صندوق بوتين؟!

صندوق بوتين؟!

محمود القيسي
“… في كل جهة، كانت الخيولُ السودُ منتشرةً،
وكان الرأسُ كلُّه في الغبار يرقد، إذْ كان فاتنًا منذ وقت قريب؛
والآن كان زيوس (رب السماوات) قد سمح لأعدائه
أنْ يُذِلُّوه على أرضه التي وُلِدَ فيها…”
*سيمون ڤايل – الالياذة أو قصيدة القوة

“صندوق باندورا”، أو صندوق الأسطورة اليونانية القديمة… حسب الاسطورة الإغريقية يحتوي صندوق بندورا على كل الشرور في العالم ومن بينها الشيخوخة والمرض والحرب والمجاعة والبؤس والجنون والرذيلة والخداع، وكذلك الأمل.. وعندما فتحت باندورا الصندوق المُحرم نزولا عند إلحاح “آله الشر” خرجت منه كل الشرور إلى العالم، ولم يتبق في قاع الصندوق غير “الأمل” الذي كان بطيء الحركة عندما سارعت باندورا بإعادة إقفال الصندوق إلى الأبد!؟.. لا يختلف الأمر كثيرًا عن أولئك الذينا صنعوا من الحروب والاستبداد والموت والقتل والتشريد واللجوء والجوع والمرض والبؤس والخداع والجنون صناديقهم الخاصة في عالم “الحقيقة” الواقعية التي تعيشها شعوب العالم تاريخياً في صناديق الطغاة منذ “ملحمة هوميروس” أو “الالياذة” إلى أيامنا هذه!.. الملحمة التي أصبحت ثقافة وحضارة (الأنسان) أخطر كائن حي على وجه الأرض دون منازع.. الصراع الذي بدأ حسب “الالياذة” حين ((تنقسم الآلهة، ويتبادلون الشتائم بينهم، بعضهم يساعد اليونانيين والبعض الآخر يساند الطرواديين)). وهكذا أُعلنت حرب طروادة، وتحققت لكبير الآلهة زيوس الذي رأى (((ضرورة إنقاص العدد المكون للجنس البشري المتزايد بصورة مدهشة))).

لقد كثُرت وتعددت المواقف والمعلومات المتناقضة حول حقيقة ما جرى ويجري في (مثلث) روسيا الاتحادية وروسيا البيضاء وأوكرانيا مؤخرا، دون إن يأخذ أحدٍ في الحسبان والحسابات التفصيلية والتفضيلية والتكاملية، إن نظرية المؤامرة جزءًا أساسيًا وتأسيسًا لا يتجزأ في (عقلية الرئيس بوتين الباطنية المخابراتية العميقة).. دون ان يأخذوا في الحسبان والحسابات التفصيلية الدقيقة في رياضيات التفاضل والتكامل السياسي، إن قوات / ميليشيات “فاغنر” أصبحت في روسيا البيضاء، أي في أراضي الاخ الأصغر لروسيا الاتحادية، والذي يعني وبكل دهاء أنها أصبحت في (((أقرب نقطة حدودية من العاصمة الأوكرانية كييف))).. هذا دون ذكر إن الخطوة الثانية في عقل الانتليجنسيا المخابراتية الروسية هي (تفكيك) منظمة فاغنر بشكل (صوري) أتقنته وبرعت فيه المخابرات الروسية تاريخيًا.. حيث أن منظمة فاغنر ما زالت تعمل وتجند أفراد وضباط وخبراء من جنسيات وهويات متعددة في أماكن أخرى عديدة من العالم: “افريقيا والشرق الأوسط وأوروبا الشرقية على سبيل المثال وليس الحصر”.. والتي تتشابك وتتضارب فيها المصالح والاستخدمات بين أكثر من دولة كبرى إلى جانب روسيا الاتحادية والتي أصبحت معها فاغنر منظمة متعددة الأهداف والهويات العالمية القاتلة!؟…

فاغنر المدعومة والمدعمة تاريخياً من الأوليغارشية الروسية وريثة الحزب الشيوعي السوفياتي السابق الذي ترك من الثروات الممتدة من الترسانة العسكرية الأقوى والأكبر والتي هي بدورها تحولت إلى منظمات مرتزقة حسب العرض والطلب.. الأوليغارشية الروسية التي تنام في حضن الرئيس بوتين ليلًا وتستيقظ في جيب الكونت راسبوتين الجديد (فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين) فجرًا.. اما الخطوة الثالثة القادمة هي انخراط او خرط تلك القوات المرابطة في أراضي حليف روسيا الاتحادية أو توأمها الجيوسياسي – البيولوجي – الاستراتيجي – التاريخي في صفوف القوات الروسية المسلحة على قاعدة ونظرية الامبراطور نابليون بونابرت القائلة بضرورة وجود “طابور خامس” دائم في كل الحروب وفي كل الظروف.. وفي القوات العسكرية المسلحة والقوات (المدنية) خارج الحدود والأسوار وداخل الحدود والأسوار!؟… وتبقى جميع التصريحات تمارس عاداتها السياسية تلف تدور من هنا وتدور وتلف من هناك.. ويبقى أهمها على الإطلاق مراكز الدراسات والأبحاث الأميركية والغربية الرسمية الموثقة والتي تقول في جملة واحدة في إيجاز شكسبيري وجودي بإمتياز وجودي يثير الشك والريبة.. أو يثير الشكوك الواقعية في فنون السياسية الواقعية.. إبتداءً من ألف باء الواقعية السياسية وصولًا إلى يائها التي تقول بالفم الاميريكي والغربي الملآن: “إن أي اهتزاز أو خلل يصيب روسيا الاتحادية يضع العالم كله في مكان لا يمكن لأحد توقع نتائجه المرعبة على العالم كله دون أي أستثناء.. أو دون أي أستثناء يذكر”!

ما يعجبني في جورج أرويل كأديب ومفكر كبير لديه رؤية ثاقبة بعيدة المدى، هو ما يعجبني في فكر مكيافللي التجريبي في الواقعية السياسية التجريبية، وباسكال، ونيتشه كفلاسفة: النظرة المتشائمة (يُمكن أن أقول متشائلة أيضا) للشرط “البشري”. لا حلول نهائية في الأفق، لا مستقبل، لا جنة في الأرض أو في السماء أو إي مكان أخر، وبالأخص لا أبطال محتملين لإنقاذ الجنس البشري حيث أن لاشيء يمنع الضحية من أن تتحول إلى جلاد. في رواية 1984، ينحدر اسم (الأخ الأكبر) من نفس الجذر اللغوي للحركة التي تُعارضه، والتي تحمل الأسماء والمسميات حسب الزمان والمكان التي تمثله في حضارة أو ملحمة أخطر الحيوانات الناطقة على وجه الأرض والسماء، أو في رواية “مزرعة الحيوان” حيث ينقلب الثائر (الخنزير)، إلى ديكتاتور جديد يُعيد إنتاج الاستبداد والعنف بطرق جديدة و(((مقبولة))).. هذه النظرة التراجيدية للعالم تُعجبني، خاصة في ظل أنتشار الصوابية السياسة، والأخلاقوية النضالية التي تحسب أنها تعارض وهي تزفر وترعد وتُشيطن، مستعيضة عن ضعفها بضغينة حاقدة، حسب تحليل شهير لنيتشه في “جينالوجيا الأخلاق” عندما تحدث عن الحملان الخَيِّرة والطيور الجارحة والكلاب الاليفة التي تعيش في البيوت ويقدم لها وجبات لحوم حيوانات أخرى مطهوة بشكل مدروس ومتقن. أو كما قال يومًا جان جاك روسو: “الشر والخير يتدفقان من نفس النبع”.. نبع ما يسمى “الإنسانية”.. الإنسانية ذات نفسها لا أحدٍ أخر!؟

Visited 3 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

محمود القيسي

كاتب لبناني