“دفاتر الجديدة” منطلقات في التجربة والتأسيس
المصطفى اجْماهْري
لقد كان اقترابي من الراحل عبد الكبير الخطيبي، في تقاطعات زمنية ومكانية سابقة، أحد الأسباب التي حفزتني على ارتياد مجال يتسم بالصعوبة هو المتعلق بالبحث والتقصي في ذاكرة مدينة الجديدة وفي أزمنة الفضاء المحلي وخاصة منه زمن الحماية وما قبله قليلا. كان ذلك بمناسبة محترف الكتابة الذي نشطه الراحل عبد الكبير الخطيبي إلى جانب الروائي الفرنسي كلود أوليي صاحب رواية “مراكش المدينة” بمقر جمعية دكالة سنة 1991. وشارك فيه أيضا الباحث فريد الزاهي، والأستاذ الجامعي الطاهر البحبوحي. في ذلك المحترف تحدث الخطيبي عن علاقة الكتابة بالمدينة والجهة، وفي نهاية اللقاء اقترح علي، مع ابن أخيه مراد الخطيبي، إعداد ببليوغرافيا عن الكتابات المتعلقة بالمدينة.
انخرطت توا فيما اقترحه علي الراحل وكانت الظرفية وقتها مناسبة بالنسبة لي، إذ كنت أهيئ بحث التخرج بالمعهد العالي للصحافة بالرباط في إطار السلك الثالث، فكنت أقضي غالبية وقتي، خارج الدراسة، في مراكز التوثيق: المكتبة الوطنية بالرباط ومركز لاسورس والمعهد الفرنسي ومركز الدراسات العربية الكائن بشارع أبي رقراق بالعاصمة. دون أن أنسى مكتبة غرفة التجارة والصناعة بالدار البيضاء. هذه التجربة فتحت ذهني على الرصيد الوثائقي المتعلق بمختلف جهات المغرب. وخلال هذه الفترة كنت أزور عبد الكبير الخطيبي كلما سنحت الظروف بحكم مجاورة المعهد الجامعي للبحث العلمي، الذي كان يديره، للمعهد العالي للصحافة الذي كنت أنتمي إليه. فضلا عن بعض لقاءاتنا المتفرقة بالجديدة.
تلك كانت بداية انخراطي في مشروع أطلقت عليه “دفاتر الجديدة”، وهو عمل بحثي وتوثيقي يعنى بالذاكرة المغربية في بعدها المحلي والذي انطلقت فيه سنة 1993 بما يعني أنه سلخ إلى حد الآن أكثر من ثلاثين سنة بإنتاج حوالي خمسة وعشرين مؤلفا في السلسلة. ولم يكن الخطيبي وحده من أكد على أهمية مثل هذا النوع من البحوث، بالنسبة للجديدة ودكالة عموما، بل أوصى به قبله العلامة محمد المنوني حينما حاضر بالمسرح البلدي لمدينة الجديدة سنة 1981 ونادى بضرورة كتابة تاريخ الإقليم بل وإنشاء وحدة وثائقية لدعم المشروع. وهو ما أكده، في وقت لاحق، المؤرخ محمد الشياظمي وأيضا رجل الحركة الوطنية ذ. أبو بكر القادري حين تقديمه لكتاب ذ. إدريس المسفر “صفحات من تاريخ الكفاح الوطني بالجديدة” الذي تأسف لعدم الاهتمام بكتابة تاريخ هذه المدينة ودكالة عموما من أجل التعريف به لدى الناشئة.
وقد كان من حسن حظي في البدايات الأولى أن أحظى بدعم تأطيري من المؤرخ المعروف غي مارتيني الذي ألف مع ذ. إبراهيم بوطالب وآخرين المقرر الرسمي لتاريخ المغرب في ستينيات القرن الماضي. فقد علمني الراحل، حينما كنت أزوره في بيته بالدار البيضاء، كيف أكون منفتحا على التأويلات مع الحذر من التخندق في الوثوقية. وإلى جانب دور المربي الذي قام به مارتيني تجاهي، ينبغي أن أذكر أيضا الدور المماثل لنيلسيا دولانوي الأستاذة الجامعية الفرنسية، المنتمية إلى عائلة جديدية معروفة، والتي ما زالت منفتحة على تساؤلاتي إلى اليوم، علما بأنها، هي أيضا، مارست الكتابة المتعددة وجربت التأليف في التاريخ والسيرة الذاتية والرواية والتحقيق الصحفي.
***
في تلك الفترة كنت قد أصدرت أربعة مجاميع قصصية باللغة العربية، اثنتان من بينها صدرتا ضمن منشورات اتحاد الكتاب العرب بدمشق وهما “حرائق ودخان” و “الحارة”، والرابعة “شجرة الحياة” صدرت عن دار الثقافة بالدار البيضاء بمقدمة للروائي العراقي عبد الرحمان مجيد الربيعي. كنت وقتها أيضا قد جربت الكتابة في مجلات عربية في العراق وتونس وبعض دول الخليج. وكان السؤال الذي راودني زمنها يتعلق بكيفية توظيف إمكانياتي المعرفية كإعلامي في إنجاز كتابات يمكن أن تحقق قيمة مضافة أولا وتستطيع، ثانيا، أن تجد لها مكانا في وجدان بعض فصائل القراء. وخلاصة القول الذي أسعى إليه هو أن الكاتب، أي كاتب، مدعو، في مرحلة من مراحل مساره إلى الحسم في اختيارين: إما السعي إلى تحقيق إضافة نوعية في مجهود الكتابة أو الاكتفاء بالمكرور، دون أن يغرب عن البال أن بيئتنا لا تِؤمن بثقافة الاعتراف، فلم يحظ الراحل محمد زفزاف، في حياته، في بلده، بأي تقدير ولا تكريم.
كان هذا هو السؤال الذي طرحته على نفسي في وقت مبكر نسبيا من مسيرتي في عالم الكتابة. وأعترف بأن خلفيتي الإعلامية المتعددة الحيثيات ورغبتي في الاستجابة لحاجات محلية على مستوى البحث والتأليف ولقائي بعبد الكبير الخطيبي كلها عوامل ساعدتني على الانغماس الكامل في هذا المشروع التوثيقي المعنى بذاكرة المدينة بما هي فضاء جغرافي مفتوح وثقافة متعددة الروافد. والحال أنني تطرقت إلى كل هذه الأمور تفسيرا وتعليلا في مؤلف خاص تحت عنوان “دفاتر الجديدة، التاريخ المشترك” الصادر سنة 2003، من تقديم ذ. عبد المجيد نوسي. يتضمن هذا الكتاب أيضا الجواب على مسألة اختيار الكتابة باللغة الفرنسية في حالة هذه السلسلة.
لقد كان اللجوء إلى اللغة الفرنسية كأداة للتواصل بالنسبة لمشروعي الخاص ضرورة استوجبها سياق الاشتغال. فمضان البحث والوثائق اللازمة متاحة بهذه اللغة، وليس من المنطقي أن يقوم باحث متطوع مثلي بتحمل عبء الترجمة إلى جانب عبء التأليف والنشر، علما، وهذا هو الأهم، أن التواصل بهذه اللغة وسّع من دائرة القراء دون منازع. وليس هذا فحسب بل يتعلق الأمر كذلك بإمكانية تداول المقروء خارج الجغرافيا الوطنية. وفي ما يخص تجربتي، وحتى أبرز اهتمام الطرف الآخر، فقد قرأت على الحاضرين، في اللقاء المنظم من طرف المعهد الفرنسي بالجديدة مؤخرا، نماذج من مراسلات توصلت بها من قراء من فرنسا وسويسرا والولايات المتحدة الأمريكية وقبرص وأندونيسيا يطلبون فيها بعض كتبي أو يطرحون عليّ فيها أسئلة تخص تاريخ المدينة أو مسار أشخاص مغاربة يهودا أو أجانب انتموا لها في وقت من الأوقات. وبخصوص هذا الجانب الأخير أفلا يجوز القول إن الكاتب هنا يؤدي بشكل ما خدمة عمومية للمدينة وللآخر خارجها، مما يعطي لعمله معنى ولنفسيته معنويات.
ومن المعلوم أن ما يجري في حقل التجارب الحديثة في الكتابة والإبداع، يستفيد من كل العلوم ولا يقف عند الحدود والتصنيفات. فعلى سبيل المثال كتاب “مداريات حزينة” لكلود ليفي شتراوس هو حفر في عادات قبائل البرازيل قام بها الباحث في الثلاثينيات من القرن الماضي، وحين نشر الكتاب عام 1955 تمنّت أكاديمية غونكور لو كان رواية حتّى تمنحه جائزتها الشهيرة. وتستمر مثل هذه التجارب حتى الآن في استجابتها لحاجات فئات مختلفة من القراء، كما رواية “ليتسيا، نهاية الرجال” للمؤرخ الفرنسي إيفان جابلونكا الحائزة على جائزة جريدة “لوموند” لنكتشف بأنها ليست رواية بل تحقيقا صحفيا واجتماعيا في مقتل فتاة فرنسية سنة 2011. وعلى أي فالأمثلة هنا عديدة..
ليس المشكل الحقيقي في مغرب اليوم، في اعتقادي الشخصي، هو شكل الكتابة أو لغتها (عربية فصحى، فرنسية، أمازيغية) بل هو سوء الفهم المتفشي لدى فئة من المتعلمين كما الأميين على السواء.