مصائر ومفارقات “في طريق مازغان”
مبارك بيداقي
رغم الموافقة المكتوبة لدار نشر لارمتان على نشر المجموعة القصصية الأخيرة “في طريق مازغان” للكاتب المغربي المصطفى اجماهري، إلا أن هذا الأخير فضل نشرها ضمن سلسلة “دفاتر الجديدة” في المغرب. والسبب في ذلك يرجع، كما قال الكاتب، إلى تجارب سابقة له مع النشر في دور عربية وأجنبية، وإلى كون مؤلفات المغاربة في فرنسا، مع استثناءات جد محدودة، غالبا ما لا تجد طريقها إلى المكتبات المغربية وقلما يتوفر توزيعها في المكتبات المحلية، وذلك بسبب الطريقة التجارية في التعامل مع المكتبات المعتمدة من قبل دور النشر الفرنسية.
تنسحب هذه الملاحظة أيضا على كُتاب معروفين في العالم الفرنكفوني، فعبد الكبير الخطيبي، مثلا، اشتكى ذات مرة من كون كتبه الصادرة بفرنسا غالبا ما لم تكن تتوفر في المغرب، بسبب سياسة التوزيع التي ينهجها الناشر الفرنسي.
المجموعة الجديدة باللغة الفرنسية هي سادس مجموعة قصصية يصدرها الكاتب. وتتضمن ثلاثة عشر قصة قصيرة تمتح من الواقع المغربي لسنوات الستينيات والسبعينيات حيث الإنسان المغربي في بساطته وتلقائيته يتبادل التفاعل مع وضعه الاجتماعي صعودا وهبوطا. بينما تقوم صياغة القصص على عنصرين أساسيين : التشويق والسخرية. يتجلى التشويق ليس فقط في المتون بل بدءا من عناوين القصص التي تنفتح على سؤال من قبيل : من هو المجهول الذي أحبْ ماري ميراك ؟ لماذا بقي العربي الملقب بالشينوي شيوعيا ؟ لماذا مات كلب علال قبلما يحقن بإبرة الموت ؟ هل فعلا كان الوعدودي ضحية طبق طائر ؟ لماذا أخطأ مبارك في زروال ؟ من هي نازك، شاعرة بلد الفراعنة ؟ لماذا لم تكن ميشال لوروى هي ميشال لوروى ؟. هذه القصص وغيرها تخلق لدى القارئ فضولا لمعرفة ما وراءها وتدفعه للبحث عن تفاصيل الوقائع المسرودة.
أما جانب السخرية في المجموعة فيتجلى في كثير من القصص التي تحيلنا على مواقف اجتماعية وأخرى ذات طابع إنساني صرف قائمة على المفارقة والتضاد وسوء الفهم. وبهذا الصدد، يمكن الوقوف على مثال صارخ في قصة “لماذا مات كلب علال قبلما يحقن بإبرة الموت؟”. حيث نعلم من خلال عملية السرد أن الضاحية القروية بطريق مازغان، عرفت حالة سعار أصاب بقرة إحدى السكان، وبعد إخبار السلطات المختصة تقرر إعدام البقرة وكذا كلاب الضاحية خوفا من انتقال العدوى إليها. وفعلا تم تحديد موعد في الغد، وتقدم السكان تباعا بكلابهم إلى البيطري الذي كان يقوم بحقنها بالسائل القاتل فتموت على التو تحت تأثير السم. لكن المراهقين وغيرهم وهم يتفرجون على إعدام الحيوانات المسكينة استغربوا من موت كلب جارهم المسمى علال حتى قبل أن يحقن بالإبرة. ذلك أن المعروف لدى ساكنة الضاحية أن علال كان من الفقر إلى حد أنه لم يكن يجد غداء كافيا له فبالأحرى فائضا يطعم به كلبه. حتى أن الحيوان هزل هزالا شديدا فلم يبق سوى كومة عظام تتحرك لماما. ورغم أن علال فسْر الوضع الصحي لكلبه للبيطري عسى ألا يقتله لأنه لا يتحرك من مكانه وبالتالي لا يمكن أن يصاب بالعدوى هنا أو هناك، إلا أن البيطري التزم بتعليمات المسؤولين، وأفهم علال أنه لا يمكن أن يستثني كلبا في المنطقة. فالإعدام أمر مفروض من الإدارة ولا مناص منه. عندها اضطر علال مكرها، ورغم أنفه، إلى جر كلبه المسكين جرا أمام البيطري. لكن العجيب الذي أضحك الحاضرين، أن الكلب مات توا قبل إدخال الشوكة في جسده. ورغم ذلك أصر البيطري على حقنه حتى وهو ميت، إذ تخوّف من أن الكلب ربما يكون من الكلاب المدربة التي تتظاهر بفقد الوعي. فكان عليه، وهو الموظف المحدود، أن يعمل على سد الذرائع كما يقول الفقهاء. فغرز الإبرة في الكلب الهامد، وهو ما جعل المراهقين يستلقون على قفاهم من الضحك.
يظهر من هذا المثال أن القاص استطاع، برهافة قلمه، خلق قصة من لاشيء تقريبا، ومن جهة أخرى أظهر معرفته بواقع مهمش كان قد تعرف عليه في فترة سابقة من مساره. يتجلى ذلك أيضا من أسماء الأمكنة الواردة في النصوص: طريق مازغان، الجديدة، العقبة الحمراء، المقبرة المسيحية، درب الحجار، درب غلف وغيرها من الأمكنة التي عايش القاص شخوصها وتعرف على حكاياتها.
تشتمل المجموعة كذلك على قصص ذات منحى إنساني يتجاوز فيه الشخوص التمايزات الدينية والعرقية. ولربما أفضل مثال على ذلك قصة “من هو المجهول الذي أحب ماري ميراك”. تحكي هذه القصة كيف أن حارس المقبرة المسيحية بالمدينة، وهو ذات يوم في قيلولته تحت شجرة، زارته شخصية معتبرة أوصلتها إلى المكان سيارة فارهة بسائق خاص. هذه الشخصية، بعد غيبة طويلة عن المدينة في ديار المهجر، جاءت، بدافع عاطفة دفينة، لزيارة قبر المسماة ماري ميراك. ويظهر من القصة بأن الدفينة كانت تحتل مكانة خاصة في قلب الزائر إبان فترة شبابه. الشخصية قبلما تغادر المكان أوصت الحارس على ألا يدخر جهدا في الاعتناء بالقبر. إذ ربما تكون تلك زيارتها الأخيرة لقبرها. وتختتم القصة باستيقاظ الحارس في منتصف الليل على نباح كلبه وهو يتحسس شيئا لم يستطع رؤيته في الظلام الدامس. شيء، بدا له أنه يسير بين القبور، كهفيف النسيم بين الأشجار. وسرعان ما سكت الكلب عن النباح وهو يتوجه نحو قبر ماري. ويظل القارئ هنا مشدوها قليلا بسبب هذا التشويق لأن الحارس لم يتبين حقيقة الأمر، وهل كان إنسانا حقيقيا أم إحساسا خاطئا. ثم لماذا بدأ الكلب بالنباح وفجأة سكت. فالمعروف أن الكلاب لا تنبح في وجه من تعرف.
“في طريق مازغان” مجموعة قصصية أدبية، صيغت بحس إنساني رقيق، لكاتب قضى عمره في الكتابة، وهي أيضا، في جانب منها، عمل توثيقي يتأطر ضمن مشروع الكاتب المتعلق بمدينة مازغان ومنطقة دكالة ككل.