محرقة غزة: سؤال المآسي والضمير الإنساني
سعيد بوخليط
كلَّما وقعت كارثة وجودية :انتحار، قتل، جنون، مرض عضال؛ يتحلَّل من خلاله صاحبه ألما وتصدُّعا، إلا وانتبه الإنسان أكثر من ذي مضى لوضعه الوجودي ضمن تجاذبات الحياة والموت، فاستحضر بزخم عميق تلك الأسئلة الميتافيزيقية الجوهرية التي تتناول ثانية جدوى ولادته من عدمها، مصيره، موته، مابعد موته.
كلَّما حدثت كارثة طبيعية: الزلازل، الأعاصير، العواصف الهوجاء، إلخ، يستعيد الإنسان بكيفية أكثر شفافية وصدقا وانتباها، قياسا لكل ماسبق، علاقته بالمجال البيئي، مستويات الوصال والانفصال، حدود ممكنات امتلاك عناوين خريطة لأسرار الطبيعة، ثم سبل إقامة علاقات متوازنة دون استباق أو مباغتة؛ قوامها التوازن واحترام الإنسان لجوهر الطبيعة.
كلَّما استفحلت نتائج سلبيات كارثة مسار سياسي: الانتهاء إلى جواب الحرب، بؤس مجتمعي، فشل سياسات عامة، إخفاقات برامج وخطط، إلا وتطلَّع الإنسان نحو التخلُّص من مقدمات الجاهز قصد الشروع في طرح أسئلة جذرية بخصوص كفاءة القيادة، فاعلية التدبير، سؤال الدولة، مؤسَّسات النظام، طبيعة العقد الجامع بين الحاكمين والشعب.
حاليا،تعكس يوميات مجزرة غزة مصبًّا لروافد الأسئلة الثلاث، عبر تكثيف جليّ لمجازات الأطروحة الأخيرة، مقارنة مع الأولى والثانية، نتيجة التركيز على صنيع الساسة والسياسيين، والإفلاس الذي آل صوبه الضمير الجمعي.
عموما، تكشف الحرب في كل الأحوال، بغضِّ النظر عن مختلف حيثياتها الأخرى، عن فشل ذريع لآليات اشتغال العقل السياسي، وعجزه عن تدبير معطيات الاختلاف الأنثروبولوجي بكيفية منصفة ومتحضِّرة، مثلما تبلور السياسة، من جهة أخرى تفعيلا للحرب لكن بأساليب مختلفة.
محرقة غزة، عنوان مفزع جدا ومرعب بما يكفي بخصوص فوضى المنظومة الدولية، يَشِي دون مواربة عن حكايات إخفاق هياكلها المؤسساتية بخصوص تكريس إجرائية قوانين عادلة وموضوعية تستوعب حقوق الجغرافيا والعيش المشترك والسلام البنيوي، مثلما ترفض ضمنيا انتشال الشعب والديانة اليهوديتين من دمار الشوفينية العمياء للنظرية الصهيونية المناهضة جذريا لمعاني القانون، الحق، العدل، أو مجرد أدنى مَعْلَم يستشرف تقاسما مختلفا للفضاء العام.
يصعب راهنا، مقاربة سيرة سياسيي العالم المعاصر، أو بشكل أصحّ شرذمة وكلاء شركات الرأسمالية المالية، بحسب مفاهيم كلاسيكية من جنس تأويلات حدود التداخل السياسي بين الحرب والسِّلم، وانتهاء أحدهما كي يبدأ الثاني؟ وكذا عدم إجهاز خُبْث السياسة على معضلة حرب بمذاق الحنظل، اضطُر إليها المتحاربون اضطرارا رغما عنهم، لكنها ستجري وفق معايير ومقاييس الشَّرف، أولا وأخيرا، أخلاقيات الحرب، توازن القوى، الحياد الايجابي، كما نصَّت عليها متون المواثيق الأممية، المستندة في نقاوتها المجردة على روح الشرائع السماوية، النُّبل الإنساني، حيث الضمير وازعا، مقياسا، فيصلا، ترياقا.
الفرق بين البشر والإنسان، في تقديري، أنَّ الأخير تحقُّق مثالي للأول. قد يكون أغلبنا بشرا، لكن مراتب الإنسانية تظلُّ مستعصية على أغلبنا وتحتاج إلى مكابدة طويلة. هي القدرة العظيمة على أن يكون الإنسان ذاته، وأبعد من ذاته في الوقت نفسه.
تتبدَّى جوانبنا البشرية ضمن مجرى وقائع الحياة المألوفة، لكن عندما تبرز القطيعة جراء فعل المآسي شريطة الوعي بها وفق أبعادها الوجودية، أبعد كثيرا، من تجلياتها المادية والمباشرة، بمعنى استيعابها بحسب أبعادها المفارقة قصد استخلاص عِبَرِها، فبوسعها حينئذ وضع بداية أخرى لحياة مختلفة.
قيل دائما، يقال باستمرار،بأنَّه لم يتواجد إنسان قد تسامى حقا بكينونته دون اختبار شخصي لمعاناة نوعية. في المقابل، يعبُرُ هذه الحياة بكيفية عادية، كأنَّه لم يكن قط، من اكتفي بسرد وقائع حياة عادية. تسمو هوية الإنسان مع اتساع مضمار حياته، ثراء دروسه الوجودية، ثم طرائق تهذيب ضميره لمختلف ذلك.
هكذا يأخذ الضمير وجهة ارتقائه الفعلية، يدرك الإنسان حقيقة وجوده الأصيلة، وينقد ذاته حتما من غمار الضعف والتِّيه. المآسي مرشد استثنائي لا غنى عنه، قصد تقييم الضمير في بعده الإنساني، ربما اختلف المقام بخصوص ذاتيتها أو موضوعيتها.
عندما ترتبط المآسي بتجربة الشخص، تغدو مناسبة لصقل الضمير، ربما ولادته الأصيلة، أو إعادة تنظيم مضامينه وترتيب أولوياته. إنها لحظة الميلاد والانبعاث والتشكُّل بكيفية مختلفة. افتُقد، كنه هذا العنصر الخلاَّق غاية الصدام بالتجربة المأساوية، لحظتها يتغير تراكم جلّ ماسبق.
أما بخصوص الاختبار الموضوعي، من خلال ارتباط واقعة المأساة بالآخر، فلاشك بأنَّه يمثل مقياسا رفيعا لإدراك مدى رِفْعة الذات الإنسانية أو حقارتها، حسب مستويات تفاعلها مع المآسي التي تعاينها، ثم هذا التشارك الوجداني الحميمي، والشعور الصادق بالذنب وتأنيب الضمير رغم عدم مسؤولية الشخص في شرور الحدث، مع ذلك يحسُّ ضمنيا بتداخل أواصر التأثير. مسألة، حاضرة كمبدأ لدى الجميع، غير أنَّ تداعيات تفعيله تتباين حسب درجات الوعي، وعيه بذاته، ثم جدلية سموه. تطور، يستوجب تمثُّلا روحيا على قدر من المكابدة.
في الحالتين معا، وقد استعاد الضمير الإنساني وضعه الجدير به، سواء كانت المأساة ذاتية أو تكمن في موقع آخر، يبدأ مخاض الضمير بخصوص معيار حياته من مماته.
ماذا عن الأفراح؟ هل يتوارى حينها الضمير، أو يلزمه ذلك تاركا المجال لانطلاق الغرائز واندفاعها، مادام الفرح– الاعتقاد الجاهز- حالة انتشاء فورية للأحاسيس الإنسانية، أو هكذا نتصور الأفراح بلا كابح، بينما الأحزان مقيَّدة، كأنَّ حقيقة العالم الجديرة موصولة بالكوميديا على حساب التراجيديا.
أقول، بأنَّه تصور استعان بالمجاز قصد التشكُّل ضمن صورة غير صورته، أو لأنَّ الكوميديا تكشف أساسا عن تراجيديا بوجه مغاير، تعبِّر عن حيثيات الكائن والوجود بكيفية أبلغ وأصدق. فالضحك بكاء، بكيفية أخرى، مثلما البكاء تتقاطعه نوبة ضحك هستيرية؛ ربما خفيفة أو طافحة. هي مشاعر متداخلة، معقدة التركيب لاتتحمل أبدا الاختزال إلى صورة بوجه واحد.
تخلق المآسي الضمائر، تبعث فيها الحياة من جديد، تحرِّك مياهها الآسنة، تشعِر صاحب الضمير بحتمية أن يكون حقا إنسانا قبل كل شيء، تلك حقيقته الأولى والمطلقة.
الضمير، ذاكرة، روح، صوت باطني، سجال صامت لا يتوقف بين الإنسان وذاته، هكذا تتشكَّل الرؤى العميقة التي تهيئ للإنسان طبيعة مصيره، إن خيرا أو شرا، حسب إرادته و مايتوخاه لوجوده.
إذن، المأساة قِوام وجود الإنسان، بولادة وموت تراجيديين، وتظلُّ المأساة عتبة ونهاية، يفسَّر على ضوئها كل شيء.
يتحدَّد موقف الإنسان نحو طبيعة الحياة، حسب نبراس نور ضميره، ثم تقييمه المتوقِّد لوقائع الحياة بناء على جدليتي التراجيديا والملهاة، من خلال أبعادهما العميقة، لأنها وحدها تعبر عن ماهية الإنسان، مادام الأخير يبكي ضحكا ويضحك باكيا.
عموما، ماتقترفه اليوم الآلة الحربية الاسرائلية في غزة، يدبِّجُ فصول مسرحية عبثية جدا، قدر لانهائية سورياليتها القاتمة، وإلا مامعنى إعدام آلاف الفلسطينيين بمختلف وسائل الاجتثاث مجانا، لأسباب يستحيل فهم جانب من دواعيها، كل هذا القتل من أجل القتل، لن يتوقف في غالب الأحيان،سوى :
– عند إطلاق سراح الرهائن من طرف المقاومة الفلسطينية (كان بالأحرى مثلما يقتضي الضمير السليم، مواصلة المفاوضات والسعي نحو تثبيت مرتكزات مشاريع سياسية متكاملة الروافد).
– تهجير الفلسطينيين من أرضهم (استحالة).
– القضاء على فكرة المقاومة (استحالة مضاعفة بكل اللغات).
– جعل البشرية قاطبة؛ أو على الأقل ماتبقى منها تجثم على ركبتيها تمجيدا للهمجية الماسكة بزمام العالم وأهل الشرِّ والخراب (استحالة ولوج الجَمَل ثُقْب إبرة).