مذكرات إبراهيم أوشلح.. درس في الديمقراطية وفي الأخلاق السياسية

مذكرات إبراهيم أوشلح.. درس في الديمقراطية وفي الأخلاق السياسية

 كاركاسون – المعطي قبال

       المذكرات هي ما يمنح للذاكرة سندا معرفيا كفيلا بإضافة معلومات أو عناصر فلتت من مجاله أو لم ينتبه أو يقف عندها المؤرخ. إنها بكلمة تكملة لعمل المؤرخ وغالبا ما تأتي بشكل لاحق بعد أن يكون المؤرخ قد استوفى الدراسة والبحث في موضوع ما. وعليه جرت العادة أن يؤلف الفاعلون في حدث أو نشاط ما مذكراتهم للشهادة أو الاعتراف. وتعتبر المذكرات عرفا تقليديا دأب على تناوله كبار الساسة والكتاب والمثقفين. لكن يلاحظ أنه في المغرب لم تترسخ بعد في مجال السياسة والثقافة ممارسة المذكرات وهذا راجع إلى أن البوح وكتابة تاريخ آخر غير التاريخ الرسمي ليسا من تقاليد البلد.كما أن كتابة المذكرات يحتاج إلى فن بيداغوجية قلما توفرت لدى هؤلاء الساسة.

 لكن بين الفينة والأخرى، تطل علينا مذكرات وإن كانت متشظية وتقريبية، فإن لها  ثقل تاريخي يخبرنا عن تاريخ المغرب والفاعلين فيه. الكتاب- المذكرات، الصادر مؤخرا عن منشورات «الأعمدة الثلاث» في باريس، للمناضل السياسي ابراهيم أوشلح،  هو بحق حدث واستثناء في ثقافة المذكرات. أولا بالنظر إلى المؤلف، ثم بالنظر إلى الحقبة التي عاشها، بداية السبعينيات التي عرفت احتقانا سياسيا ومحاولات لتغيير النظام السياسي الذي كان الاتحاد الوطني للقوات الشعبية أحد نشطائه ومحركيه الرئيسيين، وكان إبراهيم أوشلح أحد الفاعلين النشطين ضمنه. هذا الأخير من مواليد 1945 بمدينة سلا. تلقى تكوينه العلمي بجامعة الرباط ثم في قسم الجيولوجيا بغرونوبل ونانسي. كما عمل بقسم الجيولوجيا بالمغرب وليبيا قبل أن يصبح الرئيس المدير العام لإحدى المؤسسات بباريس. تحمل مسؤوليات في صفوف الحزب وعاش في المنفى إلى أن شمله العفو الملكي  ليعود إلى المغرب عام 1994. وفي المقدمة التي صدر بها المؤرخ مصطفى بوعزيز، الأستاذ بجامعة الحسن الثاني الدارالبيضاء، ثمة تشديد على أهمية الذاكرة كفعل شفوي مع كل ما تقتضيه من حفاظ وتبليغ لرسائلها.

الذاكرة مادة قابلة للتلف يقول بوعزيز. يتلفها الطغاة. في هذه الأنظمة ينعدم «الحق في الأرشفة» وإن تمت فإنها تتم مرفوقة بصك «سر الدولة»،  أو عبارة غير قابل للتفقد». في ظل الأنظمة الاستبدادية فإن «عبقرية الإتلاف» ابتكرت تعاليم « صالح للحريق» وكذا الأدوات التي تصاحبه مثل الطوابع وآلات الطحن، فإن النظام المغربي خلال سنوات الرصاص لجأ بشكل واسع لهذه الطرق. لذا تعتبر مذكرات أوشلح  هبة استثنائية بالنسبة لمن يهمهم الماضي القريب للمغرب وبالأخص منهم المؤرخون يشير بوعزيز. فنشر المذكرات ينقذ «مادة قابلة للتلاف»، من الخراب والإتلاف والنسيان. ويذكر بوعزيز أنه بصفته مؤرخا . ذكرته بعض من اعترافات واكتشافات أوشلح بـ «حقائق» أخرى وبالأخص معلومات من الدرجة الأولى كان يجهلها»  .

 ينتمي أوشلح إلى جيل شبيبة الاستقلال الناشيء. ولد، ونشأ وتحرر داخل الحركة المغربية. وقد تم تغيير الاسم من الحركة الوطنية المغربية إلى الحركة الوطنية الديمقراطية. وقامت الحركة التي انخرط فيها وشلح على باراديغمات جديدة لا من حيث المفاهيم ولا من حيث التسميات ليصبح جيل الكاتب مدافعا عن الثورة الشعبية. كان هذا الجيل كما يذكر بذلك بوعزيز جيلا تعدديا. هنا يعرض أوشلح ذاكرته لتشريح «تجربته الثورية»، وهو بذلك واثق بأن هذا العمل واجب للتذكر والذاكرة تجاه رفاقه الذين  دفعوا بحياتهم في خضم الويلات التي أصابت عائلاتهم، ثمن التزامهم وانخراطهم الجماعي. وقد نهل الكاتب من تخصصه الجيولوجي القائم على «نظرية البقايا».

لذا فإن حكايته ليست استرسالية، كما أن ذاكرته تتشكل بحسب طبقات متفاعلة الشيئ الذي يفسر بعضا من التكرار لبعض الأحداث وبعض الشخصيات الفاصلة التي تتعدى جميع التراتبات مثل المحيط العائلي، الطلابي. ثم كان الاختيار السياسي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية كاختيار مناهض للحسن الثاني. ويعتبر عقد العشرين عاما (1959-1977) من الانتماء، الأحلام، الآمال، الصدامات والويلات والخيبات من دون فقدان الوهم في إنجاز إنسانية أفضل. ليس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية كما يذكر بوعزيز  حزبا له القدرة على معارضة النظام الملكي، بل كان مكانا للتآمر تتركز وتتلخص فيه جميع تناقضات الحركة المغربية للتحرر الوطني. وقد كان للفقيه البصري دور محوري في الحزب وفي مشوار إبراهيم أوشلح. كان بمثابة عراب.  وفر لهذا الأخير اول قطيعة له لما ساعده في تعيينه  في منصب هام بالمكتب الشريف للفوسفاط ثم كإطار سامي في مجمع الهيدروكربونات بليبيا. كما كان من وراء إدماجه في شبكة معارفه من العرب والغربيين. وكان البصري ينظر لهذه الشبكة كركيزة «للثورة الشعبية» التي دعا لها والتي كلف بإنجازها كلا من إبراهيم أوشلح، محمود بنونة، حسين المانوزي، التوزاني، أوميدا، آيت قدور…لم يكن أوشلح على اتفاق تام مع الفقيه البصري الذي كان مناصرا راديكاليا للثورة الشعبية ، فيما كان أوشلح ينظر لجهة الدفاع عن حقوق الإنسان كطور أخير للثورة. حكاية أوشلح التي تدخل في خانة التاريخ الشخصي، على صلة وارتباط بتاريخ المغرب المستقل. لذا يمكنه أن يقوم مقام مؤرخ جديد.

ليست كل مذكرات الساسة المغاربة، على قلتها، مبعث للغواية والحقيقة والشعبية المطلوبة. فغالبا ما تكون عبارة عن حكي إنشائي مدرسي وبلاغي عديم النكهة. مع إبراهيم أوشلح الذي خاض غمار دينامية سياسية كانت تهدف إلى القيام بثورة شعبية حقوقية يجد القاريء نفسه في مجال سياسي وفكري مغاير. فالرجل احتك بمناضلين وطنيين وعالميين من طينة مميزة، كما اتكأ على ثقافته السياسية لتحليل وتقييم الحراك السياسي في المجتمعات العربية ومجتمعات العالم الثالث. بهذه الشهادة فإن رغبته هي تسطير حقائق للأجيال التي تجهلها. إنه واجب وفرض الذاكرة. يذكر الكاتب بأن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ناضل من أجل إقامة نظام سياسي بديل للملكية المطلقة. وجد الحزب نفسه في وضع صدام مع النظام أيام سنوات الرصاص ومن تم لجأ إلى المواجهة المسلحة. يعترف أوشلح قائلا: «كنت إطارا حركيا ضمن هذه المحاولة الثورية. وكنت تابعا للفقيه البصري، عبد الرحمان اليوسفي اللذان كانا يشكلان رفقة عبد الرحيم بوعبيد ترويكا إدارة الحزب. عدت إلى بلدي عام 1994 بعد 24 من المنفى. التزم الحسن الثاني بشكل علني بوضع حد للمتابعات ضد المنفيين السياسيين، بعد أن فتح أبواب السجون والمعتقلات، بما فيها معتقل تازمامارت. كان القرار الملكي بالنسبة لي خلاصا بحيث أن المنفى أصبح لا يطاق. ألقى هذا العفو الجماعي بمسلسل طويل من التهدئة ومن التوافق والالتزام المشترك مع معارضة «الكتلة» وبالأخص الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ومجموع اليسار. عودة مناضل الظل الذي جسدته كان مسطرا ضمن إطار التفاوض الذي تم بين عبد الرحمان اليوسفي والعاهل المغربي. كانت تلك دلالة الاستقبال الذي خصتني به عائلتي ورفاقي بمطار سلا. خلال قسم كبير من إقامتي خارج بلدي، ساهمت في أنشطة كانت في إدام بعض من رفاقي. فيما اختفى البعض منهم، مثل الحسين المانوزي، لقي حتفهم البعض الآخر في مواجهات مثل محمود بنونة في 5 مارس 1973 بأملغو بالأطلس الكبير. من جهتنا ومنذ 1975 نحن الناجون، اخترنا التخلي عن العنف والقطيعة مع العمل المسلح. أعتبر أنه من الضروري، لا من باب التبجح، بل من باب التذكير ببعض الأحداث وذلك بفهم هده الحقبة التاريخية المسماة بـ «سنوات الرصاص» والابتكارات التي أنجزت في نهاية حكم الحسن الثاني. قتل مآت الأشخاص فيما عاش البعض الآخر ويلات التعذيب والسجون. أحيي بالخصوص ذاكرة كل الذين فقدوا الحياة من أجل مثلهم العليا. كما أحيي الضحايا الذين سقطوا خدمة للدولة وهم يقومون بمهامهم…بعد كل هذه التضحيات فإن المغاربة يستحقون حياة سياسية، اجتماعية سلمية وعادلة في إطار دولة الحق…»  في آخر هذا التصدير، توجه إبراهيم أوشلح إلى شبيبة اليوم، التي تعيش خيبة أمل إلى حد الاشمئزاز من الحياة السياسية  الراهنة. لهذه الشبية الحق في معرفة أن الوضع الذي تعيشه هو نتيجة غير مكتملة لاختمار طويل وصعب نما خلاله جيلان الطموح إلى انعتاق وحداثة بلادنا. النتيجة إيجابية وقد ترجمتها مكاسب عديدة ، لكن البعض الآخر منها لم يتحقق بعد». في هذه المذكرات التي لا تلخصها هذه الورقة لا يتعلق الأمر بخطاب واعظ موجه للشبيبة المغربية بل بدرس سياسي في  الديمقراطية وفي الأخلاق السياسية.

Visited 251 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

المعطي قبّال

كاتب ومترجم مغربي - رئيس تحرير مساعد لموقع "السؤال الآن".