جاك بيرك.. شيخ العرب (2/1)

جاك بيرك.. شيخ العرب (2/1)

جورج الراسي

    عندما ناقش Berque أطروحتي، في مثل هذا اليوم من عام 1979 ” مثلت” أمام ” محكمة جامعية ” في أعرق صرح علمي فرنسي، لمناقشة أطروحة الدكتوراه التي أعددتها حول موضوع من أعقد المواضيع الثقافية في ذلك الوقت-  وحتى الآن – بعنوان “التعريب والصراعات الثقافية في الجزائر المستقلة”، وكان قد مضى أقل من عشرين عاما على استقلال البلاد، وهي تخوض مخاضا عسيرا على كافة المستويات من أجل استعادة شخصيتها وتأكيد انعتاقها…

شيخ العشيرة…

    اللجنة الفاحصة كانت بـ”زعامة” أشهر المستشرقين الفرنسيين في النصف الثاني من القرن الماضي، البروفسور جاك بيرك Jacques Berque ، مترجم القرآن الكريم، وصاحب عشرات الكتب والدراسات حول القضايا العربية والإسلامية، والعلاقات بين ضفتي المتوسط، وهو يتربع على كرسي الاستشراق في أحد أعرق المعاهد الفرنسية Le Collège de France 

وقد آزره غي تلك المهمة العويصة كل من البروفسورJacques Vernant  الأمين العام لمركز دراسات السياسة الخارجية، والبروفسور Jean-Pierre Colins  المختص بالشؤون العربية، وصاحب أبحاث عديدة من ضمنها” دور قوات الأمم المتحدة في جنوب لبنان”، وهي مسألة تتصدر موضوع الأمن اللبناني حتى يومنا هذا…!

الواقع أن Berque هو أقرب إلى كونه شيخ عشيرة عربية من كونه علما من أعلام “السوربون الجديدة”.. منتهى سعادته أن يكون محاطا بالمثقفين العرب يتناول معهم شؤون بلادهم التي يعرفها عن ظهر قلب، ما عدا” بلدين فقط لم أزرهما-  كما يقول-  هما اليمن وسلطنة عمان”…

أبا عن جد…

   كان Berque صاحب صوت مسموع في أعلى الدوائر الفرنسية، حتى أنه أقنع الرئيس François Mitterand عام 1983 ببث برنامج تلفزيوني على أكبر المحطات الفرنسية TF1 يحمل عنوان “معرفة الإسلام ” Connaître L ‘ Islam ، بعد أن أسس جمعية تحمل الاسم نفسه..

واقع الأمر أنه ورث هذا الشغف بالعرب والإسلام عن والده Augustin Berque ( 1917 – 1883 )  الذي شغل منصب ” مدير الشؤون الإسلامية” في ” الحكومة العامة الفرنسية” في الجزائر أيام الاحتلال، وصاحب دراسات قيمة حول “الأخويات الصوفية”… لكن Jacques  تميز عن والده بأنه كان يرفض احتلال أي منصب يجعله يبدو وكأنه يمثل الإدارة الاستعمارية…

وهو صاحب مواقف مشرفة لاحقا، إذ وقف ضد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، الذي شاركت فيه كل من فرنسا وبريطانيا إلى جانب إسرائيل، بعد إقدام جمال عبد الناصر على تأميم قناة السويس… وكان ينبه دائما إلى أهمية ” الشأن العربي” في السياسة الفرنسية…

وكان قريبا جدا من وزير الدفاع الفرنسي المتميز يسارا في عهد Mitterand ألا وهو Jean Pierre Chevènement  الذي استقال احتجاجا على الحرب الأميركية ضد العراق… وكان قد كلف Berque بإعداد دراسة حول مشاكل المهاجرين العرب والنظام التعليمي في فرنسا. حين تسلم وزارة التربية عام1985…

ولعل الشخصية الفرنسية الأقرب إلى مزاجه كانت بدون شك الجنرال ديغول ووزير الثقافة في عهده André Malraux.

حضور مميز…

   حقيقة الأمر أن “اللجنة الفاحصة” لم تكن وحدها من يثير الرعب في تلك المناقشة… بل إن الجمهور المتميز الذي حضر الجلسة لم يكن أقل إثارة للحوافز وتثبيطا للهمم..!

فقد حضر المناضل الجزائري أحمد محساس، الذي سبق له أن شغل منصب وزير الزراعة في أول حكومة شكلها الرئيس بن بلة بعد الاستقلال، وكان هو الآخر يقوم بإعداد رسالة جامعية حول موضوع “الحركة الوطنية الجزائرية”، كما تواجد بين الحضور المفكر والمناضل المصري الغني عن التعريف محمود أمين العالم، والفنان الطليعي المصري حامد عبدالله، والسياسي العراقي عزيز الحاج – كان حينها يمثل العراق في منظمة اليونيسكو، والمترجم السوري بدر الدين عرودكي، والصحافي الأردني عدنان نصراوين، وعدد آخر من المثقفين والصحفيين العرب والأجانب، مما زاد علي عبء المناقشة…! المهم إنها انقضت بسلام…

 مأثرة التعريب…

   هنا لا بد من فتح قوسين، لأقول في وجه كافة المشككين بأن عملية التعريب في الجزائر مأثرة حضارية من أهم مآثر القرن العشرين، إن لم تكن أهمها…

شعب انقطع عن جذوره وعن لغته الأم طيلة قرن وثلث القرن، ومورست ضد ثقافته أبشع انواع الاضطهاد والتنكيل نجح في استعادتها بكل تلك الحيوية والجدارة خلال فترة زمنية محدودة لا تتعدى العقدين…

هذه مأثرة يجب أن تسجلها اليونسكو في سجلها اللامادي… هي التي لم تترك زجاجا مكسورا في أقاصي الأرض إلا وأدخلته في ذلك السجل…

أعرف أن شوائب كثيرة لحقت بتلك العملية  –  و قد سجلتها بالتفصيل – سواء لجهة بعض من قاموا بها، أو لجهة بعض الممارسات الهمجية، لكن عملية بهذا الحجم يجب ان ينظر لها بمنظور حضاري وتاريخي …

لقد كتبت ألف صفحة لدراسة مضامين وحيثيات تلك العملية الرائدة، وارتداداتها على الثقافة والمجتمع والسياسة… ويكفي أن أشير هنا إلى أهم ثلاثة أبعاد انطوت عليها تلك المأثرة

–  على صعيد التعليم أولا، فإن أجيالا من الشباب تخرجت من التعليم الثانوي وهي تعرف العربية…

– على صعيد الصحافة ثانيا، نشأت صحافة عربية مزدهرة ومتميزة… وقد لا يعرف الكثيرون أن يومية جزائرية مثل جريدة “الخبر” كانت توزع في بعض المناسبات لأربعين مليون مواطن قدر ما توزعه “الأهرام” لمئة مليون…

– على صعيد الأدب ثالثا، لا يمكن إلا لمن أصابه العمى، أن لا يرى أن المبدعين الجزائريين اليوم باللغة العربية يحتلون مركز الصدارة بين المبدعين العرب…

فاصلة بوضياف…

   على وجه الإجمال مرت عملية التعريب في الجزائر بمرحلتين:

– الأولى دامت ثلاثين سنة، من عام 1962 عام الاستقلال حتى عام 1992 مع مجيء الرئيس محمد بوضياف إلى السلطة، ويمكن اعتبارها مرحلة التأسيس، رغم كل شيء…

– الثانية مستمرة منذ حكم الرئيس بوضياف الذي لم يدم إلا ستة أشهر، حتى يومنا هذا… وكان بوضياف قد فرمل تماما عملية التعريب لأسباب كثيرة، أهمها بلا شك استغلال التيارات الأصولية لها (مع بداية العشرية الحمراء – أو السوداء ، كما تشاؤون)، وبحكم تكوينه السياسي وقربه الحثيث من بعض تيارات اليسار الفرنسي خلال إقامته في باريس…

اليوم يجب استعادة هذه التجربة ودراستها بعمق بخاصة مع دخول اللغة الإنكليزية على الخط…

الفرنسيون ليسوا أغبياء… عندما فاوضوا على استقلال الجزائر في “ايفيان” تساهلوا في كل شيء: الصحراء – الحدود – النفط-… إلا اللغة… لأنهم يدركون تماما أن من تمكن من لسان الإنسان تسلل إلى عقله وتمكن منه…

لقد اجتمع كل قادة الفكر في الجزائر على أن مقومات الشخصية الوطنية ثلاثة: الاسلام والعربية والبربرية… ويجب أن لا يعتبر التعريب مسا بالبعد البربري للشخصية الجزائرية… (سأعود لهذا الموضوع بالتفصيل في مناسبات لاحقة)..

” شعب الجزائر مسلم.. وإلى العروبة ينتسب”.  قالها العلامة بن باديس… وليس Jacques Berque  من يقول العكس….

Visited 2 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

جورج الراسي

صحفي وكاتب لبناني