عندما تكتب الألوان شعرا وتوثق تاريخ الوطن
خالد بريش – باريس
قليلةٌ هي الكتب التي تتناول الفنانين والمبدعين التشكيليين في عالمنا العربي، لأن الاهتمام بالفنون التشكيلية نفسها، ليس من صُلْب اهتمامات شعوبنا العربية، وهو في الواقع مجالٌ مهملٌ إلى حدٍّ كبيرٍ ليس لقلة القراء فقط لهذا النمط من الكتب، بل لعدم وجود ثقافةٍ عامَّةٍ في هذا المجال حتى لدى كثيرٍ من المثقفين أيضًا، وذلك إما بسبب إهمال دراسة الفنون التشكيلية في المناهج التعليمية المدرسية، أو لأن الباحثين في هذا المجال يكادون في عالمنا العربي يُعدُّون على الأصابع. وقد وجد الأديب الأستاذ طلال سليم آل جعفر أن من واجبه أن يكتب عن فنانٍ من أبناء بلده، وأن يظهر مكنونات فنه وتميزه، لكونه يقوم بواجبه تجاه وطنه وأمته، ولأنه لأسبابٍ جغرافيةٍ ومناطقيةٍ يتمُّ إهماله عمدًا، ككل الفنانين المُبْدعين والأدباء في منطقة حديثة، البعيدة عن دائرة الضوء «بغداد» من ناحية، ولأن الثقافة ومنذ اجتياح العراق على أيدي المغول الجدد، تلونت بألوانٍ طائفيةٍ ومذْهبيةٍ. ومن هنا كان كتابه «معلقة الألوان، قراءة في أعمال الفنان التشكيلي دهام بدر»…
يتناول المُؤلف في مقدمته بعضًا من معاناته الإنسانية، والتي هي بدورها معاناة كل أهالي حديثة، التي هي في الأساس كما يصفها الأستاذ منذر آل جعفر « قطعة من السماء سقطت على الأرض سهوا » (ص. 14). والتي كانت تُسمى قديما «حيدانو» وتعني الجديد، وذلك عندما عَسْكَر فيها الملك الأشوري توكولوني ننورتا الثاني. حديثة، تلك المنطقة التي اضطر أهلها وسكانها للهجرة منها والابتعاد عنها، وترك ديارهم، واللجوء إلى مناطق أخرى. فكان أن وقعوا في مَصْيَدة الابتزاز من أبناء وطنهم، وتاهوا في هموم ومآسى الغُرْبة وهم في وطنهم…! حديثة، هذه المنطقة المِعْطاءَة، التي عُرفت وتميزت عن غيرها من مدن العراق بكثرة شعرائها وأدبائها، وخصوصية شعرهم وطبيعته. ليأتي هذا الكتاب ويكشف للقراء عن منحى آخر من مناحي الإبداع في حديثة ألا وهو الفن التشكيلي وبعضًا من تاريخه… أيام كانت تُعْرض اللوحات في معارض داخل المدارس، وفصول التدريس، وقاعة المكتبة العامة لثلاثة أيام، قد يتم تمديدها إلى أسبوعٍ في كثيرٍ من الأحيان. وكان مثقفو حديثة وكبار رجالاتها حينها يقومون بزيارتها، ويُشجعون الفنانين المُشاركين في تلك المعارض بتقديم بعض الجوائز الرمزية من أقلام الحِبْر القيمة أو الكتب الأدبية…
بداية الطريق
يُشير المؤلف إلى أن الفنان التشكيلي دهام بدر يُعتبر حاليًّا أحد كبار الفنانين العراقيين، حيث أقام معارض خاصةً كثيرةً، وشارك في معارض جماعية في العراق والعالم العربي. وكُتب عنه وعن أسلوبه في الرسم وتقنياته مقالاتٍ كثيرة، وتمَّ تكريمه من قبل أكثر من جهةٍ رسميةٍ وثقافيةٍ. ويذكر المُؤلف أن الفنان دهام بدر من الفنانين الباحثين، الذين يُصيغون لوحاتهم بِخُصوصيةٍ مُلفتةٍ. وقد كانت البداية بالنسبة له عندما كان في مطلع شبابه وهو ما زال في نهاية المرحلة الإعدادية، حيث أقام حينها معرضًا في إحدى مدارس حديثة مُكونًا من عشرين لوحة، لاقت إقبالًا كبيرًا، ونجاحًا باهرًا. وكان الموضوع الذي جَسَّدَهُ من خلال لوحاته منطقة حديثة ونواعيرها وطبيعتها الخلابة، مستخدما في ذلك الألوان الزيتية والمائية (الباستيل).
يتناول المؤلف الأستاذ طلال في بداية كتابه الجيل الأول من الفنانين التشكيليين والسابقين للفنان دهام، عارضًا لمنحاهم الفني ودورهم ونتاجهم، ذاكِرًا إن كانوا قد انتقلوا إلى رحمة الله فيحدد سنة وفاتهم، أو فيما لو زالوا على قيد الحياة. ومن ثم ينتقل للحديث عن الفنان التشكيلي دهام بدر، الذي ينظم الشعر بالألوان، ويصيغ التاريخ بالخطوط…
دهام بدر فنان متميز
يأتي تميز الفنان دهام بدر في رسوماته ومعارضه من كونه يتناول محيطه، وكل ما يُجسِّد منطقته حديثة خاصة، والعراق بصورة عامةٍ، مُسْتغْرقًا في يوميات العراقيين، مُسْتخدمًا عينيه كآلة تصوير تلتقط المشاهد، لتجسدها ريشته عملًا فنيًّا بأبعادٍ إنسانيةٍ، فتقرع خطوطه أبواب الدواخل، وتوقظ المشاعر، ذاهبًا في خطوطه أبعد من الواقع، لأنه يرى بروحه اليقظة ما لا يراه الناس، جاعِلًا من لوحته قضيةً اجتماعيةً، أو حالةً قائمةً بذاتها تستحق الاهتمام، وتعكس ما وراء الوراء، والخلفيات الكامنة في قسمات الوجوه، أو طبيعة المكان نفسه لو كان يرسم منظرًا طبيعيًّا… وقد خاض شتى أنواع الرسم التشكيلي باستخدامه للألوان المائية (الباستيل)، والزيتية، وقلم الرصاص، والحبر الصيني، وأقلام السوفت…
يبتعد الفنان دهام بدر في لوحاته ورسوماته كل الابتعاد عن التعقيدات والترميز، ويميل إلى مدرسة الانطباعيين، مع الاحتفاظ بشخصيةٍ مُسْتقلةٍ أسلوبًا ولونًا وموضوعًا، متفوقًا حتى على أساتذته، حتى إن كثيرين اليوم في العراق وخارجه يقومون بتقليده، إن كان في أسلوب رسمه بالقلم الواحد، أو الأقلام الخشبية الملونة. وقد تميز عن بقية الفنانين من مُعاصريه في استخدامه طريقةً جديدةً في الرسم بمادة الأكريليك، إلى جانب قلم الرصاص، مُضيفًا إلى ذلك مواد أخرى، لفتت انتباه فنانين عراقيين وعرب وعالميين، فقام بعضهم بالاتصال به لمعرفة سِرِّ تلك التقنية، التي تفيض على اللوحة سحرًا وحياةً، والكيفية التي توصله إلى تلك النتائج. إلا أنه رفض شرح ذلك لهم، لكي لا يضيع جهده سدى في المرحلة الحالية… هذا ويشير المؤلف إلى ناحيةٍ مهمةٍ في فن دهام بدر وإبداعه، وهي أنه من المُمْكن وبالعين المجردة الفاحصة، التعرف إلى لوحاته من بين لوحات بقية الفنانين العراقيين والعرب، كونه غدا مدرسةً قائمةً بذاتها لونًا وشكلًا وأسلوبًا وأدواتٍ…
الفن واجب وطني
كان الفنان دهام مُنْشغلًا في بداية الأمر برسم الوجوه واللوحات الرمزية والطبيعة والمعالم التراثية والأثرية وحياة الناس اليومية الخ… إلى أن قام الدواعش بتدمير آثار العراق، فشعر عندها بأن هناك مسؤولية كبيرة ملقاة على عاتقه، وعاتق كل من حمل الريشة وخط بها خطوطًا وألوانًا. فقام بتخليد تلك الآثار من قبل اندثارها نهائيًّا، وأخذ يرسم تلك المعالم بالقلم الرصاص والحبر الصيني، وبأسلوبه الخاص. وكذلك فعل عندما شنَّ النظام السوري غاراته على مدينة حلب، حيث خاف أن يكون مصيرها كمصير آثار الموصل، فرسمها مُخلدًا إياها عبر رسوماته. وهو ما فعله مع معالم مدينة القدس في أكثر من خمسين لوحة فنية أيضا. كذلك وثق بريشته وأقلامه الحِرَفَ العراقية القديمة كالصفارين مثلا « النحاسين »، والنوتيين الذين يقودون المراكب الصغيرة في دِجْلة، والحذائين، وغيرها من المهن التقليدية…
وإن من كلمةٍ أخيرة فهي أن الكتاب لا يتناول فنانًا بعينه فقط، بل وبطريقة غير مباشرة، يتناول مرحلةً سوداء في تاريخ العراق والعراقيين، وتاريخ الثقافة والفنون التشكيلية في العراق الحبيب…
Visited 28 times, 1 visit(s) today