عبد العلي بنشقرون وتأثير الفن في التفاعل السياسي والاجتماعي
حاوره محمد عبد الإله المهمة:
عبد العالي بنشقرون فنان تشكيلي مغربي، سبق له العمل في سلك التدريس أستاذا للاقتصاد، قبل أن يتجه إلى مجال الإبداع الفني ويكرس أغلب أوقاته للرسم. منذ نهاية الثمانينيات الماضية، أقام بنشقرون عدة معارض فنية خاصة، وساهم في أخرى جماعية، سواء في المغرب أو خارجه. ترأس جمعية “حوار الفنون المعاصرة”، كما نشر عدة مقالات فنية، وصدرت له مؤلفات اقتصادية وثقافية وفنية.
– بداية، كيف جئت أستاذ بنشقرون إلى لغة الفرشاة والألوان، وما هي الصلة التي ما بين التعبير الفني ولغة السياسة في رأيك؟
* عبد العالي بنشقرون: لا شك أن التعبير بالفرشاة والألوان والفن التشكيلي، قد يفيد أيضا للتعبير عن القضايا السياسية. إذ يمكن استعمال اللغة الفنية التشكيلية للتعبير عن قضايا ذات حساسية أو مثيرة للجدل، مثل الحروب والعدالة الاجتماعية.. الخ
هكذا يمكن للفن أن يؤثر في الوعي السياسي والاجتماعي، وهذا التأثير الثقافي والفني من شأنه التشجيع على التفكير وعلى النقاش، والمساهمة في بناء روابط التضامن ولحم الوحدة الوطنية، وبالتالي المساهمة في تشكيل رأي عام حول قضايا جوهرية للبلاد.
– الفن نتاج مخيلة المبدع.. كيف تعيش دورة التفاعل بين الوعي الفني وتجاوب المخيلة الإبداعية؟ هل المسألة حسية بحتة، أم أن بوسع الفنان أن يخضعها لشروط وضوابط معينة يتقاسمها مع غيره؟
* الفنان هو أولا إنسان عاشق للألوان والأشكال، من انشغالاته إحداث تناسق جمالي مفترض.. لذلك تجد كثيرا من الفاعلين في مجال الفن مهتمين أيضا بالقضايا الاجتماعية وبالشأن العام والمجال السياسي. وينعكس أحيانا هذا الاهتمام في الأعمال الفنية، وقد تكون نتاج هذا أعمال ذات طبيعة سياسية، أو أعمال بالإمكان تصنيفها في خانة “الفن الملتزم”. يبقى أن جوهر وطبيعة العمل الفني عبارة عن إبداع جمالي، وتفاعل الفرشاة والألوان والأشكال الفنية مع بعضها البعض. وأحيانا يتجه الفنان أو مجموعة فنانين، لإنتاج عمل أو القيام بأنشطة فنية دفاعا عن فكرة ما أو قضية معينة. بهذا الصدد أذكر بتجربتي في تنظيم معرض افتراضي لدعم فكرة المغرب الكبير، بمشاركة حوالي 200 فنان من 37 بلدا من مختلف أنحاء العالم. أو مبادرة معرض للتضامن مع فلسطين، وكلها مبادرات فنية تعطي للفن بعده الإنساني العميق، وتذكر نا بأن للفن رسالة ممكنة.
– تأسيسا على هذا القول، هل يعتبر الفنان مناضلا في سبيل الحرية، كيف تتجلى هذه الحرية في تجربتك التشكيلية؟
* من طبيعة الفنان إنه إنسان حر، أي أنه يترك لخياله فرصة أن يسبح في فضاء الإبداع اللامحدود بدون قيود، لهذا يعد الفنان بمثابة رسول للحرية، مادام أساس الإبداع لديه هو التفكير الحر.
طبعا هؤلاء الفنانون يستعملون فنهم وخيالهم واجتهادهم وإبداعهم لانتقاء المواضيع التي يودون التعبير عنها، سواء كانت فنية بحته، مثل موضوع الطبيعة وما يتهددها من مخاطر تهدد الحياة، والقضايا الاجتماعية، من مشاكل البادية، أو الفوارق بين الناس، أو غير ذلك من المواضيع المختلفة، مثل الكتاب والعلم والثقافة والتعليم والمدرسة.. هكذا يستطيع أن يشكل وسيلة تعبير عن الذات وعن المجتمع وقضاياه.
– ألا يمكن التعامل إذن، مع كل معرض فني بصفته مغامرة إبداعية غايتها حرية المبدع؟
* نعم ولا، في نفس الآن، إذ ليس بالضرورة أن كل معرض ينظمه الفنان أو الفنانة هو مغامرة، بل هي فرصة للتبادل والانفتاح على الجمهور، كما على الزملاء الفنانين والفنانات مناقشة الأشكال الفنية والأساليب والأدوات المستعملة وأنواع الصباغة والألوان..
المعرض فرصة لكي يقدم الفنان أو الفنانون، في حالة المعارض الجماعية، رؤيتهم وابتكاراتهم وإبداعاتهم الخاصة بحرية. هي أيضا مناسبة لتلقي الملاحظات والتعاطي مع النقد البناء، الذي يسمح بتحسين الأساليب الإبداعية وتطوير المسارات الفنية في اتجاه أذواق الجمهور ورغباته في مجال الألوان وتناسق الأشكال، ونوع الصباغة والطلاء أو الأكواريل أو أدوات متعددة أو مبتكرة ومجربة، استعملت في هذه اللوحة أو تلك…الخ. من هذه الناحية فهي مغامرة بأساليبها المتجددة وأشكالها وردود فعل الجمهور والفنانين والنقاد.
– ضمن هذا الإطار، ألا يخامرك شك في أن كل ما أنجزه الفنان التشكيلي إلى اليوم، هو نتاج صرف وعمل من وحي خيالي ذاتي وجماعي…؟
* ليس الفن والتعبير الفني سوى نتاج تفاعل البعد الذاتي والبعد الجماعي، أو حتى الاجتماعي. الفنان يعبر عن خياله ووعيه وحسه وما يخالجه من أمور وقضايا تضغط على نفسيته، ويحب أن يخرجها من عقله ووجدانه، ليخطها ويرسمها على الورق أو القماش، أو أي وسيط فني آخر. وهي بذلك تعبير عن تجربته الشخصية الذاتية ومساره كإنسان، وكتراكم لتجاربه ومعايشاته…
في نفس الوقت، فإن الفنان ابن بيئته، ولأنه ابن هذا العالم المعاصر، الذي نعيشه جميعا، فإنه يتأثر بهذه البيئية وبهذا العالم، ويتفاعل معه إيجابا أو سلبا، ويلاحظ ما يعيشه الناس من حوله. ما هي أوضاعهم وهمومهم ومشاكلهم وتفكيرهم وسلوكاتهم وأفراحهم ومآسيهم..؟ لهذا فإن الفنان لابد أن يعكس بيئته في أعماله الفنية،.وجميعنا نرى مثلا أن عددا من الفنانين والفنانات قد تأثروا بما يجري في غزة وفلسطين، ويعكسون هذه الأوضاع في لوحاتهم أو منحوتاتهم، مما يلقى ترحيبا من زملائهم العرب والأمازيغ والفلسطينيين على حد سواء.
– لو طُلِبَ منك مثلا تنظيم “ندوة تحسيسية” لا يعلو فيها صوت آخر، غير صوت الفنان التشكيلي؟
* تسعون في المائة من المواقع الاجتماعية تعج بما يجري في العالم. واليوم غزة وفلسطين هي مركز العالم. والجميع يقول بصوت واحد أن السبعة أشهر الأخيرة غيرت العالم، وغيرت الغرب وأسقطت عدة أطروحات كانت مهيمنة على العقول في كل البقاع. وواهم من يحاول إخفاء هذه الأمور.
كانت هناك جمعيات فنية اعتاد ت تنظيم معارض جماعية، طرحت فكرة إقامة معرض فني. علما أنه سبق لي إقامة معرض افتراضي قبل مدة تضامنا مع فلسطين، وقد لقي تجاوبا واحتضانا من فنانين ينتمون إلى بلدان من أوربا وبلدان عربية ومغاربية ومن الهند والصين وروسيا… فكان أن خلص المقترح إلى أن المعرض يكون حول فلسطين أو يؤجل إلى ما بعد توقيف هذا الدمار، واعتبارا للأجواء العامة.
كل هذا الكلام للقول إن اليوم هناك موضوع وحيد يصعب على الفنان إهماله أو غض الطرف عنه، وهو موضوع الحرب على غزة. بالعكس، الفنانة والفنان، كإنسان ذي حس مرهف يتألم لهذه المآسي، فيتفاعل معها بفرشاته وتنسيق ألوانه والاشكال على وسائط لوحاته ومنحوتاته. مع ذلك ممكن أن يكون موضوع ندوة لفنانات وفنانين تشكيليين ونحاتين “تفاعل الفن مع المحيط الإنساني والعالمي” مثلا.
– في عالم اليوم، نحن أمام واقع مهدد للهوية الوطنية، أمام انتشار ثقافة الابتذال وهيمنة قيم التفاهة. برأيك هل الفن، وضمنه الفنون التشكيلية، بإمكانه إعادة الاعتبار للهوية الثقافية للمغاربة؟
* بالتأكيد، يفترض في الفن أن يلعب دور معينا أو مهما في بناء وتطوير الهوية الوطنية. فالثقافة، والفن من ضمنها، ينبغي أن تقوم بأدوار تعزيز الانتماء للوطن ولحم مكوناته ومد الجسور بين هاته المكونات، وتعميق الحوار بين مختلف الحساسيات الثقافية، وذلك عبر التعبير عن مختلف الرموز المختلفة لتلك المكونات، إذ أن الثقافة والفن موكول لهما هذا الدور الاجتماعي، موضوعيا من أجل تدعيم صرح البلاد والعمل على نمائه وصهر وحدته. ولهذا فإن المعارض الجماعية والندوات الفنية، وتبادل التجارب بين الفنانين من مختلف الجهات والأقاليم، من شأنها الذود عن البلاد ووحدتها وانصهارها وتلاحمها وتطويرها وتنميتها…
– يجري الحديث أحيانا حول الأصالة، والحال أن لا فضاءات لانبعاثها في غير المدرسة أو كتب التاريخ. فمقابل الإقبال الواسع على التفاهة، نلاحظ إدبارا واضحا عن الفنون الراقية، من مسرح وسينما وفنون تشكيلية. كيف يقرأ عبد العالي بنشقرون هذا التشخيص والتقييم؟
* للأسف، تعكس التفاهة المستوى الثقافي لأغلب الناس في مجتمع ما، وتترجم كذلك ظاهرة أن منظومة القيم ليست على أحسن حال. وفي بلادنا فإن مشاكل المدرسة العمومية وتشجيع المدرسة الخصوصية على حساب القطاع العام في التعليم، جعل القطاع يسير بسرعتين، بحيث أن فئة من المجتمع تستفيد من تعليم جيد، بينما الأغلبية في التعليم العمومي تعاني من نقص الجودة. ومنظومة القيم في البلاد ذات علاقة مباشرة بالمدرسة العمومية، حيث الأغلبية. والمستوى الثقافي للأغلبية بالموازاة هو انعكاس لتدني القطاع العام في التعليم. في هذه الأجواء العامة تتولد التفاهة للأسف، لأن المدرسة العمومية الجيدة هي التي تنشر التعلم وتقلص الأمية، وترتقي بالذوق الثقافي والفني للمجتمع والأغلبية.
– هناك حديث ونقاشات ساخنة ومتواترة حول العالم الرقمي وأدوار الصورة في بناء إنسان الألفية الثالثة، ألم تقوض هذه الاستراتيجيات مساحة وأدوار الفنان التشكيلي، باعتبار اشتغاله على ما هو مرئي وموجه للعين؟
* لا شك أن التطورات الرقمية تفرض نفسها أكثر فأكثر في المجتمع، وكذا على باقي مستويات الحياة والمجتمع والاقتصاد والعلاقات، بما فيها المجالات الثقافية والفنية. والمواقع الاجتماعية يستفيد منها الفنان للعرض والترويج والتواصل. وهذا يمكنه من المساهمة في التبادل والانخراط في النقاش العام، وتقييم دور هذه المجالات في إعمال دينامية التنمية ونهضة البلاد. بل أكثر من هذا، فإن الإنترنت يسمح بالأنشطة الافتراضية ومنها المعارض. ولقد نظم الفنانون التشكيليون والنحاتون والخطاطون معارض شارك فيها المئات من الفنانين عبر العالم. كما نظموا معارض تضامنية مع فلسطين، ولصالح قضايا استراتيجية، مثل فكرة المغرب الكبير..الخ.
طبعا هناك أيضا الديزاين الرقمي، وعن طريق الذكاء الاصطناعي، والذي أصبح عاملا في الإنتاج الفني، وهذا موضوع يختلف حوله الناس، حول مدى أهميته وقيمته وجدوائيته، وهل يجوز من الناحية الأخلاقية، وهل الاستعانة بالذكاء الاصطناعي أمر مقبول أم مرفوض، وهل ممكن اللجوء إلى استعمال مزدوج للإبداع الفني البشري والديزاين الاصطناعي في آن.. حقيقة هكذا أعمال مزدوجة لا تخلو صراحة من جمالية… طبعا تبقى هناك مواقف يوجد اختلاف الرأي حولها… هناك فنانة لبنانية مشهورة ساهمت في المعرض التضامني مع فلسطين، اعترفت بوضوح أن إحدى لوحاتها مدعمة بالذكاء الاصطناعي..
– تطالعنا جداريات فنية على واجهات بعض البنايات العالية، إلا أنها في الغالب تروج لما هو تجاري في رحابة الفضاء العام، لم لا يبادر الفنان التشكيلي إلى بصم فضاء المدينة بلوحات على الجدران من أجل أذواق مغايرة، كما يحدث في موسم ومهرجان أصيلة؟
* كثر بمراكش الكلام عن فنان ألماني سبق أن أنجز جدارية ضخمة قبالة محطة القطار. مؤخرا قام بتجديدها. فهي فعلا جدارية جميلة. ورغم التقدير الذي يمكن أن يكون لهذا النوع من العمل، من الناحية الفنية، فإن الطاقات الفنية المحلية يمكنها أن تنتج جداريات لا تقل جمالا وإبداعا عن هذا العمل. ويمكن أصلا اختيار موضوع أفضل، يلائم طموح المغرب الذي يجسده الشباب، والشباب الرياضي، والشباب المبتكر والعلمي.. أما جداريات الإشهار، فذلك يخضع للمنطق التجاري البحت، وغالبا ما يكون في أشكال إلكترونية أو كارتونية مطبوعة من إنتاج الديزاين ، أكثر منه عملا إبداعيا فنيا.
– بماذا تفسر ذلك كفنان تشكيلي؟ هل بعلاقة الفن بالسياسة، أم باستغلال المال لدعم فنان دون آخر؟
* ربما جواب هذا السؤال متضمن في الجواب الأخير. يمكن فقط إضافة أن المسؤولين على شؤون المدينة والمقاطعات والقطاع الثقافي أيضا، يستحب أن يشجعوا أكثر الشباب المحلي المبدع، بإتاحة الوسائل المادية واللوجيستيكية أمامه، لإنتاج جداريات تزين حيطان المدينة والواجهات بالشوارع والساحات الكبرى…
– وضع مغربي وعربي جد مقلق.. عنوانه الأبرز مأساة غزة، التي تباد في حياد وعجز تام، أليس الصمت مشاركة.. انطلاقا من كون كل حياد هو موقف صريح؟
* لقد تم التعرض لهذا الجانب جوابا على سؤال موضوع ندوة الفنانين، بحيث أن غزة وفلسطين هي موضوع الساعة، ليس فقط للعرب وللمسلمين، بل للبشرية جمعاء. لهذا فإننا مع ثلة من الفنانين بادرنا لتنظيم معرض تضامني، ولما أعلن المشروع تم التوصل بطلبات المشاركة من العديد من الفنانات والفنانين من دول عدة، وكان لهذا المعرض حضورا وصدى في الإعلام الوطني والعربي والفلسطيني والعالمي، وفي المواقع الاجتماعية… كانت هذه قناعة مشتركة لكل هؤلاء، خلقت ديناميكية إضافية وعملا جماعيا إضافيا، وقيمة مضافة عالمية للعديد من الفنانين المشاركين، كحوارات بينهم جميعا، حوار الفنون والثقافات والحضارات، بذلك القاسم المشترك، الإنساني التضامني، الذي يجسد منطلق الوجود الفني للمبدع وللفنان أينما وجد وكان.