجال للوقوف عند وصف الفضاءات، وبالتالي استثمارها الدلالي والرمزي مثل ما نجد في الإبداع الروائي.

   انطلاقا من هذه الانطباعات نرى أن العمل يتبع السير الكرونولوجي الخطي للأحداث بطريقة متسارعة  مع الاختزال في وصف الأزمنة والأمكنة.

   هناك شخصية تبدو في البداية مهمة ثم تختفي ولا تظهر إلا في الأخير، والقائد حدو يبدو أنه يتحرك بدون ذاكرة (غياب العائلة والموطن) إذ يعتبر نفسه خادما وفيا لفرنسا وهمزة وصل بينها وبين الفقيه سيدي محند فقط. كما يعتبر أن خلاص الريف سيأتي من عندها، وبخاصة من المقيم العام بالرباط (Marichal Lyautey) المارشال اليوطي. لقد استكان لما كان يوهمه به صديقه منذ حلوله ب Port-say وهو ابن 12 سنة، Daniel، ابن Louis بالتبني، وكذلك صديقه الفرنسي Gabrielli المراقب المدني بتاوريرت [1924-1926]. أما أزرقان الذي يتقاسم مع القايد حدو قضية الريف والدفاع عنها، فيبدو ندا مزعجا له، يتعقبه في حركاته وسكناته لأنه لا يثق في صدق نواياه.

   أما الفقيه سيدي موحند فيبدو في هذه السيرة شخصية ذكيه، تنصت كثيرا ولا تتكلم إلا لماما، غيورا على هويته الريفية أمام الأطماع الإسبانية، ويقود الخيوط من الخلف بحكمة ودراية بخبايا اللعبة السياسية، ولكنه يبدو في الرواية وكأنه يسير على أرض هشة، بدءا من حاشيته إلى القبائل المحيطة به، إلى القوة الاستعمارية الفرنسية التي راهن عليها لمواجهة الإسبان.

   هذا ما يمكن أن توحي به قراءة سطحية ومستعجلة لرواية الدكتور محمد لشقر. إلا أن الأمر ليس كذلك تماما، وهنا تكمن عظمة هذه الرواية وبراعة صاحبها.

  • الخروج من التيه:

   تعتبر النقطة المفصلية في هذه الرواية هي اللحظة التي انكشف فيها التواطؤ الفرنسي-الأسباني ضد قضية الريف، واختيار منطق الحرب على المساعي السلمية وغلبة أطروحة المارشال Petain على سياسة Lyautey.

   فكل الانطباعات السابقة عن الرواية ستنقلب رأسا على عقب  على كل المستويات، إذ نجد الرواية تتخلص شيئا فشيئا من ثقل الوثائقية التاريخية لتلج بالقارئ إلى فسحة الإبداع الأدبي:

  • مناطق العبور: هناك بعض الفصول في الرواية يمكن اعتبارها كمساحة للعبور من مستوى الوثائقية إلى مستوى الأدبية، ومناسبة لاستراحة القارئ من كثافة المعلومات التاريخية. وأشير في هذا الصدد، كأنموذج، إلى الفصل العاشر “ملاكان يبعثان إلى الريف” ويتعلق الأمر بدخول الطبيبة الفرنسية Mlle Ponzo إلى منطقة الريف، برفقة الدكتور Gallois من وجدة والقائد حدو، لمساعدة زوجة أزرقان، والأخت المفضلة لأمير الريف، رحمة، التي خضعت لعملية ولادة عسيرة.

   في هذا الفصل يجد القارئ نفسه لأول مرة داخل الريف وهو يسير خلف الطبيبين اللذين يقطعان جباله وأوديته على ظهر الدواب.

   في هذا الفصل يحضر الريف بجباله، وأوديته، ورجاله في بساطتهم واندفاعاتهم، في تقاليدهم المحافظة، وانبهارهم بثقافة الأجنبي (ص 138). وهذه من بين الاستراتيجيات الاستعمارية في الاعتماد على الطبيب والمبشر الأنطروبولوجي للتوغل في المناطق المعزولة، لرصد العادات والتقاليد والذهنيات عند الأهالي.

   في هذا الإطار يدخل كذلك الفصل (14) المتعلق بانتشار وباء الجذري بالريف بسبب الجفاف وانتشار المجاعة وعودة الممرضة Mlle Ponzo، إذ نجد فيه من جديد وصفا للفضاء الريفي والحديث عن تضاريسه الوعرة وعن ذهنيات الأهالي ومعتقداتهم التي جعلتهم يربطون الوباء بأسباب غيبية وخرافية، والإشارة إلى سلوك الممرضة الإنساني التي جعلتهم يكسبون ثقتها في النهاية.

   ثم بدءا من الفصل (12) إلى الفصل (18)، الذي يتحدث عن فشل سياسة اليوطي بالريف، وفضح إزدواجية Daniel في تعامله مع هذه القضية، التي كان يبدو متحمسا لها، وتسرب الشك إلى مسلمات القايد حدو الذي كان يرى في هذا الجانب الفرنسي سندا لقضية الفقيه سيدي موحند الذي يلقبه Daniel بالرئيس، أصبحت الرواية تتخد مسارا آخر عكس ما كانت عليه في البداية. وهذا الشعور لدى القارئ المتفطن يمكن أن نستشفه في:

  • أن هذه الفصول من 12 إلى 18 هي بمثابة وقفة المحارب (القارئ) الذي كان مدفوعا بتراكم الأحداث.
  • الخروج من الجانب السردي-الوثائقي، إلى الوصف الأدبي يشمل البيئة الطبيعية – وبخاصة منطقة الريف- وكذلك تفاعلات النفس البشرية، ويتجلى هذا في:
  • الطبيبة في تعاملها مع الأهالي بالريف،
  • مراجعة القايد حدو لنفسه بعد اكتشاف مساندة صديقه Daniel لسياسة اليوطي العدوانية ضد تجربة الريف.

   بعد هذه الفصول سيشعر القارئ أنه لم يكن يسير في خط مستقيم في الرواية، كما كان يتوهم، وإنما كان يصعد تدريجا إلى قمة الجبل، وهو الفصل (18) في الرواية الذي سيبدأ منه الانحدار بعد فترة توقف لاسترجاع الأنفاس في الفصول 14-15-16-17 بالخصوص. فانطلاقا من الفصل (18) سيشعر القارئ أن بنية الرواية لها شكل هرمي يتمثل في الصعود والهبوط وليس خطيا كما كان يعتقد منذ البداية.

  • المنحدر الخطير:

   وهو الفصل الذي يحمل عنوان “تحول طفيف نحو الفراغ” مع كلمتين رمزيتين أساسيتين وهي “التحول” و”الفراغ” إذ تعتبر في نظري فصلا مفصليا في تحول الرواية التي اتخذت مسارا عكسيا لما سارت عليه منذ البداية، وعلى كل المستويات:

  • الأحداث: أخذت تسير في اتجاه معاكس لما كان يتوقعه الفقيه ومناصروه. لقد وجد نفسه في النهاية بين فكي الاستعمار الإسباني والفرنسي، ولما ضاق عليه الخناق تخلت عنه قبائله ودب الخلاف بين حاشيته مما جعله يختار طريق الاستسلام التي ستحفظ ماء وجهه ولا تؤثر على صموده وعزيمته.
  • الزمن: توقف ليترك المجال لمحاسبة الذات بدءا من صنع الأحداث . فبدلا من النفس الملحمي الذي طبع الرواية منذ البداية، الذي يتجلى في سرد الأحداث والبطولات، أصبح تراجيديا غلبت عليه الحوارات المتوترة “والمنولوكات” الجارحة كنوع من قرع الذات.
  • الشخصيات: عرفت نوعا من الإندحار والانهزامية وفي مقدمتها القايد حدو كما سنرى:
  • اليوطي (M Lyauty): أقيل من منصبه ليحل مكانه المارشال Petain الذي سيقطف في طبق من ذهب ثمار سياسته وبخاصة ما يتعلق بقضية الريف بدءا من لقائه بتطوان بالجنرال Primo De Rivera.
  • دنيال، كبريلي (Daniel, Gabrelli): تخليا عن مساندة مشروع الخطابي وانضما إلى الأطروحة الاستعمارية في الحرب على منطقة الريف، متنكرين لالتزاماتهم وصداقتهم مع القايد حدو.
  • الفقيه وحاشيته: أصابهم نوع من التصدع والوهن وهم موحند، محمد، أزرقان، حدو، بعد أن اكتشفوا تواطؤ الاستعمار الفرنسي مع اسبانيا للقضاء على مشروع سيدي موحند، الذي أصبح إلى جانب صهره أزرقان، يشكّان في صدق نوايا القايد حدوو باعتباره عميلا لفرنسا.
  • العم علوش: شخصية تربت داخل الصراع مع البحر من أجل الحصول على القوت، ومع المخزن لممارسته القرصنة، وفي صفوف حاشية الفقيه والمدافعين عن قضيته. ولما وصلت إلى طريق مسدود، استمر علوش في الركوض وراء قضية ضبابية تغدي نزعته الحربية.

   مما يلاحظ في بناء هذه الشخصية، التي ترعرعت داخل ثقافة الصراع، وأصبحت تنتقل به فطريا من مجال إلى مجال، أنها أصبحت في مستوى النخب المثقفة الواعية والملتزمة التي تصنع التاريخ. إذ نجد تصريحاته، وكذلك القايد حدود، تتهافت عليها الصحافة اليسارية الفرنسية وتقيم وتقعد الرأي العام الفرنسي. مما يجعلنا نعتقد أنها شخصية، حتى وإن كانت مستوحاة من الواقع، خضعت للعديد من الترميمات على يد الكاتب وهذا يصب في أدبية الرواية طبعا.

  • القايد حدو: وهو بطل هذه الرواية –التراجيديا لأن مسار حياته شبيه بتطور المأساة الإغريقية في صراعها مع قوى قاهرة تفوق طاقتها الإنسانية. وفي حالة روايتنا الاستعمار بشقيه الفرنسي والإسباني- ولكنها تستمر في الصمود والمواجهة إلى أن تبلغ أقصى مستوى قوتها (Le climax) وهو ما يقابل العقدة في التراجيديا والفصل (19) في الرواية- ثم يبدأ السقوط والانهزام مع التقوقع داخل الذات والعودة إلى جلدها إلى حدود الهستيريا ويبلغ الحد بالقايد حدو إلى الحديث عن البرانويا Paranoïa، إذ لم يعد يقدر على الفصل بين الأشياء ونقيضها.

   والمتبع لعناوين فصول الرواية، بدءا من الفصل (19) إلى الأخير، يلمس كيف أصبحت تحمل دلالة مأساوية تنذر بالاندحار والسقوط:

  • 19: “بين الحرب والسلم”
  • 20: “لا قبول ولا رفض”
  • 21: “سيرة فشل ممنهج”
  • 22: “توفيست الملجأ الأخير”.

   وهذا الفصل لوحده، الذي يضعنا زمنيا بعد الفشل محادثات وجدة، يختزل كل مأساة الريف برمته لما عرفه من وباء وقصف مكثف لطائرات المستعمر، واستماتة المجاهدين من الأهالي رغم قلة العتاد، وشح المئونة مما سارع في سقوط أجدير، وتضييق الخناق على تاركيست، وتخلي بعض رجالات الفقيه سيد موحند عن أميرهم مما زاد من شعور المرارة واليأس عند القائد حدو.

   في هذا الفصل يلجأ الكاتب إلى تقنية السينما المتمثل في “الكميرا المتثاقلة” في تصوير الأحداث، والوقوف عند بشاعة الجرائم الإنسانية والبيئية التي ارتكبها التحالف الفرنسي الإسباني بالريف.

  • 23: :القرار الكارثي”
  • 24: “تاركيست، نهاية الحلم”

   تركيب الأحداث بهذا الشكل، وإخضاعها للبناء السردي التقليدي، كما يبدو من بداية، وعقدة، ونهاية، مع تكثيفها وتمطيطها تجعل القارئ ينتقل من فينة لأخرى من المستوى التاريخي والوثائقي إلى المستوى الروائي-التخيلي. والكلمات التي أصبحت تتردد في تأملات القائد حدو واستيها، ماته مع بداية الإحساس بالهزيمة، هي “مغامرة” ويقصد بها تجربته القاسية بالريف، يقول بعد سقوط تاركيست: “إنها بداية نهاية مغامرتنا” (ف23، ص222). نفس الشيء قاله لعمه علوش عند رفض أن ينساق خلفه بعد الهزيمة” أنا لا أتأسف على انضمامي لهذه المغامرة الجميلة لشعبي، … فسفينتنا بدأت بالغرق لا محالة… وسأبقى إلى جانب قبطانها لإحساسي بأنني مسئول كذلك عن جرها إلى مياه عكرة” (ف23، ص:326). إلى جانب هذه الكلمة، نجد كذلك الحديث عن “مأساة” تتردد في الفصول الأخيرة، بدءا من فراقه بعمه الذي يصفه “بتمزق مأساوي، وأعتقد أنه انفصال إلى الأبد” (ف.23، ص:327). نفس الصورة حاضرة في حديثه عن الأمير عند استسلامه للفرنسيين: “أنا أتساءل لمعرفة هل هو وحده المسئول عن إخفاقه وانهزامنا والنهاية المأساوية لحلمنا” (ف.23، ص:333). وفي نفس السياق يقول عنه: “لقد حضرت لمعاينة آخر فصل لمأساة يعيش بطلها آخر مراحله الدرامية” (ف.24، ص:341). ثم يختم “لم أكن أتوقع أبدا هذا الانهزام المأساوي، والنهاية التعسة” (ف.24، ص:351).

   هذه التعريفات التي يطلقها الكاتب على التجربة المريرة التي عاشها القايد حدو بالريف، هي التي تجعل الرواية في نظرنا ترقى من مستوى الوثائقية إلى الأدبية، ومن مجال التاريخ إلى فضاء التخيل، وبالتالي يعطيها مشروعية تسميتها ب”الرواية”، يبقى السؤال المطروح: في أي نوع من الروايات يمكن تصنيفها إذا وهي تضم في بنياتها، ما سبق أن أشرنا إليه، التاريخ، والسيرة الذاتية، والمغامرة والتراجيديا في حبكة خيوطها وسوء نهايتها؟. هل يمكن أن نختزل الجواب عن هذه الإشكالية في الاقتناع بأن “منفي موكادو” هي رواية ذات بنية تركيبية ثنائية: بنية تاريخية وثائقية سردية، وبنية أدبية في تصوير الصراعات النفسية لشخصيتها، وتعارض وجهات نظرها فيما يتعلق بقضية الريف ومواجهة المستعمر، إلى جانب وقفات الكاتب المعدودة في وصف جوانب من فضاء الريف في قساوة تضاريسه وأنفة أهله وبساطتهم.

   إلى هذه الفصول الأخيرة من الرواية يعطينا الكاتب الإحساس بأننا أمام عمل درامي مأساوي بسبب النهاية المحزنة التي آلت إليها الأحداث، وبخاصة “للفقيه” سيدي محند وخادمه القايد حدو اللذين كانا ضحية خدعة الاستعمار الفرنسي. وانتقال الرواية من البنية السردية للأحداث إلى البنية الهرمية التي ترسم لنا التطورات المتناقضة للشخصيات وصراعاتها النفسية الداخلية، يقودنا أكثر إلى شكل المأساة الإغريقية التي تتطور أحداثها في شكل تصاعدي حتى تبلغ ذروة التوتر، ثم تأخذ في الانحدار إلى النهاية المحتومة لأبطالها.

   هذه الملاحظة هي التي تدفعنا إلى التساؤل: هل هذه الرواية ذات بنية تركيبية ثنائية فعلا؟ فالقراءة التي اعتمدناها إلى الآن تبدو أنها تتبنى هذا الاحتمال، وقد يبدو هذا المنحنى سليما لمن يروم القراءة السريعة للرواية منجرفا مع أحداثها والتحولات المؤلمة لمصير ومسار شخصياتها. إلا أن الأمر في الحقيقة ليس هكذا كما يبدو.

VI- شفيرة العتبات: The Lachkar cod

  • عتبة الخروج: إن القارئ المتأني الذي يقف عند معنى الكلمات لا شك أن تسترعي انتباهه كلمة “Legende” (خرافة أو حكاية) التي نعت بها الكاتب حياة القائد حدو، وهذا ما يزيد في تعقيد الإشكالية التي تطرحها كلمة رواية “منفي موكادور”. في هذا التعليق الأخير ويبدو الكاتب كالقاص الشعبي “الحكواتي” الذي يختم قصته “بطقس الخروج” المعهود في الحكي: “مشات حجيتنا مع الواد الواد وداوها أولاد الجواد”، يعني أنها لم تنته ولم تمت، وإنما انتقلت إلى أيادي سخية ستجود بها على الأجيال اللاحقة وهكذا دواليك إلى الأبد. فالكاتب محمد لشقر، وهو يصف سيرة القايد حدو بحكاية أو خرافة (Legende)، يعني أنها أصبحت جزءا من الذاكرة الجمعية والوجدان المشترك، وبالتالي فهي لا تنتهي بنهاية الكتاب، وإنما ستولد من جديد كما يولد طائر الفنيق من رماده. ولكي تبقى كذلك، لابد أن تعتمد على بنية دائرية على غرار الحكايات والأساطير الإنسانية، دائمة الولادة والتجدد متحدية حواجز الزمان والمكان.
  • عتبة الدخول: إن القارئ الذي يطوي صفحات هذه الرواية مباشرة بعد تمام ما يعتبره الفصل الأخير، يخسر الشيء الكثير من جماليتها، لأنه لو عاد إلى الفصل الأول من جديد لأدرك أنه هو الفصل الأخير للرواية التي تبدأ عادة من الفصل الثاني، ولا استدرك الخدعة التي أقحمه فيها كاتب الرواية. إن الوعي بهذه الخدعة الفنية تجعله كذلك يكتشف بأن بنية الرواية دائرية، وليست خطية ولا هرمية كما يُعتقد. فهي شبيهة بصورة الثعبان الذي يعض ذيله رمز كل الأطباء كمحمد لشقر.

   والجانب الثاني الذي تتجلى فيه البنية الدائرية في عتبة الدخول هو في قولة فرانز فانون  Franz Fanon من كتابه “المعذبون في الأرض”، التي تعتبر بمثابة خلاصة لمغزى سيرة القائد حدو، وكذلك قضية الريف، وهي الكشف عن الوجه البشع للاستعمار وعن نواياه المبيتة… فمهما اختلفت أوصافه ونعوته يبقى هدفه واحد وهو استغلال الشعوب المستضعفة بعيدا عن كل القيم الإنسانية  التي يتبجح بها. وهذا هو الدرس الذي لم يستوعبه القايد حدو في البداية حتى فوات الأوان. لقد جعله ولاءه الأعمى لفرنسا الخاسر الأكبر في الرواية إذ فقد ثقة الجميع الذين ضحى من أجلهم وأصبح فريسة للعزلة والوحدة، قبل أن يتم نقله إلى سجن أزمور ونفيه في النهاية إلى مدينة موكادو.

   في هذا الإطار تبدو صورة الغلاف، التي تمثل الخطوة الأولى في عتبة الدخول إلى الرواية، معبرة بشكل فني احترافي عن عمق الوحدة التي سقط فيها القايد حدو. فالصورة تبدو كأنها محيطة بفضاء هلامي، لا أطار خلفها يربطها بالبشر، ولا بالشجر، ولا بالحجر، كأن حياته عادت إلى درجة الصفر في الوجود مع الاختلاف أنها تحمل وجدانا جريحا وذاكرة مؤلمة. فالابتسامة التي ارتسمت على شفتيه تبدو مبهمة كابتسامة الموناليزا، لا ندري أهي ابتسامة الرضى بما آلت إليه حياته من بؤس بعد عز، وجحيم بعد نعيم، أم هي سخرية من تقلبات القدر الذي خانه كما خانته السلطات الفرنسية.

الخلاصة:

   قد يعتقد القارئ وهو يقطع الفصول الأولى من رواية “منفي موكادو” أنه أمام نص تاريخي وثائقي بامتياز، وأن صاحبه محمد لشقر الذي وسمه “برواية”، ما هي إلا خدعة منه ليتملص من تحمل مسئولية بعض الحقائق السياسية التي كشف عنها، والتي يريد أن يضعها كلها في سلة المتخيل. لكن المرجعيات الوثائقية الدقيقة في عمله تفند هذه الخدعة المفترضة لدي القارئ. فالتاريخ حاضر بثقله في عمله السردي هذا، الذي لم تطغ عليه الأساليب البلاغية ولا الصور الفنية والرمزية كما نجد في الرواية التاريخية المغربية الحديثة مثل أعمال أحمد توفيق، وعبد الإله ابن عرفة، وحسن أوريد وغيرهم، رغم إتقان محمد لشقر للغة الفرنسية وأساليبها التي طوعها لخدمة فكرته بكل شفافية.

   فإذا كان الجانب الأدبي عند هؤلاء الكتاب يتجلى بالخصوص في الحذلقة اللغوية ومستويات استعمالاتها إلى درجة تجعل القارئ ينتقل من واقع تاريخي إلى واقع أدبي –أو فني عندما تنقل هذه الأعمال إلى السينما كما حدث مع رواية “جارات أبي موسى” لأحمد توفيق- فإن اللغة عند لشقر تبقى لاصقة بالتاريخ وبتصوير الأحداث تصويرا واقعيا. إذا فالجانب الأدبي لا يوجد عنده في هذا المستوى، رغم امتلاكه لناصية اللغة الفرنسية. فالجانب الأدبي في روايته يتجلى بالأساس في خصوصية بنائها السردي الذي يجمع ما بين أجناس أدبية متعددة:

  • البناء السردي التقليدي المسترسل خطيا كما يبدو من خلال التتابع الكرونولوجي لأحداث من خلال فصول الرواية،
  • البناء الدرامي الهرمي الذي يرصد عملية الصعود والسقوط في مسار حياة القايد حدو، كما يحدثنا هو عنه وفقا “لميثاق السيرة الذاتية الذي يجمعه بالكاتب محمد لشقر،
  • البنية الدائرية للسرد التي اعتمدها الكاتب ليرقى بعمله من المستوى الأدبي إلى المستوى الأسطوري والخرافي كما ينعته بهذا في الفصول الأخيرة.

وإلى جانب الصراعات النفسية للشخصيات البارزة في الرواية التي هي من صميم أدبيتها، نذكر كذلك وقفات الكاتب في تصوير جوانب من طبيعة الريف التي يؤثت بها بعض فضاءات الرواية مع الحديث عن سلوكات بعض الأهالي وتصرفاتهم التي تلعب دور “الكونبرس” في الرواية وتدخل في إطار المتخيل أكثر من انتمائها للتاريخ.

Visited 9 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

أحمد الكامون

أستاذ باحث، مركز الدراسات والبحوث الاجتماعية والإنسانية بوجدة (المغرب)