“جمهورية الريف” مقابل “جمهورية القبائل”: بؤس ألمعية النخب السياسية المغاربية!
د. محمد الشرقاوي
في مقالة استشرافية بعنوان “لا أريد حربا عراقيةـ إيرانية بين الجزائر والمغرب” نشرتها في منصة “لكم” في 30 ديسمبر 2021، تناولت بالتحليل ما أسميته “خمسة متحوّرات سياسية سلبية”، وهي:
1. تزايدُ وتيرة التسلح لدى الطرفين،
2. القطيعةُ الدبلوماسية التي أعلنتها الجزائر إزاء المغرب،
3. رفضُ الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أي مصالحة خليجية أو إدراج الخلاف مع المغرب في اجتماع وزراء الخارجية في الجامعة العربية،
4. دخول أطراف خارجية على الخطّ لتعميق هوّة الخلاف ورفع مستوى التصعيد والاستغلال الاستراتيجي للأزمة،
5. وسوداوية المناخ السياسي الإقليمي وتردّي الإنطباعات السلبية في الخطاب الإعلامي لكلا الطرفين، خاصة منذ قبول الرباط التطبيع مع إسرائيل في العاشر من ديسمبر 2020.
واليوم، يمكن إضافةً متحوّر سادس إلى القائمة بمقاييس الموضوعية العلمية:
6. تراجع المخيلة السياسية لدى أهل الحل والعقد في كلا البلدين بدعم نعرات وهويات فرعية معينة مثل فتح “مكتب تمثيلية الريف” في الجزائر العاصمة، بعد قرابة ثلاثة أعوام من تقديم مندوب المغرب في الأمم المتحدة مذكرة تتحدث عن “حق تقرير المصير للشعب القبائلي الذي يتعرض لأطول احتلال أجنبي”.
وجاء في بيان لوزارة الخارجية الجزائرية آنذاك أن الممثلية الدبلوماسية المغربية في نيويورك “وزعت وثيقة رسمية على جميع الدول الأعضاء في حركة عدم الانحياز، يكرس محتواها بصفة رسمية انخراط المملكة المغربية في حملة معادية للجزائر”.
في سياق “رد الصاع صاعين” بين الجارين، يميل المنطق المحايد إلى عقد مقارنة موضوعية بين ما أقدمت عليه العاصمتان الجزائر والرباط. وبموازاة تأسيس “مكتب تمثيلية الريف” أمام الكاميرات في الجزائر العاصمة، لم يصل الموقف المغربي حد تأسيس “مكتب تمثيلية القبائل” في الرباط. ويمكن اقتباس ما خطّه حسن عبد الخالق، وهو سفير مغربي سابق بأن “المغرب سجل فقط ازدواجية موقف النظام الجزائري في تعامله مع مبدأ حق تقرير المصير، ولم يذهب إلى استقبال قيادة حركة “الماك” فوق أراضيه، أو تمويل أنشطتها وتمكينها من مقر في الرباط، ملتزما بفضيلة حسن الجوار وبعدم التدخل في الشؤون الداخلية للجزائر”.
تتباين التفسيرات والتبريرات لموقفيْ المغرب والجزائر، ويمعن البعض في توظيف مقولة “الشر بالشر والبادئ أظلم”. لكن، للأسف يتفوق الموقفان على بعضهما بعضا في اللجوء إلى دعم حركات هامشية ودعوات تفتت انكسارية في كلا البلدين. ويزيدان أيضا في انحدار مستوى الفعل السياسي الذي يظل انفعاليا وانتقاميا في أفضل حالاته.
لكن ما لا تدركه النخب السياسية التي تحرض على مثل هذه المجازفات غير العقلانية أنها تعمل على تكسير مجدافها الأيمن بنفسها وتمنح الطرف الآخر التحريض الكافي لتكسير المجداف الأيسر. وكما قلت منذ ديسمبر 2021، يساهم انغلاق قنوات الحوار بين الجزائر والرباط بشكل سلبي في تباين التأويلات وتضخيم المؤامرات المتخيلة أكثر من حقيقة المواقف المتبادلة. ويجسد الموقف الراهن بين الجارتين مدى الانغماس اللاعقلاني في منطق المحاور المتقابلة، وما يدور في خلد النخب السياسية والعسكرية بأنه “جوار ميت”.
ثمة دروس وعبر من تجارب التاريخ الحديث عندما تلجأ انفعالية عداوات الجوار إلى افتعال موجات احتجاج وحركات انقسامية والنفخ في قِرَبٍ مثقوبة. فلا مشروع الريف ولا مشروع القبائل كانا يستهدفان تدمير الدولة الأصل وإقامة دول الظل. وثمة عدة أمثلة من استقطاب المعارضة لدى الجار مرحليا والتحلل منها لاحقا وفق المتغيرات الاستراتيجية، منها أن العراق في حقبة صدام حسين قرر استضافة 2300 من أعضاء “مجاهدي خلق” الإيرانيين، كاستثمار سياسي ضد نظام الشاه والخميني في طهران. وكانت طهران تؤوي جماعات عراقية معارضة نكاية في نظام بغداد. وقامت حرب الثمانينات على فرضية أن معارضي الجار رصيد استراتيجي وإحراج سياسي لها. وانتهت المسألة بأن أعلنت كل من بغداد وطهران توقيع اتفاقية أمنية لتفكيك معسكرات المعارضة الكردية الإيرانية الموجودة في إقليم كردستان على الحدود مع إيران نهاية أغسطس الماضي.
تغيب الحكمة عن الجزائر والرباط بافتعال أزمة جديدة وتوظيف قضيتي الريف والقبائل خارج مسارهما السياسي والتاريخي. ويدرك الطرفان عبثية هذه الخطوات، وإن كانا غير قادرين على مقاومة الرغبة في إحراج الجار بشكل أو بآخر. هو منطق لا ينطوي على بعد نظر، ولا ينمّ عن فضيلة دبلوماسية أو رؤية استراتيجية حول حقيقة أنه لن تكون هناك قائمة تقوم لكل من “جمهورية الريف” و “جمهورية القبائل” حتى لو تم تجنيد كافة الشياطين الحمر والزرق ومختلطي الألوان وكافة أثرياء الأزمات.
Visited 48 times, 1 visit(s) today