الاستحقاق الرئاسي في الغربال السياسي
د. وفيق ريحان
في لبنان، حيث تكثر الرؤوس الحامية في السياسة المحلية، وتبدي أقصى المرونة في اِتباع التعليمات الخارجية، فسرعان ما يتحول المرشح التوافقي إلى مرشح مواجهة مع القوى السياسية المنافسة له، بحيث أصبح اختيار الرئيس التوافقي عملية شبه مستحيلة، في ظل إصرار أي من الأطراف أو القوى السياسية الممثلة في البرلمان على طرح مرشحها من جانب واحد، واعتباره بمثابة المرشح التوافقي، لأنه بنظرها يتمتع بكافة المعايير والأوصاف التي ينبغي أن يتمتع بها الرئيس في هذه المرحلة الدقيقة والحساسة من تاريخ الوطن، وقياساً بإعادة ترميم النظام السياسي بما يتلاءم مع التوجهات السياسية العامة لهذا الفريق، سواء وافق عليها الفريق الآخر أو لم يوافق عليها، وبالتالي نعود إلى المربع الأول، ربما من أجل التفاهم مسبقاً على طبيعة ومواصفات المرشح التوافقي من الناحية السياسية والقانونية والدستورية.
فمن هو المرشح التوافقي؟
يمثل المرشح التوافقي أو مرشح “التسوية السياسية” بالنسبة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية في لبنان تحت قبة البرلمان، وإستناداً الى روحية وثيقة الوفاق الوطني للعام 1990 هو إجتماع أو تلاقي إرادة جميع أو غالبية القوى السياسية والكتل النيابية المختلفة على اختيار هذا المرشح، حيث تتجسد من خلال عملية اختياره أو ترشيحه، غالبية المواصفات والمعايير الشخصية والسياسية وما يتمتع به هذا المرشح من رؤية سياسية واقتصادية واجتماعية، وعلاقات دولية وأن يكون محاوراً بارعاً ومبتكراً داخلياً وخارجياً من أجل مصلحة لبنان العليا، وأن لا تشكل شخصيته أو تصرفاته أي استفزاز للمشاعر السياسية أو الاجتماعية ذات الأبعاد الطائفية أو المذهبية المتنوعة، وحيث ينبغي أن لا تقل نسبة تأييده عن ثلثي أعضاء المجلس الذي يتألف منه المجلس النيابي قانوناً، كما ينبغي أيضاً أن تلتف حوله غالبية القوى السياسية التي يتألف منها البرلمان، وأن يكون مقبولاً على المستوى الشعبي والنقابي والإداري، وأن يمثل طموحات اللبنانيين بالتصدي للأزمات المحدقة بالتعاون مع الجميع بطريقة متوازنة، ولعل هذه الميزة الأخيرة هي الأصعب على مستوى الالتزامات العملية والواقعية.
هل الرئيس التوافقي هو الخيار الأمثل للبنانيين؟
لم ينص الدستور اللبناني على طائفة رئيس الجمهورية في لبنان، بل تكرست عملية اختياره من الطائفة المسيحية المارونية منذ انبثاق الميثاق الوطني للعام 1943، كما تكرست رئاسة المجلس النيابي للطائفة الشيعية ورئاسة الحكومة للطائفة الشنية، ولطالما كانت عمليات انتخاب رئيس جديد للجمهورية مثقلة بالهموم الأمنية والسياسية والاقتصادية منذ دستور العام 43 حتى اليوم، بالرغم من بعض التوافق المحلي الذي كان يفرضه الخارج علينا لتجاوز الاستحقاقات الدستورية دون إراقة للدماء، أو دون ضوضاء سياسية تعكر صفوة حساباتهم السياسية الخاصة بهم على حساب مصلحة الوطن لذلك، فإن انتخاب الرئيس الراحل “فؤاد شهاب” لاقى إجماعاً توافقياً مميزاً، لكن عهده لم يخل من الاضطرابات الأمنية من وقت لآخر، كما أن اختيار الرئيس “إميل لحود” كان بغالبية مميزة، لكن عهده كان مثقلاً بالانقسامات السياسية. كما أن عهد الرئيس “ميشال سليمان” قد حاز على أغلبية مميزة في البرلمان إثر اتفاق الدوحة، لكنه لم يسلم من بعض الانتكاسات السياسية والانقسامات التي أطاحت بحكومة الرئيس “سعد الحريري”. كما أن عهد الرئيس الأسبق “ميشال عون” الذي استند إلى غالبية مميزة في الانتخابات الأخيرة، وبعد تعطيل للانتخابات استمر لمدة عامين ونصف العام، لم يكن موفقاً ولقد رافقته أحداث أليمة، كحادثة جريمة انفجار مرفأ بيروت، وجريمة سرقة أموال المودعين والتدهور الاقتصادي والمالي والمصرفي وخلاف ذلك من الأزمات. لذلك، فإن مجرد اختيار رئيس توافقي بالاستناد إلى تسوية سياسية بين أركان القوى السياسية الطائفية، لا يخلو من الألغام السياسية التي قد تنفجر إزاء أية حالة خلافية، قد تكون سياسية أو ذات بعد طائفي فيما خص توزيع الحصص الوزارية أو الإدارية، فإن أي خلل في التوازن الطائفي (أو دعسة ناقصة) ، سوف تطيح بكل مرتكزات التوافق المفترضة، وتعيد الأمور إلى مربعها الأول، أي إلى القاعدة الطائفية التي تشبه الرمال المتحركة والتي لا تبني وطناً حقيقياً.
هل اقترب موعد انتخاب الرئيس العتيد؟
لقد بدأت عملية حلحلة العقد عند كلا الطرفين الأساسيين المتنافسين فلقد تخلى محور الممانعة وحلفاؤه عن التصويت بالورقة البيضاء، مصراً على ترشيح الوزير السابق السيد “سليمان فرنجية” وفي المقابل، جرى اعتماد الوزير السابق السيد “جهاد أزعور” عن فريق المعارضة السياسية بديلاً عن المرشح “ميشال معوض”، في ظل سكوت وترقب أكثر من 28 نائباً ينتمون الى مجموعة التغييريين المستقلين وشخصيات أخرى، قد يرجحون أية عملية انتخابية ستجري في أقرب فرصة ممكنة، لكن الأمر لم يحسم بعد بصورة نهائية، وإن حظوظ النجاح ما زالت متعثرة، وتقف في أسوأ الأحوال عند قطبة تعطيل النصاب بـ43 نائباً معتكفاً، وفي أحسن الأحوال عدم بلوغ غالبية الثلثين بـ86 نائباً، أو حتى بالنصف زائد واحد أي ب65 نائباً فيما لو استمرت جلسات المجلس دون اللجوء إلى عملية التعطيل من أي فريق داخل المجلس.
لذلك، نحن تقدمنا قليلاً بالنسبة لحصر عدد المرشحين للرئاسة، لكننا لم ننتزع بعد اللغم السياسي.
ما الأسباب التي ما زالت تحول دون نجاح عملية الانتخاب؟
إن الوهم السياسي الذي تؤمن به القوى السياسية الطائفية وفق معزوفة “التوافق”، هو الذي يساهم عادة في تعطيل الممارسة الديمقراطية داخل البرلمان وخارجه، كما أن امتناع هؤلاء عن الالتزام بروح النصوص الدستورية هو سبب إضافي لعدم نجاح تلك العملية، ولقد استندت النصوص الدستورية بعد الطائف وقبله إلى صيغة ما يسمى بالوفاق الوطني التي ساهمت في تخلف النظام السياسي وتراجع صيغة العيش المشترك في ظل الدولة المدنية. لذلك، ومن أجل إنجاح العملية الانتخابية، فلا بد من الالتزام أولاً بنص المواد (73،74،75) من الدستور، ثم العمل على تعديل (المادة 49) من هذا الدستور، والخلاص من فكرة تأمين نسبة الثلثين لتأمين النصاب بعد فشل جلسة التصويت الأولى، وجعل النصاب محققاً بالأكثرية المطلقة، أي بالنصف زائد واحداً، واعتماد النصف المعطل بدلاً من الثلث المعطل، لكي تتم العملية الانتخابية بصورة ديمقراطية، ولتحكم الأكثرية وفقاً لهذا المبدأ، ولنودع نظام التوافق الوهمي الذي لا يبني الأوطان.