اجتماع بكين: بارقة أمل أم خيبة جديدة؟
هاني المصري
منذ وقوع الانقسام، جرت مبادرات واجتماعات وجهود لا حصر لها فلسطينية وعربية ودولية، بعضها انتهى إلى اتفاق، مثل اتفاق مكة (2007)، واتفاق القاهرة (2011 )، وإعلان الدوحة (2012)، وإعلان الشاطئ (2014) واتفاق القاهرة 2 (اتفاق التمكين) (2017)، وتفاهمات إسطنبول (2020). وتم تطبيق بعضها بشكل جزئي ومؤقت، لدرجة تشكيل حكومة الوحدة الوطنية في العام 2007 وحكومة الوفاق الوطني في العام 2014، إضافة إلى عقد الإطار القيادي المؤقت اجتماعين بعد اتفاق القاهرة 2011، وعقد اجتماع الأمناء العامين في العام 2020.
في المقابل، لم تفض اجتماعات أخرى لإنهاء الانقسام إلى اتفاق، على الرغم من صدور بيانات عن بعضها، مثل اجتماع صنعاء (2008)، ولقاء موسكو (2019)، واجتماع الجزائر (2021)، واجتماع العَلَمين في مصر (2023)، ولقاء بكين 1 (نيسان/ أبريل 2024).
عملية بلا مصالحة
لقد أصبحت عملية المصالحة في ضوء الاجتماعات العديدة التي لم تفض إلى نتائج إلى عملية من دون مصالحة، وأشبه بعملية السلام (عملية بلا سلام) كما وصفها دنيس روس.
رافقت الكثير من حوارات المصالحة إما بحضورها أو متابعتها بالتفصيل الممل عن بعد، وكنت دائمًا أتوقع فشلها أو انهيار الاتفاقات بعد التوقيع، لأنها كانت تقف على رمال متحركة، وتركز على الجوانب الشكلية والإجرائية، مثل تشكيل لجان أو الحكومة، وتتجاهل الجوانب السياسية وأسس الشراكة، وتفقد للإجابة السياسية وتركز على قضية مهمة أو قضيتين، مثل البدء بالانتخابات أو المنظمة، وتتجاهل القضايا الأخرى، خاصة البرنامج الوطني (وهو أهم قضية والمفتاح الوحيد لأبواب الوحدة المغلقة) والشراكة، لدرجة أن مركز مسارات نظّم عشرات الاجتماعات واللقاءات والورشات والمؤتمرات في مختلف أماكن تواجد الشعب الفلسطيني التي شارك فيها آلاف المشاركين من مختلف التيارات، إضافة إلى إنتاج العشرات من الوثائق والدراسات التي تضمنت توصيات حول مختلف الجوانب، وانتهت إلى أن الوحدة لن تتحقق إلا باعتماد مقاربة الرزمة الواحدة الشاملة.
مقاربة الرزمة الشاملة
تتضمن مقاربة الرزمة الشاملة البرنامج السياسي، وأسس الشراكة، وتشكيل حكومة وحدة أو وفاق وطني، وإعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي التي تؤمن بالشراكة، حيث يتم تشكيل مجلس وطني جديد (وليس اعتماد المجلس الوطني القديم الذي لا يزال قائمًا والمجمّد والغائب والمغيب) وفق النظام الأساسي للمنظمة، إضافة إلى تشكيل إطار قيادي مؤقت إلى حين إجراء الانتخابات على كل المستويات والقطاعات حيثما أمكن، وداخل فلسطين وخارجها.
ويجب أن تُطبق الرزمة الشاملة بالتوازي والتزامن والتدرّج؛ أي يتم تشكيل الحكومة في الوقت نفسه الذي يجري فيها تشكيل وتفعيل الإطار القيادي المؤقت إلى حين إجراء الانتخابات، وتقوم الوحدة ليس على نظام المحاصصة، وإنما على أساس توازن المبادئ والمصالح وقاعدة لا غالب ولا مغلوب.
وكان الجدال ضد حل الرزمة الشاملة بأنه معقد صعب، ويتطلب اتفاقًا واسعًا، وهذا صحيح، ولكنه يقف على أرض صلبة وطنية ديمقراطية توافقية، وهذا الحل مضمون، لا سيما أن الاتفاقات الجزئية والإجرائية لم تر النور، وإذا رأت النور لم تصمد، الأمر الذي عمّق الانقسام أفقيًا وعموديًا. وكنا ندرك ولا نزال أن حل الرزمة بحاجة إلى تغيير في الخريطة السياسية وموازين القوى الفلسطينية والمقاربات المعتمدة والأشخاص المشاركين.
ولكن عدم نضج الشروط للتوصل إلى حل الرزمة الشاملة لا ولم يمنع الإقدام على حلول ترقيعية مؤقتة، خاصة في ظل توفر عوامل وتطورات كانت تساعد في التوصل إلى الاتفاقات، وعندما تتغير الظروف “تعود حليمة لعادتها القديمة”. وأكبر مثالين على ذلك: أولًا، اتفاق القاهرة الذي عقد في العام 2011 تحت تأثير وضغط الربيع العربي وصعود الإخوان المسلمين، وانهار مع انهياره. ثانيًا، تفاهمات إسطنبول التي وقّعت بتأثير تولي دونالد ترامب سدة البيت الأبيض، وقيامه بضم الجولان والقدس، ونقل السفارة الأميركية إليها، وإغلاق مكتب منظمة التحرير، وقطع المساعدات والعلاقات مع منظمة التحرير والسلطة، وطرح صفقة القرن التصفوية، وعندما سقط ترامب في الانتخابات وفاز جو بايدن انهارت التفاهمات بعد إلغاء الانتخابات في اللحظة الأخيرة بسبب عودة الوهم حول المفاوضات والرهان على الإدارة الأميركية الجديدة .
سياق اجتماع بكين
يمكن أن نفهم التفاؤل الحذر حول إمكانية الاتفاق في بكين كون الاجتماع يعقد في ظل الظروف والتطورات الآتية:
أولًا: استمرار حرب الإبادة والتهجير في قطاع غزة وعدم نجاح التوقعات بوقفها أو بهزيمة المقاومة، وخطة الضم المتدرج والتهجير في الضفة الغربية، في سياق تنفيذ خطة الحسم التي طرحها الوزير بتسلئيل سموتريتش منذ سنوات، وتؤيدها الحكومة الإسرائيلية الحالية عمليًا، وترمي إلى تصفية القضية الفلسطينية من مختلف جوانبها.
ولعل السعي المتدرج إلى تصفية السلطة بما تجسده من هوية وطنية فلسطينية، والملامح المتزايدة عن عودة عهد الوصاية والبدائل الإقليمية والإسرائيلية والأميركية، وقرار الكنيست برفض قيام دولة فلسطينية بتأييد معظم الأحزاب في الحكم والمعارضة، كلها أدلة على عدم إمكانية فتح أفق سياسي ما دامت موازين القوى الحالية، وتحديدًا ما دامت هذه الحكومة اليمينية قائمة، مع أن التي ستحل محلها لن تكون جوهريًا أقل سوءًا منها، كما يظهر في تصويت معظم أحزاب المعارضة ضد الدولة الفلسطينية، وهي تعلن على لسان رئيسها نتنياهو، لا عباس ولا حماس، ولا فتحستان ولا حماسستان.
ثانيًا: بعد زيادة فرص دونالد ترامب بالفوز بعد المناظرة بينه وبين الرئيس جو بايدن التي كان أداء الأخير فيها سيئًا جدًا، ومن ثم انسحابه من سباق الانتخابات، وكذلك بعد محاولة اغتيال ترامب؛ ما قد يجعل القيادة الرسمية الفلسطينية تخشى من عودة ترامب الذي سيعتمد سياسة ستشكل دعمًا أكبر لحكومة اليمين من سياسة بايدن، كما يظهر في تصريحات ترامب أكثر من مرة من أنه سيمكن إسرائيل من حسم هذه الحرب بسرعة.
ثالثًا: ازدياد الحاجة إلى ترتيب البيت الفلسطيني استعدادًا لوقف الحرب وإعادة الإعمار والبناء، حيث ثبت أنه من دون اتفاق أو وفاق فلسطيني فلسطيني لن يكون هناك “يوم تالٍ” ولا حكومة فلسطينية قادرة على الحكم، إضافة إلى تقدم سيناريو الفوضى في القطاع الذي تسعى سلطات الاحتلال إلى تحقيقه، كما يظهر من خلال استهداف كل الأفراد والمؤسسات، خاصة التي تنتمي إلى حركة حماس أو تمت بصلة لسلطتها، سلطة الأمر الواقع التي أقامتها في قطاع غزة، والتي تقوم بالإغاثة أو تحاول ترتيب أمور الحكم.
رابعًا: طرح هدف “تنشيط” السلطة وإيجاد “سلطة متجددة”؛ ما يعكس عدم رضا أميركي أوروبي عربي عن السلطة الحالية، ومسعى لتحويل الرئيس محمود عباس إلى رئيس فخري، وتشكيل حكومة ذات صلاحيات تقوم بالإصلاحات المطلوبة أميركيًا وتجعل السلطة أكثر خضوعًا .
خامسًا: إن الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية والزخم الدولي للاعتراف بالدولة الفلسطينية، وقرب صدور مذكرات اعتقال لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير حربه يوآف غالانت؛ يوجبان رصّ الصفوف الفلسطينية تمهيدًا لشن هجوم سياسي يهدف إلى تقليل الأضرار والخسائر وتوظيف الفرص المتاحة، فنحن في وضع القضية حضورها طاغٍ والحل يبعد؛ ما يستدعي رؤية وخطة تجسر الهوة بين حضور القضية وابتعاد الحل.
لعل استمرار المخطط الصهيوني لتصفية القضية الفلسطينية بما في ذلك تقويض السلطة من جهة، وزيادة فرص نجاح ترامب من جهة أخرى، والحاجة إلى سحب الذرائع من الدول المانحة لتمويل إعادة الإعمار من جهة ثالثة من خلال تشكيل حكومة وفاق وطني لا تشارك فيها الفصائل، واستثمار التضحيات الغالية والصمود الأسطوري والمقاومة الباسلة؛ يمكن أن تكون جعلت الأطراف الفلسطينية، خاصة الرئيس عباس، أكثر استعدادًا لإنجاح جولة المصالحة الثانية في بكين بعد فشل الجولة الأولى في نيسان الماضي، وتأجيل الثانية من أواخر حزيران الماضي إلى أواخر شهر تموز الحالي، ولكن السؤال: هل سيكون ذلك لدواعٍ تكتيكية مؤقتة أم ممتدة؟ والجواب بكل أسف معروف.
ورقة جديدة قابلة للحوار
يظهرُ بصيص الأمل بإحراز تقدم نحو الوحدة في اجتماع بكين، جليًا، في الورقة التي يحملها وفد حركة فتح، وتختلف عن تلك التي كانت معه في اجتماعات الجزائر والعلمين وموسكو وجولة المصالحة الأولى في بكين، ففي الورقة الأولى شروط تعجيزية من المستحيل الموافقة عليها، فهي تنص على معالجة إفرازات الانقلاب، وعلى المقاومة السلمية حصرًا، وقيام الرئيس بتشكيل حكومة تكنوقراط من دون وفاق وطني ولا مرجعية وطنية. أما الورقة الجديدة فتطرح صياغات جديدة قابلة للأخذ والرد.
عقبات أمام اتفاق بكين
مع ذلك، هناك قضايا عالقة يمكن أن تعيق الاتفاق أو تجعله اتفاقًا مؤقتًا سرعان ما ينهار، أو تحول دون تطبيقه بعد التوقيع عليه، ومن أهمها:
أولًا: موعد دخول حركتي حماس والجهاد الإسلامي إلى منظمة التحرير الذي يجب أن يكون واضحًا وسريعًا.
ثانيًا: موعد وكيفية تشكيل وصلاحيات الإطار القيادي المؤقت الذي يؤمن بالشراكة في صنع القرار السياسي، فلا يعقل مثلًا أن تكون “حماس” خارج حكومة الوفاق الوطني والمنظمة لفترة انتقالية إلى حين إجراء الانتخابات؛ أي قد تطول المدة من دون مشاركة الحركة في مرجعية وطنية مثل الإطار القيادي المؤقت.
ثالثًا: ضرورة الاتفاق على البرنامج السياسي الذي يجسد القواسم المشتركة، فلا يكفي الاتفاق على هدف إنهاء الاحتلال وإنجاز الاستقلال الوطني وحق العودة، بل يجب تشكيل حكومة وفاق وطني قادرة على الإقلاع ووضع إستراتيجية موحدة، وتشكيل قيادة وطنية موحدة قادرة على تحقيقه، فلا مكان للأوهام نظرًا إلى عدم وجود شريك إسرائيلي للسلام في ظل حكومة نتنياهو أو التي بعدها، وهذا تقدير محل إجماع فلسطيني وعربي ودولي، ولا إرادة أميركية للضغط على الحكومة الإسرائيلية، خاصة إذا فاز ترامب وهذا لا يستوجب الاستسلام وانما العمل الدؤوب لتغيير الواقع.
وتغيير الواقع صعب، لكنه ليس مستحيلًا لأن السلة الفلسطينية ليست فارغة، بل إن دولة الاحتلال بعد كل ما جرى أخذت حجمها الطبيعي، والقضية الفلسطينية أصبحت حاضرة بقوة، كما أن تأييد إقامة دولة فلسطينية بوصفه حلًا يحظى بتأييد عالمي متعاظم، حيث بات أمرًا لا مفر منه لضمان الأمن والاستقرار والسلام وممرًا إجباريًا إذا ذهبت المنطقة والعالم إلى تسويات، وهذا سيناريو محتمل.
أما إذا سارت المنطقة والعالم نحو حرب أو حروب إقليمية تفتح الطريق إلى حرب عالمية، وهذا سيناريو وارد كذلك، فنتائج الحرب أو الحروب هي التي سترسم إما وضع الدولة الفلسطينية على خريطة العالم الجديد، أو استمرار تغييب القضية الفلسطينية وتهميشها.
سلطة مدمرة وأخرى على حافة الانهيار
كان الصراع على السلطة أهم مصدر للصراع والخلاف الفلسطيني الفلسطيني، والسبب الرئيسي لوقوع الانقسام واستمراره. والآن، السلطة دُمِّرت في قطاع غزة، وعلى حافة الانهيار في الضفة الغربية؛ ما يزيل السبب الرئيس، ويُوجب طرح مقاربة جديدة تعمل على تغيير السلطة وتوحيدها وإعادة بنائها في الضفة وغزة بأفق تجسد فيه نواة الدولة والاستقلال، ولا تعيد إنتاج المقاربة القديمة التي تتحدث عن الالتزام بالتزامات المنظمة، والمقصود بها المترتبة على التزامات أوسلو؛ لأن “أوسلو” قتلته الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وبانتظار من يدفنه، ويفخر نتنياهو بأنه مَنْ حقق ذلك.
لذا، يجب التخلي عن الالتزامات السياسية والاقتصادية والأمنية المترتبة على أوسلو، والاكتفاء بتبني الحقوق الوطنية والتسلح بالقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، بما فيها الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الأول الصادر في العام 2004 والثاني الصادر في العام 2024، والمطالبة بالالتزام بها بوصفها مرجعية ملزمة قبل انطلاق أي عملية سياسية، حيث تهدف إلى تطبيقها وليس التفاوض عليها، على أساس أن المطلوب إنهاء الاحتلال وتجسيد الاستقلال الوطني من خلال النضال وتغيير موازين القوى والضغوط الداخلية والخارجية على دولة الاحتلال.
ولمن يقول إن هذا مستحيل ويطالب بالدولة الواحدة فنقول له إنها إذا كانت دولة ديمقراطية وبعد هزيمة المشروع الاستعماري الصهيوني فهذا مطلوب، ولكن تحقيقها من رابع المستحيلات، لا سيما في ظل المعطيات والموازنات الإقليمية والدولية الراهنة، أو من يطالب بالدولة الواحدة اليهودية، فهذا يرجع إلى اليأس من إمكانية إنجاز أي شيء، وبذلك يعني الخضوع للدولة الواحدة التي تجسد المشروع الاستعماري الاستيطاني العنصري، والرد على أصحاب هذا الموقف “لا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة”.
قد يكون من الصعب تحقيق الحرية والاستقلال حتى في ظل الوحدة، ولكن من دون وحدة من المستحيل تحقيقهما.