جان جنيه: أربع ساعات في شاتيلا (2-2)

جان جنيه: أربع ساعات في شاتيلا (2-2)

ترجمة: سعيد بوخليط                                                                                                            

يوميا طيلة شهر،في مدينة عجلون، راقبتُ خطى امرأة نحيفة لكنها قوية، تجلس القرفصاء تحت الأشجار والجو قارس، في وضعية رحيل مباغت تأهُّبا لحدوث خطر معين، أمام مركز حراسة عبارة عن منزل إسمنتيٍّ صغير بُنِي سريعا جدا، يشبه جلوسها طريقة هنود الأنديز، بعض الأفارقة السود، منبوذي طوكيو، وكذا الغجر داخل سوق.

تنتظر بقدمين حافيتين، مرتدية زيّا أسود، بضفائر في الجوانب وكذا الأكمام .وجهُها صارم لكن غير عابس، متعب دون ضجر.

هيَّأ قائد الكوماندوز غرفة فارغة تقريبا، لوَّحَ لها، دخلت الغرفة، أوصدت الباب بغير مفتاح. خرجت ثانية، دون أن تنبس بكلمة، أو ترسم ابتسامة، وعادت بقدميها العاريتين، بكيفية مستقيمة جدا غاية مدينة جرش، ثم معسكر البقعة.

أعرف بأنَّها خلعت فستانيها السوداويين، في الغرفة التي خُصِّصَت لها داخل مركز الحراسة، ثم وضعت وسط رزمة مختلف حمولتها المخبَّأة من الأغلفة والرسائل، جذبت باب الغرفة قليلا .سلَّمت الرسائل إلى المسؤول، غادرت دون النطق بأيِّ كلمة، وعادت ثانية خلال اليوم الموالي.

نساء أخريات، أكبر سنّا منها، تضحكن لانعدام أيِّ مأوى لهنَّ غير ثلاثة أحجار داكنة ينعتنها مبتسمات: ”بيتنا” في جبل الحسين (عمان). كم بدت طفولة لهجتهنَّ، حينما يكشفن لي الأحجار الثلاثة، وأحيانا الشعلة المضيئة ويصرخن ضاحكات: ”دارنا”. هؤلاء النسوة المسنَّات غير المنتميات للثورة ولا المقاومة الفلسطينية امتلكن بهجة غير متوقَّعة.

تواصل الشمس انثناءها فوق رؤوسهنَّ .يقترح امتداد ذراع أو إصبع شكلا من أشكال الظِلِّ نحيفا دائما .لكن كم حارقة هاته الشمس؟ أردنية نتيجة تأثير رواية إدارية وسياسية حدَّدتها فرنسا، انجلترا، تركيا، أمريكا…”بهجة غير متوقَّعة”، الأكثر سعادة لليأس الكبير الذي اكتنفها.

يستحضرن باستمرار فلسطين لم تكن موجودة حينما كنّا في سنِّ السادسة عشر، ثم امتلكن أخيرا تربة .لقد أضحين الآن، على وجه التحديد، ضمن فضاء مربِكٍ، ليس تحته أو فوقه، بحيث قد يشكِّل أبسط تصرُّف حركة خاطئة. بَدَت الأرض مزرعة، تحت أقدام حافية لهؤلاء الممثِّلات التراجيديات اللواتي بلغن عقدهن الثامن، والأنيقات إلى أبعد حدٍّ؟

لم يكن الوضع قبل هروبهنَّ من مدينة الخليل تحت التَّهديدات الإسرائيلية، فالأرض هنا جافة، يضفي كل واحد حِسِّيا خِفَّة وحركة عبر اللغة العربية. تمرُّ الأوقات، ويبدو بأنَّ هذه الأرض تختبر التالي: خلال فترة تضاءلت فيه أكثر إمكانية استساغة الفلسطينيين، فقد اكتشف هؤلاء الفلسطينيون، الحركية، التِّجوال، المسير، الرَّكض، ثم لعبة الأفكار التي يعاد توزيعها يوميا مثل أوراق لعب، وكذا الأسلحة الجاهزة، المفكَّكَة أو التي يعاد استعمالها.

تتناول كل واحدة من النسوة الكلمة تناوبا، يبتسمن. تقول عبارة إحداهن:

-أبطال! مجرَّد دعابة. لقد صفعتُ خمسة أو ستَّة منهم في الجبل ومسحتُ بهم الأرض. أعرف مايستحقون، وبوسعي القيام بالمزيد. 

وسط زرقة السماء الزرقاء تواصل الشمس انعطافها، لكنها ساخنة دائما. يتذكَّر هؤلاء الممثِّلات التراجيديات وفي نفس الوقت يتخيَّلن. قبل أن يصبحن أكثر إيضاحا، يشرن بإصبع السبَّابة حين نهاية حقبة ثم يبرزن الحروف الساكنة بنبرة صوتية .إذا مرَّ جندي أردنيّ من هنا، فسيكون مرتاحا  سيجد بين طيات إيقاع الجُمَل، إيقاع الرَّقصات البدويَّة. بينما إذا رأى جنديّ إسرائيلي هؤلاء الآلهة، دون اكتراث بالجمل، فسيطلق صوب الجمجمة مدفع رشَّاش.

هنا، وسط أنقاض شاتيلا، انعدم كل شيء. انزوت بسرعة بعض النساء المسنَّات، صامتات، خلف باب موصَدٍ بخِرقة بيضاء. جماعة فدائيين في غاية الفتوَّة، التقيت بعضهم في دمشق.

يتحقَّق الاختيار الذي يحدث نحو جماعة مميَّزة، خارج الانتماء الأصلي للولادة، بفضل انتماء بلا تبرير، ليس لأنَّ العدالة بجانب تلك الجماعة، بل تتجلَّى هذه العدالة وكذا مختلف أشكال الدفاع عن الجماعة بموجب إغراءٍ وجدانيٍّ، مرهف العواطف، بل حسِّيٍّ؛ فأنا فرنسي، أقف إلى جانب الفلسطينيين، تماما ودون تعليل .يمتلكون الحقَّ بجانبهم مادمت أحبُّهم. لكن هل كنت لأحبُّهم لو لم يحوِّلهم الظلم إلى شعب مشرَّد؟

تضرَّرت تقريبا جلّ مباني بيروت، داخل فضاء مايسمى بيروت الغربية. لقد انهارت بكيفيات مختلفة: مثل كَعْكَة مُوَرِّقَة سحقتها أصابع كينغ كونغ عملاق، متهوِّر وشرِهٍ، أحيانا أخرى تنحني الطوابق الثلاثة أو الأربعة الأخيرة بنعومة وفق شكل هندسي متجعِّد أنيق جدا، في صيغة سِتارة لبنانية على المبنى. إن ظلَّت واجهة معينة سليمة، حين التجوُّل حول زوايا المنزل، فقد تعرَّضت باقي الوجهات الأخرى للقصف. أيضا، بقيت الواجهات الأربع دون تصدعات، لكن القنبلة التي ألقت بها الطائرة سقطت في الوسط وأحدثت بئرا وسط قفص الدُّرج والمصعد.

في بيروت الغربية، بعد وصول الإسرائيليين، قال لي السيد (S): ”بدأ الليل يرخي سدوله، تشير الساعة إلى السابعة مساء .فجأة دوَّى صوت هائل مصدره ركام خردة. الجميع، أختي، صهري وأنا، أسرعنا نحو شرفة النافذة .ليلة كالحة جدا .وبين فترة وأخرى، ما يشبه الوميض على بعد مائة ميتر تقريبا .لاحظنا أمامنا مايشبه موقعا إسرائيليا للمراقبة: أربع دبابات، منزل احتلَّه جنود وضباط، وكذا مراقبون. خلال الليل، يقترب صوت الخردة،ثم الوميض: بعض المصابيح المضيئة وكذا ما يقارب أربعين أو خمسين طفلا تناهز أعمارهم ثلاثة عشر سنة يقرعون بإيقاع صفائح حديدية صغيرة، سواء بالحجارة، أو مطارق أو شيء آخر. يصيحون بأعلى أصواتهم: لاإله إلا الله، لا الكتائب ولا اليهود”.

بينما، أكَّد لي السيد (H): ”حين الذهاب إلى بيروت ودمشق سنة 1928، سنلاحظ تدميرا لمدينة دمشق. ذلك أن الجنرال غورو وقواته، مقاتلين مغاربة وتونسيين، أطلقوا الرصاص على دمشق ومحو المدينة. فمن الطرف الذي تتَّهمه ساكنة سوريا؟

أنا: يتَّهم السوريون فرنسا بمذابح دمشق وكذا خرابها.

هو :نتَّهم إسرائيل بمذابح شاتيلا وصبرا. ليس فقط إلقاء هذه الجرائم على كاهل وكلائهم من الكتائب. إسرائيل متَّهمة بكونها استقدمت إلى المخيَّمات فرقتين من الكتائب، وجَّهوا لهم أوامر، شجَّعوهم طيلة ثلاثة أيام وليالي، قدَّموا لهم الطعام والشَّراب، أضاؤوا لهم المخيَّمات ليلا”.  

ويضيف السيد (H)، أستاذ التاريخ: ”سنة 1917، أعيد إصدار إشارة إبراهيم، أو إذا أردت، فقد تنبَّأ الإله سلفا باللورد بلفور. يقول اليهود ويؤكِّدون ذلك مرة أخرى، بأنَّ الله وعد إبراهيم وسلالته بأرض العسل والحليب، والحال فهذه الأرض، التي لاتنتمي إلى إله اليهود (زخرت هذه الأراضي بالآلهة)، سكنها الكنعانيون، الذين كانت لهم آلهتهم، وقاتلوا ضد جيش يشوع بن النون الذي بدونه لم يكن بوسع اليهود تحقيق الانتصار. سنة 1917، لم تستأثر بعد انجلترا بفلسطين (أرض العسل والحليب) مادامت المعاهدة التي منحتها تلك الولاية لم توقع بعد. 

– لقد زعم مناحيم بيغن بأنَّه جاء إلى البلد.

– يحضرني هنا عنوان فيلم :”غياب طويل جدا” .بالتالي، هل يمثِّل هذا الشخص القادم من بولونيا، وريثا للملك سليمان؟”.  

داخل المخيَّمات، بعد عشرين سنة من المنفى، يحلم اللاجئون بفلسطينهم، لم يجرؤ شخص على معرفة ولا كذا الإقرار بأنَّ إسرائيل دمَّرت أساسا خلفية فلسطين، بحيث أقامت بنكا عوض حقل الشعير، ومركزا كهربائيا بدل دالية زاحفة.

– سنغيِّر سياج الميدان؟

– يلزم إعادة بناء جزء من الحائط بجوار شجرة التِّين.

– يلزم الاحتفاظ بمختلف الأواني صدئة: نحتاج إلى شراء قطع من أوراق الصنفرة.   

– لماذا لايتمُّ كذلك إضاءة الحظيرة بالكهرباء؟

– آه، لقد انتهى عهد تطريز الملابس يدويا :أحتاج إلى آلة خياطة وأخرى للتَّطريز.

تثير حالة كهول ساكنة المخيم مشاعر الشفقة، هكذا الوضع بلا شك داخل فلسطين لكن الحنين إليها يسيري بطريقة سحرية. حنين يجازف بالبقاء سجين جاذبية تعاسة المخيَّمات. لا يمكن الرهان يقينا نحو تخلِّيهم عن هذا الجانب الفلسطيني بتحسُّر. بناء على هذه الدلالة، تعبِّر أقصى مستويات الحرمان عن نزعة محافِظة .الشخص الذي اختبر هذا الشعور، يعيش في نفس الوقت أقصى مستويات سعادة المرارة، سعادة فريدة لايمكن تبليغها.

تنتصب مخيَّمات الأردن، عند منحدرات صخرية جرداء، لكن تحيطها مظاهر لهذا التجرُّد أكثر تحسُّرا: أكواخ،خيمات ممزَّقة، تقطنها عائلات يميِّزها كبرياء جليٌّ.

أن لاتفهم شيئا في القلب البشري حين إنكار إمكانية ارتباط الأفراد وتباهيها بمآسي مرئية ثم تبلور كبرياء معيَّن مادام البؤس المرئيُّ يوازيه مجد خفيٌّ.

بدت عزلة الأموات داخل مخيم شاتيلا، ملموسة أكثر، فقد أظهروا حركات وأوضاع غير مهتمِّين بها. أموات كيفما اتُّفق، تُركوا فريسة إلى الخذلان.

مع ذلك، تحيط بنا داخل المخيَّم، جلّ معطيات الودِّ، الرَّأفة، الحبّ، تطفو باحثة عن فلسطينيين توقَّفوا تماما عن تقديم أجوبة. كيف نقول لآبائهم، الذين رافقوا ياسر عرفات، وقد ائتمنوا إلى وعود رولاند ريغان، فرانسوا ميتران، أليساندرو بيرتني، الذين أكَّدوا لهم عدم إلحاق أيّ ضرر بساكنة المخيَّمات المدنيين؟ كيف نبرِّر ذبح الأطفال، الشيوخ، النساء، والتخلِّي عن الجثث دون صلوات؟ كيف نخبرهم بأنَّنا تجاهلنا أماكن دفنهم؟

لم تجر وقائع المذابح في خضمِّ الصمت والعتمة، بل أضاءتها البنادق الإسرائيلية المشتعلة، كانت آذان الإسرائيليين منذ يوم الخميس مساء تصغي لشاتيلا. كم هي الاحتفالات، والقنابل التي حدثت هنا وقد بدت الموت بأنَّها تقاسمت أفراح الجنود الثَّملين خمرا، سكارى كراهية، بالتأكيد سكارى جراء سعادة إرضاء الجيش الإسرائيلي الذي يستمع، يراقب، يشجِّع، يوبِّخ .لم أر هذا الجيش الإسرائيلي عند حدود الإصغاء بل رأيت ماقام به فعليا.

دليل ذلك: ”ما الذي تستفيد إسرائيل من اغتيال بشير جميل: اكتساح بيروت، استتباب النِّظام وتجنُّب حَمَّام دم”. ما الذي تربحه إسرائيل من مذبحة شاتيلا؟ الجواب  ”ما الذي تجنيه من الدخول إلى لبنان؟ ما الذي تكسبه من قصف المدنيين طيلة شهرين: طرد وتدمير الفلسطينيين. ما الذي تناله من شاتيلا: سحق الفلسطينيين”.

قتل البشر، قتل الأموات، اجتثاث شاتيلا. ليس ذلك بغائب عن المضاربة العقارية حول أرض مُهَيَّأة  تدمير خمسة ملايين متر مربع أثرية. فهل ستكون ”ذاتية”؟

أكتب من بيروت، يتجلَّى كل شيء هنا بكيفية أصدق مقارنة مع فرنسا، ربما نتيجة مصاحبة الموت، الماثلة حينها عند مستوى سطح الأرض: تمضي مختلف الأمور، كما لو هي متعبة جدا، مرهقة ضمن إطار تقديم نموذج، لا يمكن المساس به، ثم استثمار المآل الذي  تعتقد بأنها انتهىت إليه: الاستقصاء المقدَّس والانتقام، بحيث قرَّرت إسرائيل تقييم ما جرى بدم بارد.

بفضل تحوُّل دقيق لكنه مفترض، تبلور منذ فترة بعيدة جدا على المنوال التالي: سلطة زمنية فظيعة، استعمارية بجرأة غير مسبوقة، أضحت سلطة مطلقة تدين إليها بلعنتها الممتدَّة وكذا انتخابها.

تظل أسئلة كثيرة عالقة  إذا اكتفى الإسرائيليون بإضاءة المخيَّم، الإصغاء إلى ما يجري، سماع الطَّلقات النارية التي سدَّدها رصاص كثير مندفع فعليا (عشرات الآلاف) شاهدت ذخائره؟ فمن القاتل فعليا، الذي يخاطر بحياته؟ حزب الكتائب؟ وكذا سعد حداد؟ نعم؟ وكم؟ أين ذهبت الأسلحة التي جرفت كل هؤلاء الأموات؟ ثم أين هي أسلحة المُدافِعين؟ لاحظتُ، داخل مضمار المخيَّم الذي زرته، وجود فقط سلاحيْن مضاديْن للدبابات لم يستعملا.

كيف استطاع المجرمون دخول المخيَّمات؟ هل تواجد الإسرائيليون عند مختلف منافذ شاتيلا؟ عموما، كانوا أصلا يوم الخميس داخل مستشفى عكَّا، أمام مدخل للمخيَّم.

كتبت الجرائد، بأنَّ الإسرائيليين دخلوا إلى شاتيلا بمجرَّد علمهم بالمذابح، ثم بادروا فورا إلى وقفها يوم السبت. لكن ماذا فعلوا بالجزَّارين، وأين اختفى هؤلاء؟

بعد اغتيال بشير الجميل وعشرين من رفاقه، بعد المذابح، وحينما علمت السيدة (B) من عِلِّيَة بورجوازية بيروت، بعودتي من شاتيلا، جاءت للالتقاء بي. صعدت أدراج ثمان طوابق العمارة في حلكة الظلام نتيجة انقطاع التيَّار الكهربائيِّ، افترضتُها كبيرة السِّنِّ، وقد كان حدسي صحيحا مع أنَّها أنيقة.

– كنتِ صائبة عندما أخبرتِنِي، قبل وفاة بشير الجميل، والمذابح، بأنَّ الأسوأ قادم. وقد عاينتُ ذلك. 

– أرجوكَ لا تحدثني عن مشاهداتكَ داخل شاتيلا، فأعصابي هَشَّة جدا، ويلزمني الاعتناء بها قصد تحمُّل فظاعة ما سيحدث مستقبلا.

تعيش وحيدة صحبة زوجها (سبعون سنة)، وخادمة داخل بيت كبير يقع في رأس بيروت. سيِّدة أنيقة جدا، حسنة المظهر، كذلك الأمر بالنسبة لأثاثها، اعتقدته من فترة لويس السادس عشر.

– نعلم حقيقة سفر بشير الجميل إلى إسرائيل، لقد أخطأ بهذا الخصوص. حينما تكون رئيسا منتخَبَا، فلستَ مضطرّا للاجتماع مع هؤلاء البشر. كنتُ متيَقِّنة بإمكانية تعرُّضه لسوء. لكنِّي غير راغبة في معرفة حيثيات أيِّ شيء. يلزمني الاعتناء بأعصابي قصد تحمُّل الضَّربات الرَّهيبة التي لم تتحقَّق بعد. ينبغي على جميل بشير تمثُّل طبيعة هذه الرسالة في إطار نعته  من طرف  بيغان بصديقه العزيز.

تمتلك هذه البورجوازية الرَّاقية، وخدُّامها الصامتون، طريقة صمودها. لا تؤمن السيدة (B) كليا و زوجها بـ”التَّناسخ”. فما الذي سيحدث لو ولدوا ثانية في قالب إسرائيلي؟

شكَّل يوم دفن بشير الجميل، يوم دخول الجيش الإسرائيلي إلى غرب بيروت. تقترب أخيرا الانفجارات وجهة العمارة التي نتواجد داخلها، مما أجبرنا على الإسراع نحو الاختباء داخل ملجأ. سفراء، أطباء، زوجاتهم، فتيات، ثم ممثِّل عن الأمم المتحدة في لبنان، وكذا خدمهم.

– كارلوس، أحْضر لي وسادة.

– كارلوس، أريد نظارتي.

– كارلوس، قليلا من الماء.

الخدم بدورهم يتكلَّمون الفرنسية، اصطحبونا إلى الملجأ .يلزم ربما أيضا حمايتهم، الاعتناء بإصاباتهم، ثم الانتقال بهم إلى المستشفى وكذا المقبرة. قضية صعبة!

ينبغي  إدراك أنَّ المخيمات الفلسطينية في شاتيلا وصبرا، تمتدُّ على بعد كيلومترات وكيلومترات بين ثنايا أزقَّة ضيقة جدا- الممرَّات صغيرة جدا، أشبه بهيكل بحيث لا يمكن لشخصين التقدُّم أحيانا إلا إذا مشى جانبيا- تغصُّ بالأنقاض، الكتل الخرسانية، القرميد، أسمال متعدِّدة الألوان ومتَّسخة، وخلال الليل تحت إرشاد ضوء البنادق الإسرائيلية التي تضيء المخيَّمات، لم يكن بوسع خمسة عشر أو عشرين قنَّاصا، ولو كانوا مسلَّحين جدا، النجاح في إنجاز مخطَّط هذه المجزرة.

نفَّذَ العملية العديد من القتلة، غالبا فرق من الجلادين الذين هَشَّموا الجماجم، قطَّعوا الأفخاذ والأذرع والأيادي والأصابع، يسحبون رجالا ونساء بحبل المشنقة، يحتضرون مقيَّدين، لازالوا أحياء مادام الدَّم تدفَّق طويلا من الأجساد، في هذا الإطار عجزت عن معرفة هويّة صاحب مجرى دمويٍّ جاف، وسط ممرِّ المنزل، حيث انسياب بِرْكة دم غاية العتبة حتى تلاشيها بين طيَّات التراب. رجل فلسطيني؟ امرأة فلسطينية؟ هل يعتبر أحد المنتمين لحزب الكتائب قد انتُشِل جسده؟

يمكننا في الواقع داخل الفضاء الباريسي، خاصة إذا تجاهلنا تضاريس المخيَّمات، التشكيك في كل شيء، واستحضار نفس تلك الاحتياطات الجارية في الغرب بمجرد ملاحظة موت مشبوه، البصمات، آثار الرصاص،تشريح الجثث ثم الخبرات المضادَّة  بالتالي، الانقياد خلف الإقرار الإسرائيلي بأنَّ صحافيي القدس بمثابة الأوَّلين الذين أعلنوا عن المذبحة. كيف قيل ذلك حين توجيه الخطاب نحو وجهة البلدان العربية وباللغة العربية؟ثم كيف تجلَّى نفس الأمر باللغتين الانجليزية والفرنسية؟وتحديدا متى؟

أما في بيروت، فبالكاد أن عَلِمَ الجيش اللبناني بحدوث المذبحة، اهتمَّ رسميا دون تردُّد بالتخلُّص من المخيَّمات، هدم بيوت وكذا إتلاف أجساد؟ من أصدر أمرا بهذا التسرُّع؟ رغم ذيوع خبر الإعلان عالميا: تقاتل مسيحيون ومسلمون، فيما بينهم، ثم توثيق أجهزة الكاميرات لفظاعة المجزرة.

احتلَّ الإسرائيليون مستشفى عكّا، أمام إحدى مداخل شاتيلا، لا يبتعد بمائتي متر عن المخيَّم، بل فقط أربعين مترا، مع ذلك لم يروا شيئا أو يسمعوا أو يفهموا؟ انسجاما فعلا مع مضمون خطاب مناحيم بيغن داخل الكنيست: ”لاشأن لنا بما جرى، فقد ذُبِح غير يهود من طرف غير يهود؟”.

يتوقَّف للحظة وصفي لشاتيلا إشارة على انتهائه. ها هم الأموات الذين رأيتهم يوم الأحد الأخير، عند حدود ساعتين بعد الظهر، حينما دخل الصليب الأحمر الدولي بجرَّافات. لا تنبعث رائحة الجثث من منزل ولا مُعَذَّبٍ: يبدو بأنَّها تصدر عن جسدي وكياني.

وسط زقاق ضيِّق، وفجوة حافة جدار، ظننتُني أرى ملاكما زنجيا جالسا أرضا، ضاحكا، منذهلا بعد تلقِّيه لكمة قاضية. لم يمتلك أيُّ شخص شجاعة المبادرة نحو إغلاق جفني عينيه الجاحظتين، اللتين تكشفان عن بياض شديد، وتحدِّقان نحوي. تنمُ ملامحه عن سَحْنة كئيبة، ذراعه مرفوعة تستند على ركن للجدار. يتعلق الأمر بفلسطيني، توفي منذ يومين أو ثلاثة. شبَّهتُه بملاكمٍ زنجيٍّ، نتيجة ضخامة رأسه، منتفخ وأسود، مثل كل الرُّؤوس والأجساد، سواء تحت الشمس أو ظِلِّ المنازل. مررتُ بجوار قدميه. التقطتُ من التُّراب طقم أسنان من الفكِّ الأعلى ثم وضعتُه فوق هيكل نافذة. جوف يده مشدود نحو السماء، ثغره مفتوح، انفتاح سرواله بلا حزام: عدَّة خلايا يتغذَّى عليها الذباب.

تخطَّيتُ جثة ثانية ثم ثالثة. داخل هذا الفضاء الترابي، لاح أخيرا موضوع حيّ جدا بين مَيِّتَيْن، سليم الأشلاء، ورديّا شفَّافا، لازال بعد قابلا للحياة: السَّاق اصطناعية، فيما يبدو بمادة بلاستيكية، يرتدي حذاء أسود وجوارب رمادية. حينما نتأمل وضعه جيدا، يظهر واضحا بأنَّه قد انتزعت بقسوة ساقه المبتورة، بحيث تمزَّقت مختلف الأحزمة التي تدعمها عادة غاية الفخذ. 

تنتمي هذا السَّاق الاصطناعي إلى الميِّت الثاني .الشخص الذي تبيِّنتُ فقط ساقه وكذا قدمه المرتدية حذاء أسود وجوارب رمادية.

هناك ميِّت آخر، في الشارع العمودي للمكان الذي تركتُ فيه ثلاثة أموات. لا يغلق الممرّ تماما، لكنه مضطجع عند بداية الطريق، بحيث أمكنني تخطِّي هذا الميِّت ثم  الالتفات قصد تأمُّل المشهد التالي: تجلس امرأة على كرسيٍّ، تبلغ تقريبا ستِّين عاما، مرتدية لباسا عربيا، تحيط بها نسوة ورجال شباب يحاولون إسكات نحيبها. تبكي أخيها الذي يغلق جسده ممرِّ الشارع تقريبا، اقتربتُ منها، تأملتُها جليا، ترتدي وشاحا حول عنقها، تبكي وترثي موت أخيها، الجاثم بالقرب منها. وجهها ورديٌّ، أشبه بوجه طفل متَّسق، مريح جدا، ناعم، لكن بغير أهداب ولا حواجب، وما أعتقدتُه ورديّا لم تكن البشرة بل أدمة الوجه مطليّة ببشرة جلد رماديٍّ. الوجه بأكمله محترق. يصعب عليَّ معرفة بماذا، لكني أفهم بواسطة من.

سعيتُ جاهدا، كي أحصي جثث أولى الأموات. بلغتُ إحدى عشرة أو خمسة عشر، تكتنفها الرائحة  نتيجة الشمس، ممَّا أعاق رغبتي  تحت سقف تلك الأطلال، لم أعد قادرا فارتبكتُ.

منازل مدمَّرة أبانت عن ما تضمره داخلها من لحاف، مباني منهارة، لقد رأيت كثيرا من هذا القبيل لكن دون اهتمام، غير أنَّ ما عاينته في بيروت الغربية وشاتيلا بدا مرعبا. الكلمات المألوفة لديَّ بشكل عام  بل ودّيَّة، لم أعد أميِّز معها  ضمن أجواء معجم  المخيَّمات سوى الكراهية ثم من جهة ثانية سعادة القتلة. لقد جرت هنا وقائع حفلة بربرية: سعار، انتشاء، رقصات، هتافات، شتائم، ادِّعاءات،عويل، تحت إشراف متلصِّصين يضحكون في الطابق الأخير من مستشفى عكَّا.

قبل الحرب الجزائرية، لم تكن صورة العرب داخل فرنسا جميلة، حضورهم ثقيل، وفم مزعج، وفجأة اكتسبوا تقريبا جمالا نتيجة الانتصار، لكن قبل أن تصبح تلك الحرب حامية الوطيس، وأودت بإنهاك واحتضار أكثر من نصف مليون من الجنود الفرنسيين في جبال الأوراس وعلى امتداد كل الجزائر، بدأت تتجلَّى ظاهرة مثيرة للانتباه، تكشف عنها ملامح وأجسام العمَّال العرب: شيء معين يدنو من إحساس بجمال لازال هشَّا، لكنه سيبهرنا حينما تسقط أخيرا قشرته من جلودهم وكذا أعيننا. يلزم استساغة بداهة تحرُّرهم سياسيا كي ينكشفوا مثلما يلزم النظر إليهم، رائعين جدا. بنفس الكيفية، يعني الهروب من مخيَّمات اللاجئين وأخلاق ثم نظام تلك المخيَّمات، صوب نظام أخلاقي تفرضه ضرورة البقاء، التخلُّص في الوقت ذاته من الخزي، كان الفدائيون رائعين جدا؛ كما لو أنَّه جمال جديد، بمعنى حديث، أي بريء، وطازج وحيٍّ للغاية بحيث اكتشف فورا مايجعله متوافقا مع مختلف جماليات العالم حينما انتزع نفسه من ذلك الخزي.

وظِّف كثير من مناصري استقلال الجزائر، الذين يعبُرون ليلا حي بيغال، مزاياهم للتعريف بالثورة الجزائرية. الفضيلة كامنة هنا أيضا. إذا تبنَّيْتُ تصوُّر حنا أرنت التي ميَّزت الثورات حسب الحرية أو الفضيلة بالتالي العمل. يلزم ربما الإقرار بأنَّ الثورات أو الحريات تبذل قصارى جهدها- ضمنيا- بهدف العثور أو العثور ثانية على جمال غير قابل للإدراك والتعيين لفظيا. أو بالأحرى ليس المقصود بالجمال جرأة ساخرة من البؤس القديم، للأنظمة والأفراد المسؤولة عن البؤس والخزي، لكن  التلميح إلى سهولة الانبثاق خارج الخزي.

وجب خاصة التساؤل، بين طيات هذه الصفحة، حول التالي  هل يمكن لثورة التبلور دون جعل وجوه وكذا أجساد تخلع عنها الجسد الميِّت الذي جعلها مترهِّلة. لا أتكلَّم عن جمال أكاديمي، بل غير ملموس-لايوصف- بخصوص سعادة الأجسام، الوجوه، الصَّرخات، الكلمات التي توقَّفت على أن تكون كئيبة، أقصد سعادة ملموسة وقوية جدا استبعدت كل شبقية.

ها أنا ثانية في مدينة عجلون الأردنية، ثم  إربد. أزلتُ مااعتقدته إحدى الشعيرات البيضاء التي سقطت على قميصي ثم وضعتُها فوق ركبة حمزة، الجالس بجواري.

تناولها بالإبهام، والإصبع الأوسط،نظر إلى ذلك مبتسما، وضعها في جيب سترته السوداء، ضغط عليها بيده وهو يقول:

– إنَّها أثمن من شَعْرَة لحية نَبِيٍّ. 

قارب عمره حدود اثنين وعشرين سنة، يتوثَّب فكره بأريحية فوق أفق فلسطينيي أربعين سنة، بيد أنَّ جسده وحركاته أظهرا علامات تعيد مبدئيا ربطه بالأجيال القديمة. كان المزارعون فيما مضى، يتمخَّطون في أصابعهم ثم تقذف طقطقة بمجمل المَخَاط صوب الأشواك. يمسح أنفه بأكمام مُخْمليَّة مُضَلَّعة صارت في غضون شهر، مغطَّاة بصَدَف خفيف. هكذا، يزفر الفدائيون مثل سَعَطِ الماركيز والأساقفة: يفعلون ذلك وقد انحنوا قليلا .بادرت إلى القيام بنفس السلوك، مثلما علَّموني دون تفكير.  

ماذا عن النساء؟ تطرزن صباحا ومساء الفساتين السبعة (واحدة كل يوم طيلة الأسبوع) قصد تهيئ كسوة عروس الخطوبة يقدِّمها في الغالب الأعم عريس كبير السّنِّ تختاره العائلة، استفاقة مؤلمة. هكذا، تصبح الفتيات الفلسطينيات جميلات للغاية عندما يتمرَّدن ضدَّ الأب ويكسِّرن إبرهنَّ وكذا مقصِّ التَّطريز.

تتجلَّى في جبال مدن عجلون، السلط وإربد، وسط الغابات نفسها، كل الشهوانية المنطلقة نتيجة الثورة وكذا البنادق، لا ننسى البنادق: هذا يكفي، الجميع مبتهج. طوَّر الفدائيون عفويا-هل ذلك صحيح؟ – جمالا جديدا: حيوية التصرُّفات وكذا إرهاقها المرئي، سرعة العين وبريقها، نبرة صوت واضحة تماما تتحالف مع سرعة ردَّة الفعل وكذا اقتضابها ودقَّتها أيضا. لقد ألغوا الجُمَل الطويلة، البلاغة العالِمة والفصيحة.

مات كثيرون داخل شاتيلا، أيضا كانت كبيرة صداقتي، ومحبتي لجثتهم المتعفنة لأنني عاينتها على أرض الواقع. اسودَّت، تورَّمت، تعفَّنت بين طيات الشمس والموت، مع ذلك سيظلُّون فدائيين.

بعد انقضاء ساعتين من ظهيرة يوم الأحد، اقتادني ثلاثة جنود من الجيش اللبناني، وبنادقهم متأهِّبة، نحو سيارة جيب حيث ينام ضابط. سألته:

– هل تتحدَّث اللغة الفرنسية؟

– أتحدَّث الانجليزية

كانت نبرة صوته خشنة، ربما شعر بالفزع حينما أيقظته.

– تفحَّص جواز سفري، ثم خاطبني بالفرنسية : 

– هل أتيتَ من هناك (أشار بيده وجهة شاتيلا)؟

– نعم.

– ورأيتَ ماجرى

– نعم.

– هل ستكتُبُ عن ذلك؟

– نعم.

أعاد إليَّ جواز السفر، ثم أذِن لي بالذهاب. خفَّضُوا فوهات بنادقهم.

قضيتُ أربع ساعات في شاتيلا، استمرت راسخة في ذهني ما يقارب أربعين جثة. تعرَّضت جميعها، أقول جميعها، للتنكيل والتعذيب، ربما في غمرة الثمالة، الأغاني، القهقهات، رائحة البارود ثم  قبل ذلك  رائحة الجيف.

حتما كنت الأوروبي الوحيد صحبة بعض الفلسطينيات المسنَّات المتمسِّكات بخِرْقة قماش بيضاء ممزَّقة؛ وفدائيين شباب دون أسلحة، ولولا هؤلاء الكائنات الإنسانية الخمسة أو الستة، لغدوتُ مجنونا وأنا أكتشف تفاصيل هذه المدينة الثكلى، وجثث الفلسطينيين ملقاة أفقيا، سوداء ومنتفخة .أين كنتُ؟ مدينة أشلاء رأيتُها على وجه الأرض أو اعتقدتُ كذلك، حين عبرتُها، ثم حَلَّقت بها رائحة الموت بقوة. نعم، حدث مختلف ذلك؟

عاينتُ وبوجع، فقط عشرين في المائة من شاتيلا وصبرا، ثم لا شيء بخصوص بئر حسن أو برج البراجنة.

لا أدين سوى لمرجعياتي بخصوص مااختبرتُه كسحْرٍ خياليٍّ إبَّان حقبة الأردن. فقد حدَّثني أوروبيون وعرب من إفريقيا الشمالية عن تعويذة أمسكت بهم هناك.

عشتُ تلك الطَّفرة خلال ستَّة أشهر، بالكاد طبعها الليل سوى خلال اثنتي أو ثلاث عشر ساعة، اكتشفتُ حينها خِفَّة الواقعة، استثنائية سِمَة الفدائيين، لكني توقعتُ هشاشة المبنى. تواجدت مراكز المراقبة في كل مكان، أينما احتشد الجيش الفلسطيني داخل الأردن، بالقرب من نهر الأردن، حيث كان الفدائيون متيقِّنين جدا من حقوقهم وسلطتهم وحينما يأتي زائر، سواء نهارا أو ليلا، إلى أحد مراكز المراقبة، يشكِّل قدومه مناسبة لتحضير الشاي، وتبادل أطراف الحديث في خضم أجواء الضحك وعناقات أخويَّة (غادر أحد هؤلاء ليلا، وعَبَر نهر الأردن كي يزرع قنابل داخل فلسطين وغالبا لن يعود قط). لقد عزلوا بوادي أردنية تجسِّد وحدها جزرا للصمت.

يظهر جميع الفدائيين وقد ارتفعوا قليلا عن تربة الأرض كما لو بمفعول نبيذ خمر حاذق جدا أو استنشقوا شيئا من الحشيش. بماذا يتعلق الأمر؟ شباب غير آبه بالموت يمتلك أسلحة تشيكوسلوفاكية وصينية كي يطلق رصاصها نحو الهواء. لايعرف الخوف طريقه إلى الفدائيين، وهم يحتضنون أسلحة تحميهم تفرقع عاليا جدا.

إذا رأى قارئ معيَّن خريطة لجغرافية فلسطين والأردن، يدرك بأنَّ المجال ليس قطعة ورقية. تضاريس، ضفَّة نهر الأردن، مرتفعة جدا. ينبغي نعت كل تلك المغامرة بعنوان فرعي: ”رؤيا ليلية صيفية” رغم صرخات المسؤولين الأربعينيين.

أمكن الأمر بفضل الشباب، وسعادة أن تعيش تحت الأشجار، واللعب بأسلحة، أن تعيش بعيدا عن النساء، بمعنى التغاضي عن قضية عويصة، وتكون النقطة الأكثر إشراقا مادامت الأكثر حدَّة للثورة، ثم التوافق مع ساكنة المخيَّمات، وتغدو صورة طبق الأصل مهما حدث، ربما توقُّع عما قريب ارتباك هذا السحر المتواصل ثوريا: لا يرغب الفدائيون في السلطة، فقد امتلكوا الحرية.

حين العودة من بيروت إلى مطار دمشق، التقيت فدائيين شبابا، تخلَّصوا من الجحيم الإسرائيلي. تراوحت أعمارهم بين ستة عشر أو سبعة عشر سنة: يضحكون، يشبهون شباب مدينة عجلون، يموتون مثلهم. بوسع الصراع من أجل بلد تشكيل حياة ثرية جدا، لكنها قصيرة.

إنَّه اختيار، نتذكَّر في هذا الإطار، أخيل وملحمة الإلياذة.  

مصدر النص:

Jean Genet :Revue d’ étude palestiniennes.numéro 6. Hiver 1983.

Visited 8 times, 8 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي