هكذا تكلم العبد (2)
لحسن أوزين
من ابتلاه الله بجنون شغف الكتب، فقد رأى في حياته العجب العجاب، من الغريب المدهش، إلى المؤلم القاتل. فغالبا ما تأخذ صفحات الكتب عمقا مرئيا لحياة الناس في الزمن الغابر. من لم يعرف محنة السؤال في عذاباتها القاسية والمخيفة، لن يصدق هذا السفر المسطور في ادعائه تجربة الاسراء والمعراج، وهو يشهد بأم عينه الوقائع والأحداث.
بعد معاشرة طويلة للكتب في ليلة الفلق، انفتحت في عيني مرايا صفحاتها. أخذت عمقا كالمرآة الساحرة. فصارت تعرض علي مشاهد من حياة الناس في الماضي البعيد. فركت عيني طويلا، خوفا من تخيلات قد تكون تلبستني، أو مس جنوني غلب علي، فرماني في مستنقع الأوهام والوساوس القهرية. لم يكن شيء من هذا إطلاقا، بل كنت واعيا متجذر الرؤيا في التعرف ومعايشة ما تحكيه تلك الكتب العتيقة من أمهات المصادر.
نعم يا ولدي أنا أحد أجدادك، وهم بالمناسبة عدد لا يعد ولا يحصى. كنت شابا في الثلاثين، كالعادة أقوم بعملي في الحقول بين الأشجار. فجأة أحاط بي رجال غلاظ شداد بأسلحتهم. فأجبروني على مرافقتهم. فالكثير منا صغارا وشبابا كنا نتعرض للاختطاف. هكذا وجدت نفسي مع الأخرين غنيمة صيد. انطلقنا من قريتي وسط إفريقيا مشيا على الأقدام، مسافة شهور كاملة من المشي والترحال، من منطقة لأخرى، حتى تشققت قدماي ونال مني التعب والارهاق، في وقت تساقط فيه الكثيرون من بني جلدتي، بين كثبان الرمال، وقد أدركهم موت الانهاك الطويل، الذي لم يرفع يده عنهم منذ انطلاق القافلة في اتجاه سجلماسة، كما سمعتهم يتلعثمون باسم المدينة المقصودة. انظر في هذا الكتاب لتعرف ما أحدثك عنه الآن.
فقد دون ذلك أحد فقهاء التاريخ، محمد بن علي التلمساني، المعروف بحبه لسلطة المال والنساء وتربية العبيد، خاصة الجواري الحسان. في قرطاسه الملعون هذا، كان يسجل خبر سفره صحبة قافلة الغزاة هذه على نية فتح سجلماسة الكافرة تبريرا لقتل الساكنة المسلمة وجعلها غنيمة شرعية للقبائل التي تشكلت منها القوة الحربية للمرابطين.
فقبل شهر من اقتحام البلدة، تم استعداد حربي وتخطيط جهنمي، تم الإقرار فيه بوضع العبيد في مقدمة الغزو والقتال. هكذا تطايرت الرؤوس باسم الإسلام في حق أهل الإسلام. وكانت الغنيمة الحربية مخبأة تحت رداء الجهاد. وتحول الاحرار إلى عبيد بجانب العبيد. وصارت النساء في رمشة عين مجرد جواري للفعل الحلال في البيع والإهداء والوطء…
وإذا كنت راغبا في تبين ما أقول. وتجاوز الشك فيما ترى وتسمع الآن، فعد إلى صفحات هذا المخطوط. حيث قال الفقيه بعظمة لسانه دون أن يتبين ما يختفي بين الكلمات من أسئلة و معاني هدمت كل مقاصد الرجل في الاخفاء والاظهار، لحقيقة نصرة الدين وجعل كلمة الله هي العليا.” قبل بزوغ خيوط الفجر من ظلمة ظلماء انطلق المؤمنون انطلاقة رجل واحد، وقلوبهم مسكونة بحب الحق سبحانه، يبغون مرضاة الله في نصرة كلمته سبحانه. لم تأخذهم شفقة ولا رحمة من أعداء الله الذين ارتدوا عن صراطه المستقيم، فأبلوا بلاء حسنا، تحقق لنا بفضل الله غنيمة عظيمة من المال والحلي والدواب والنساء والكثير من العبيد. فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
هكذا خيل لي جدي العبد الأسود يهجم بعنف مروع على الرجال الأبرياء ليس دفاعا عن دين يجهله، وليس نصرة لرجال اختطفوه بالقسر والاكراه وجعلوا منه مجرد عبد لا يختلف عن دابة الله في أرضه، ومتراسا للمؤمنين التواقين الى الجنة في سبيل الله، لهذا يرمى جدي المنحوس الحظ، في مقدمة المحرقة حطبا للموت نصرة لكلمة الله. تألمت في نفسي وأنا أشهد بأم عيني حروبا خاضها أجدادي العبيد بقوة وشجاعة في سبيل حماية النفس من موت محقق، ومن أجل البقاء، دون أن يكون هناك للشهادة والجنة أي معنى، ولا للبطولة والشهامة أي مقصد. وهو يقول في نفسه :عبدك مكره لا بطل.
كلما حاولت الهروب من صفحات هذا المخطوط إلا وتجاذبتني كتب أخرى في التاريخ المهمش المنسي، وهي لا تكف عن وضع هذا التاريخ الموبوء بين يدي حول سلطان كون جيشا من العبيد سماه دون خجل ولا حياء بعبيد البخاري في جمع لا يستقيم إلا داخل الثالوث المحرم: السلطة والدين والعبودية. هكذا كانت صفحات الكتب تتقاذفني. توبخني حينا، وتزجرني حينا آخر، خاصة حين تفضحني تقاسيم وجهي المعبرة عن استنكار صريح تجاه كل ما حدث من بشاعة بقيت طي التدليس والكتمان المبين.
وفجأة دون سابق إنذار تنفتح صفحات أخرى في وجهي، غامزة ضاحكة بسخرية لاذعة، وتضعني على عتبات القرن التاسع عشر، قائلة بصوت فيه الكثير من اللوم العنيف لمن يجهل تاريخه العريق، أن ينظر على الأقل الى أقرب صفحاته في هذا القرن حيث كانت بيوتات أغنياء المدن في مكناسة وفاس ومراكش…، مملوءة عن آخرها بالخدم السود، فقد كان الناس الميسوري الحال يتنافسون في امتلاك العبيد، أو على الأقل أثناء عقد قران. وكانوا بذلك مقياسا للثراء، ولم تكن أية زاوية دينية تخلو من العبيد بالعشرات، كما كانت تجارة الزنجيات نافقة.
أي معسول هذا للمختار السوسي، الذي أنا في حضرته أتألم، بموازاة صراخ مقموع لا يتمكن من الانفلات من قبضة مرعبة، مصرة على مواصلة خنقي، وأنا أعاني عسر التنفس؟ هكذا التبس علي الأمس باليوم، وصراخ حاد في الأعماق لا يقوى على الخروج: لا أستطيع أن أتنفس.. لا أستطيع أن أتنفس…
أي معسول هذا وهو يخبرني في صفحاته بتفاخر الناس بامتلاك أجدادهم لعدد هائل من العبيد.؟ أي تاريخ ملوث بالقهر والظلم والبشاعة هذا الذي يمتد في ذاكرة دمي، و جلدي الحقير، وأنا أحلم بالمواطنة والانسان دون أن أقوى على رد النظرات العدوانية القاسية المشحونة بالعنصرية والاحتقار؟ وكيف يمكن جبر الضرر النفسي العميق الذي خرب جوفي؟ ومن أين لي القدرة على التصالح مع ذاتي المرهقة بحرقة الأسئلة التي لازمتني كل هذا العمر، وحيدا في عوالم الغربة و التيه، باحثا عن جواب يأتي ولا يأتي؟
الشعوب التي شردت من أرضها تحلم بحق العودة. وأنا الذي اقتلعت من نفسي أحلم فقط في آخر العمر بالعودة الى نفسي، أو على الاقل التصالح مع نفسي في وسط هذا الدغل الذي لا يخلو من سم الأفاعي، حتى لا يتكرر ما حدث، وهو لا يزال يطل برأسه الناعم المرن في حياتنا اليومية. فأينما وليت وجهي أجد تاريخي القهري غامزا ضاحكا، ساخرا من حلم العودة الى نفسي. كم هو بشع وفظيع هذا الاحتلال المزمن الذي صادر إنسانيتي…
هل دخلت حقا باب الحكاية المحظور والمحرم؟ وعلي أن أتحمل مسؤولية هذه المغامرة المتهورة في الحكي، وأنا لا أملك غير تجربتي المرة وارتحالي بين الكتب. منقبا، حافرا عما يضيء الطريق أمامي، لمعرفة سر الحكاية. وأفوز بالمفتاح الذي يمكنني من فتح الغرف المغلقة في دواخلي العميقة، علّ نور الشمس يقتحم عتماتها الرطبة النتنة. وتغادر العنكبوت زواياها المظلمة، فأتمكن من أخذ نفس عميق، يشد أزري و يصلب عزمي على مواصلة درب الحياة، خالي النفس من الضغينة والحقد والكراهية. متبرئا من نزعة الكراهية والرغبة في الثأر التي استنبتت في قلبي، ضد إرادتي المقيدة الحرية، في حب الناس وعشق الحياة.
صحيح أن قلبي مدمى، وجوارحي أشلاء ممزقة. وتجربة العمر مرت تبعا لإيقاع الفجيعة، الرافضة والممانعة، أن أحلم بالعيش وسط الاعتراف بالإنسان، لا أقل ولا أكثر، بين أناس يعتبرون أنفسهم خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. وهم يحللون شرعا بيع وامتلاك الخدم والعبيد.
وهاهم أحفادهم يحملون في عيونهم ذاكرة مثقلة بالعنصرية والكراهية والاحتقار فكيف لي أن أتعرف طريقي وسط هذه المفارقات اللئيمة الجارحة التي تنفذ الى الداخل كالسهام السامة؟
وأنتم الآن تنظرون الي بريبة وشك تنضح منهما رائحة التهم الجاهزة الفظيعة في المس بالأمة والدين والسلطة.. وأنتم مصرون على قمع صوتي الممتد في تاريخ العجم كالدواب، يحق لها فقط أن تؤمن إن سمح السيد بذلك.
تقولون هذه ترهات، حقارات، كذاب مفتري يبغي الفتنة، وأنتم لا تكلفون أنفسكم عناء ومشقة قراءة تاريخ المدة الطويلة، ولا تاريخ الزمن اليومي المعيش. لعلكم تذكرون الحادثة التي يرويها الكبير للصغير في جو من الضحك الساخر من الحراطين السود الذين إذا شبعوا فسدوا، وإذا جاعوا مكروا، تذكرون حين مر زعيم وشيخ قبيلتكم، وهو أحد قواد فترة الاستعمار، بجانب المدرسة فشاهد جدي الملعون، والمنحوس الحظ، الذي كان يحلم بمتابعة الدراسة كباقي أبناء البيض.
- أنت ماذا تفعل هناك أيها الحمار؟
- سيدي أنا تلميذ في هذه المدرسة
- كفى ما تعلمته لحد الآن، عد للعمل وسط الحقول، هناك مكانك الطبيعي.. غادر بسرعة…
هل هذه ترهات وحكايات من محض الخيال الرديء؟ هل هذه وساوس فتنة أم حقيقة محجوزة في دهاليز التاريخ المحظور؟ هل هذا تزوير للتاريخ أم محاولة للوقوف أمام المرآة؟