عن “الفلسفة والتاريخ” لعبد الله العروي
حسن زهير
صدر أخيراً كتاب ” الفلسفة والتاريخ ” للمفكر المغربي عبد الله العروي، ومن خلال هذا المؤلَّف، تنكشف لنا الخلفيات التي أطّرت اختياراته البحثية وساهمت، بالتالي، في تبلور إشكالاته الفكرية ومقارباته المنهجية بخصوص القضايا المطروحة على الفكر العربي المعاصر، موضحاً، في السياق ذاته، موقفه المعرفي الذي اتّخذه ولم يحِد عنه منذ أوّل كتاباته إلى آخر ما صدر عنه.
سنحاول في هذه المقالة التوقّف عند الكيفية التي تمثّل بها العروي العلاقة بين الفلسفة والتاريخ في لحظتنا العربية الحالية، وكيف أثّر ذلك على اختياراته الفكرية في ما بعد، ونقصد هنا اللحظة التاريخية للمجتمعات العربية التي لم تنجز فيها بعد، مشروعها النهضوي في اللحاق بالأفكار المؤسِّسة للعصر الحديث.
يتحدّث العروي في أحد مقاطع الكتاب عن الشروط الأكاديمية المطلوب توفّرها، في الجامعات الغربية، في كلّ من يرغب “الانضمام إلى تراث الغرب الفلسفي”. يشير هنا عن زملائه، من الباحثين العرب في المجال الفلسفي، الذين درَسوا في السوربون وتأثروا بمناخ البحث والتنقيب عن الدقائق والجزئيات: (Travaux d’érudition) أي التخصّص المفرِط في مسألة دقيقة، تهمّ فترة مبهمة من تاريخ الفكر الأوروبي، إذ كان ذلك أحد الشروط لمن يريد تحقيق ذلك “الانضمام / الاندماج” المذكور، وكان هناك أيضاً شرط آخر، يخصّ كلّ باحث غريب عن أوروبا، وهو أن يُمثّل قيمة مضافة. هذا الأمر يتطلّب من الوافدين من أصول خارج الثقافة الغربية، نشْر ترجمات أو بحوث تكميلية في مسائل عالقة، ولكي تتحقّق هذه الإضافة يحتاج الأمر إلى إتقان لغتين على الأقل: واحدة غربية وأخرى أصلية: العربية في حالة الباحثين العرب.
أوّل ما لاحظه العروي أنّه كلما زادت معرفة هؤلاء الباحثين بلغة غربية قلّت فرص استعمال لسانهم الأصلي. يقول في هذا الصدد: “للقيام بهذه البحوث الهامشية التكميلية يكفي المرء أن يعرف العربية، كما لو كان أعجميا، معرفة سلبية”. يقصد هنا بالبحوث التكميلية تلك التي تهدف إلى توسيع أو تعميق المواد التي تدرّس في أقسام الفلسفة الغربية، من قبيل المقارنة، مثلاً، بين مفهوم الزمن عند توما الاكويني وابن سينا، أو المقارنة بين مفهوم العلة عند دافيد هيوم والغزالي، إلخ.
يُلمّح “العروي” هنا إلى كلّ من اختار البحث الفلسفي في إشكالات بعيدة الفكر الهادف، أي الفكر الذي يساهم في تحليل القضايا المرتبطة بالتغيير المجتمعي، إذ لا يجب أن ننسى أن الفترة التي يتحدث عنها العروي هي فترة الاستعمار وانعكاساته التي كانت تعاني منها أغلب الدول العربية آنذاك، وكان من بين أسباب تأخرها التاريخي. ولهذا العامل، بالذات، لم يختر هذا النوع من الأبحاث الفلسفية التي تغرق في الدقائق والجزئيات، ورفض الخوض فيها رفضاً باتّاً، لأنّها بعيدة أسئلة السياسة والوطن وقضايا المجتمع والتاريخ، أي بعيدة عن الفكر الذي يساهم في الإصلاح الثقافي والتغيير السياسي، الفكر الذي يهدف إلى تغيير ما هو ميّت ومُميت فينا، ويساعدنا، نحن “الأحفاد، على استدراك ما أضاعه الأجداد”.
في هذا السياق، إذن، يمكننا فهم اختيارات العروي البحثية: “الإيديولوجيا العربية المعاصرة” (إشكاليات العرب المعاصرين)، “الأصول الثقافية والاجتماعية للوطنية المغربية” (دحض النظرة الاستشراقية حول فكرة “الوطنية” باعتبارها وحياً أوروبياً ولا يمكن أن تخطر على بال مسلم!)، “العرب والفكر التاريخي” (مسألة المنهج الملائم لمواجهة قضايا العصر)، ” أزمة المثقفين العرب” (أسباب تعثر الإصلاح الثقافي عربياً)، “سلسلة المفاهيم” حتى نتمكّن من أن نعقِل ما نقول ونتفادى، بالتالي، الإشكالات المزيفة، إلخ.
يَسهُل إذاً على أيّ ملاحظ يقض أن يدرك أنّ هذه الاختيارات البحثية أبعد ما تكون عن جمع النوادر والجري وراء كلّ نادرة، مهما كانت تافهة، وذلك تفاديا وحرصاً من السقوط في قضايا الاستشراق التقليدي، البعيد عن هموم العروي وإشكاليته، كما تبلورت في ذهنه خلال تلك الفترة، أي دراسة أسباب التأخر التاريخي والتفكير في عوامل النهوض.
الملاحظة الثانية التي لفتت انتباه العروي حول هؤلاء الباحثين العرب في المجال الفلسفي هي أنّ عجزهم عن التعبير، بالطلاقة ذاتها، بلسانين مختلفين أدّى إلى الفشل في خلق حوار بين الثقافة العربية الإسلامية و الثقافة الغربية، التي تعتبر نفسها متحدرة من تقاليد يهودية ــــ مسيحية أو يونانية ــــ رومانية، وبالتالي لم يحقّقوا تلك الإضافة المتوقّعة إلى تراث الفلسفة الغربية، إذ يجد العروي في خلاصة أبحاثهم، والتي غالبا ما تكون مشتركة مع مستشرقين، أن “الغريب يتحول إلى أليف”، حسب تعبيره، أي أن كلّ إبداع ظهر في تراث الفلسفة الاسلامية يُردّ إلى تراث الفلسفة الغربية ويصبح، بع التأويل، “أليفاً”، بالنسبة لها، بسبب الولاء لمنهجية المقارنة واستراتيجية المعادلة: ( الغزالي / مالبرانش، ابن سينا / توما الأكويني، ابن عربي / مايستر إيكارت).
هذا الأمر أدّى، في النهاية، إلى العجز عن إنجاز “التفرّد”، و هو العنوان الذي أعطاه العروي لأحد مقاطع الكتاب، يشرح فيه لماذا فشل هذا التفرّد الفلسفي، العربي-الإسلامي، في حين نجح آخر ينتسب إلى “ملّة توحيدية” أخرى، الإشارة هنا إلى أعمال “إ.ليفيناس” و “مارتن بوبر”، مبرزاً، في نفس الوقت، الشروط التاريخية المطلوب توفّرها من أجل تحقيق التفرد العربي-الاسلامي، ذلك أنّ الإبداع الفلسفي الحق، أي الأصالة الفكرية، مؤجلة في حالنا، لأنّها لا يمكن أن تتحقق في مجرد المخالفة أو الرغبة في الإندماج، بل في “إثبات أن الآخر يُمثّل فقط محطّة، وجهاً، لجامع تكون أنت أوّل من كشف سرّه للآخرين”. ولكي نتمكن من ذلك لابدّ، أولاً، من تجاوز حالة التخلف و التأخر، التي تفرض علينا اتجاهاً فكرياً يعطي الأولوية لِهمّ الفعل والإنجاز، لاستدراك الزمن والتاريخ، عوضاً عن النظر والتأمل الفلسفي خارج الزمن والتاريخ.
وبعبارة أخرى: عندما نتمكّن من تشييد قواعد الدولة الوطنية وتثبيت مقوّماتها، كما هي متعارف عليها عالمياً، حينها تتسع حريات الفرد ويستعيد الحياة، كفرد من نوع جديد، أصبح يستبطن معارك الواقع والمجتمع والتاريخ. هذا الفرد الذي “تعافى بالتاريخ من جروح التاريخ”، على حدّ تعبير العروي، هو الذي يستطيع، بوعيه العميق وفكره النافذ وتجربته التاريخية الواسعة آنئذٍ، أن يبدع فلسفة جديدة ملائمة لمحيطه الجديد، محيط “الدولة الوطنية”: حلم الإصلاحية العربية منذ القرن التاسع عشر. هذا الفرد/المتفلسف الجديد لن يقنع، حينئدٍ، بالاندماج في تراث الغرب الفلسفي، بل سيتوق إلى إثبات ذاته في وجه مسار فلسفة الغرب. لكن العروي يلاحظ، في شرطنا الحالي، حيث إخفاق مشروع الدولة الوطنية، أنّ الاتصال بالثقافات الأجنبية لم يدفع المفكرين العرب، كما تمنّى كثيرون، إلى مراجعة ما سبق ل “هيغل” و”ماكس فيبر” و”هوسرل” أن قرّروه، أي اعتبار “الفكر الغربي، دون غيره، إنسيّ بالكامل”، أي أنّ نوع التفكير الذي ابتكره الإغريق، وتبنّاه الأوروبيون هو مَلَكة مطبوعة في نفس الإنسان الغربي، وسيتولاّه، فيما بعد، سائر البشر من مختلف الثقافات والأعراق.
هذا الأمر يرفضه العروي معتبراً أن “لا شيء، نظرياً، يمنع أيّ فرد، من أيّ عرق، أن يتألق في سماء الفلسفة، لكني لا أرى بين عرب اليوم من بلغ هذه الرتبة. النبوغ في حالنا مؤجّل إلى حين، هذه كانت خلاصة باكورة أعمالي عن الأيديولوجيا العربية المعاصرة”. ثم يتساءل في الأخير: “ماذا لو أقيمت بالفعل دولة وطنية في قُطرٍ ما من الأقطار المنتسبة إلى العروبة؟ في هذا الوضع المفترض أيّ مكانة كانت ستُخصَّص للفلسفة؟ وهل كنتُ سأبدي نفس التحفّظ والاحتراز حيالها؟ لا شك أنّ رأيي كان سيتغيّر. قلتُ مِراراً إنّ الابداع في حالنا مؤجّل، ولم أقل قطّ أنّه ممتنع”، لكنه إبداع دونه شروط تاريخية، وهذا ما جعل العروي يصرّح، غير ما مرّة، أنّه ليس بالإمكان، في زمننا هذا وفي مكاننا هذا، أن نعطي جوابا فلسفيا، كلّ ما يمكننا قوله هو أننا نحاول أن نقف موقفا فلسفيا من قضية ما، وهو بالضرورة موقف تاريخاني، إلاّ إذا اختار الانسان أن ينفصل عن زمانه ومكانه. يقول العروي: “هل يمكن أن يتفلسف المرء في بلدنا هذا، وفي زمننا هذا؟ الجواب: هذا غير ممكن بسبب المكان والزمان. والسبب هو تعارض الفلسلفة بشيء يُسمّى التاريخ”، أي أنّه إذا نظرنا إلى مشكل ما بنظرة فلسفية لا زمنية، فإننا ننتهي إلى تقديم جواب لحل المشكل في ظروفه التاريخية أي الزمنية، لأنّ المشكلات محدّدة زمنياً و مجتمعياً، و بالتالي فهو جواب لا علاقة له بالفلسفة.
إذن فكما أنّ هناك فلسفة بلا تاريخ (أي تجاوز التتابع الزمني: “الفلاسفة يتساكنون في ذهن كل شخص حيّ، بحيث لا يمكن تصور أنّ ديكارت،مثلاً، جاء قبل كانط، فالإثنان متساكنان”، وبالتالي فكلّ االفلسفات السابقة لنا متزامنة، ويجمع بينها شكل على الفيلسوف اكتشافه بغض النظر عن التتابع التاريخي)، فإنّ هناك أيضاً تاريخاً بلا فلسفة (أي أحداث توصف فقط دون رؤية فلسفية)، وكِلاهما مرفوضان عند العروي، ولهذا انحاز إلى الموقف الفلسفي التاريخاني، أي تأريخ الأحداث وفق رؤية فلسفية تحترم التتابع الزمني و تسعى إلى تنظيره في إطار وحدة التاريخ البشري. يقول العروي: ” التاريخاني يقول: أنا في غابة من المفاهيم الفلسفية، ولا سبيل للخروج منها إلاّ بمتابعة التتابع الذي حصل بالفعل”.