المعطي قبال يضع رولان بارت في الصورة المغربية
صدر عن منشورات دار توبقال للكاتب والصحافي (رئيس التحرير المساعد للسؤال الآن)، كتاب جديد في عنوان «رولان بارت في المغرب». يقع الكتاب في 110 صفحة. للذكر فإن رولان بارت تسري عنه صورة الناقد الجذري والمحلل السيميائي للعلامات والرموز والذي نسب أو نسبه البعض للتيار البنيوي. كما عرف في الأوساط الأكاديمية بقرابته الفكرية مع معلمات فكرية في مجال التاريخ مثل ميشال فوكو، في مجال الفلسفة مثل جاك دريدا أو الأدب مثل فيليب سوليرس وجوليا كريستيفا. وقد أحدثت التقاطعات النظرية التي أجراها مع هؤلاء الأيقونات فتحا في أكثر من قارة نظرية وفي مختلف ميادينها. هذه المعطيات معروفة ومتداولة منذ أن خاض رولان بارت في الكتابة.
لكن ما هو غير معروف هي علاقته بل علاقاته بالعالم العربي وتحديدا بالمغرب. أكيد أن بارت كان محط غواية في الصحافة والنقد الأكاديمي بالعالم العربي. لكن علاقته بهذا العالم، نظرته له، بقيت في الظل. هذا مع العلم أن العالم العربي كان يعيش فترة مخاضات سياسية واجتماعية منها ما يتعلق بحركات التحرير ومنها ما يهم الاستقلال والتخلص من الاستعمار. وكانت له في هذه القضايا بشكل متشظي أوراق تحليلية هامة. لاحقا نحت بارت سلسلة مفاهيم أصبحت في مجال الثقافة بمثابة موضة ينهل منها الجميع مثل مفاهيم «المتعة»، «اللذة»، «الشذرات»، «الخطاب العاشق» الخ…
وأظهر البحث الذي أنجزه المعطي قبال عشق بارت بالترحال والأسفار حيث جاب محاضرا أو سائحا القارة الأمريكية، القارة الآسيوية، دول المتوسط ثم بعض بلدان العالم العربي وبالأخص مصر، تونس، الجزائر، المغرب. وفي الوقت الذي كانت فيه إقاماته قصيرة وعابرة في هذه البلدان، حط الرحال بالمغرب لمدة سنة وتحديدا عام 1969، لكنه كان من قبل زائرا مداوما منذ عام 1960 على المملكة. وكانت للوساطة الفكرية التي لعبها الراحل عبد الكبير الخطيبي الذي كان أحد تلامذته وأصدقائه فيما بعد، دورا هاما في إنجاز هذه الدراسة.
كان بارت عضوا في هيئة تحكيم خلال مرافعة الخطيبي عن أطروحته الجامعية بجامعة السوربون، فيما كان جاك بيرك رئيسا للهيئة. تركز البحث على موضوع «الرواية المغاربية منذ 1945». وفي نص شهير أشاد بارت بالعمل الذي أنجزه وينجزه الخطيبي في مواضيع المنسي والمسكوت عته والتي تهم الجسد، الذاكرة، الخطابات الضمنية الخ…
الخطيبي إذا هو أحد الوجوه التي أسس معها بارت قرابة فكرية أساسية. الوجه الثاني هو عبد الله بونفور واحد من تلامذة بارت. رسم مسارا لغويا ولسانيا ضمن المتن الأمازيغي لقراءته وتفكيكه كتراث منسي. الوجه الثالث هو الشاعر والروائي زغلول مرسي الذي يرجع له الفضل في دعوة بارت للتدريس بجامعة محمد الخامس, كتب بارت لاحقا مقالا نشره بـ«النوفيل أوبسيرفاتور» عن الديوان الشعري «شمس مترددة» الصادر عام 1969 بمنشورات غراسيه. لكن خلف هذا الاهتمام بهذا الديوان الشعري يلاحظ المعطي قبال بأن اهتمام بارت بالأدب المغربي المكتوب بالعربية والفرنسية على حد سواء كان ضعيفا إن لم يكن منعدما. وتنطبق نفس الملاحظة على بقية الآداب العربية مثل الأدب المصري بالرغم من أن بارت عمل بالإسكندرية وكان يتوفر على فرصة التعرف على كتاب ومبدعين كتبوا بالعربية والفرنسية. أما الحضارة المصرية فلم يعرها اهتمام يذكر. كان اهتمامه مشغولا بالحضارة الإغريقية ذات البعد الشعري والتراجيدي الحكواتي أيضا. وقد مثل المسرح بالنسبة له مرجع المراجع الذي عبر من خلاله عن هويته الثقافية والفنية.
ويميز بحث المعطي قبال بين عدة مستويات في مسار بارت ونتاجه: مستوى نخبوي ومستوى شعبي تعبر عنه الرسائل التي تبادلها مع الجيلالي، مستوى الحواضر والمدن، مستوى الكتابة الاستيتيقية والكتابة الشفوية الشعبية. وفي كل هذه المستويات كان بارت يقدح قبسات رمزية مميزة. حضور المغرب مبثوث في أكثر من مكان من نتاج بارت. يجب الانتباه إليه، تقفي أثره، الإلمام بمقتضياته. بلد آخر حظي باهتمام بارت هو اليابان الذي زاره وأقام به لمدة ثلاث مرات. وقد اشتغل على «امبراطورية العلامات»، الكتاب الذي اعتبر معلمة فكرية في نتاج بارت. اشتغل بارت على هذا الكتاب الفني وصححه واختار صوره رفقة الناشر سكيرا وهو مقيم بالمغرب. اليابان بلد العلامات الممتلئة-الفارغة ، بلد الرموز التي تخلق لدى الزائر الفضول والحيرة. كان بارت شديد الإعجاب والانتباه بهذه البلدان الاستثنائية وبالأماكن الغريبة والمتناقضة التي تتأسس عليها. على أي يبقى اليابان يشير المعطي قبال أفقا للكتابة. غير أن ما لم ينتبه او لم يهتم به رولان بارت في الثقافة العربية مثل الخط العربي، عكف على دراسته عبد الكبير الخطيبي. وكان بحثه «الخط العربي» الذي وقعه رفقة المرحوم السجلماسي تكملة مغايرة لإمبراطورية العلامات لكن مطبقة على الخط العربي.
أبان الخطيبي أن الخط مسكن ومأوى اللاهوت وفي نفس الوقت مراوغة لسلطاته عبر لعبة المرآة وحركية الحروفية. بعد أن عدد الأماكن التي عشقها وتردد عليها بارت، مثل إيطاليا، اليونان، اليابان، المغرب، (الذي كتب عنه كتابا خلق الكثير من الضجيج في الإعلام الفرنسي ألا وهو كتاب «وقائع»، نشر بعد وفاته وتطرق فيه إلى مثليته الجنسية)، تساءل المعطي قبال: من يقرأ بارت اليوم؟ «هل ثمة اهتمام بنتاجه النقدي والفكري في زمن الرموز والعلامات التي استحوذت على ميادين الموضة، المنتوجات الاستهلاكية، هيمنة الصور وسلطة الاحتمالية والذكاء الاصطناعي؟ هو الذي قرأ الانسقة والأنظمة مفككا بنياتها وتوجهاتها، أصبح الكل يعمل بفلسفته من دون أن يعرف من هو بارت ودلالة نتاجه. بارت ضحية ابتذال ثقافي مثله مثل العديد من الفلاسفة والمفكرين والكتاب». ويختم المعطي قبال دراسته بمقابلة أجراها مع الناقد والباحث عبد الله بونفور، أحد تلامذة بارث الذي راجع فيها ذكريات بارت وهو أستاذ بجامعة الرباط بقسم الآداب. وكان مستعدا لتقديم برنامج دراسي عن مارسيل بروست وإدغار آلن بو وجيل فيرن لولا الإضرابات التي شلت سير الجامعة واضطرته إلى تعليق هذه الدروس قبل إلغائها والعودة إلى باريس. هرب من تبعات ثورة أحداث ماي 68 إلى المغرب ليجد نفس الوضع الصاخب فعاد من حيث جاء. لكن المغرب بقي قطبا للزيارة يتردد عليه حتى بعد مغادرته.
Visited 173 times, 1 visit(s) today