ما دور الترجمة في خلق عالم أفضل؟
سعيد بوخليط
من بين أكبر الأعطاب المجتمعية التي تترتَّب عنها أزمات بنيوية وارتدادات مفصلية ثم في نهاية المطاف جملة كوارث إنسانية، أساسه عدم بلوغ أيّ مجتمع مستوى متطوِّر فيما يتعلق بصقل أدبيات التواصل.
نجاح أو إخفاق أو مجرَّد اختلال يكتنف منظومة التواصل، معناه تعبيد الطريق أمام تداعيات سوء الفهم، استطراد أخطاء التَّأويل، عدم الوضوح، التَّضليل، العداوات، الضَّغينة، سيادة العنف.
يخفق التواصل، يضيع المعنى، يترسَّخ التِّيه ثم تتوالى تباعا سلبيات ذلك من الأحادية الدلالية إلى التسلُّط الشامل، وتفشِّي مختلف العلل النفسية المزمنة.
بناء عليه، يبدو الحلّ بسيطا، بخصوص مختلف الانهيارات التي يعيشها العالم، يكمن الترياق في إعادة ترميم أدبيات التواصل. تواصل الإنسان، مع ذاته قبل كل شيء، والإصغاء لدواخله جيدا، قصد تركيزه أولا وأخيرا، على التصالح معها، والتقاط نبضها، كي يستوعب حقيقة وجوده في هذه الدنيا الملغِزة حكايتها، ثم التواصل مع الآخر حتى يتم تفكيك شفرة وحدة التعدُّد وتعدُّد الوحدة.
والحالة تلك، تجد الترجمة وضعها طوعا أو كرها، في طليعة من يستحق بامتياز شرف هذه المعركة المصيرية. لذلك، كلما أثيرت قضية السلام العالمي، واستتباب لبنات التعايش بين الأمم على امتداد الجغرافيات، يبرز ضمن المقام الأول بغضِّ النظر عن فاعلية المؤسسات السياسية، قضية الترجمة ودورها المحوري على مستوى تذويب الفوارق والتباينات بين الحضارات، عبر ترسيخها جسور التواصل والتعارف والتفاهم والتسامح.
فضائل عدَة، تنقلب آليا إلى نقيضها، حينما تتقلَّص مساحة مؤسَّسة الترجمة، بالتالي إتاحة المجال أمام مختلف أنماط الانطوائية والشوفينية والتعصُّب، مادامت الحواجز لازالت ماثلة بزخم ولم يتم تقليص سُمْكها بواسطة الترجمة.
أوضح التاريخ دائما، بداهة العلاقة العِلِّيّة بين النهضة والترجمة، بحيث استحالت استحالة تامة إمكانية افتراض ارتقاء جماعة إنسانية معينة وانتقالها من طورٍ إلى طورٍ أسمى، دون إعادة اختبار دقيق وتقويم نوعي جديد لعلاقة الذات بالآخر، وبين طيات ذلك طبعا علاقة الذات بذاتها .تهذيب روحي أسمى يتحقَّق عبر الترجمة، عندما يتجسَّد سياق بلوغ مكمن التطهير المعرفي، ويكتشف العالم حافز البناء وانبعاث الحياة بعد فترة ارتداد وانحطاط، ويلقي خلالها جانبا مبرِّرات الهدم بواسطة العنف.
عندما تنجز الترجمة بيسر، انتقال الأفكار وسفر الإيديولوجيات، تعثر منظومة التواصل على حلقاتها التأسيسية، وتتلاشى ضمنيا مختلف أسباب الخلاف والشِّقاق، فيغدو العالم حقا قرية صغيرة ملتئمة حميما وروحيا، ليس بالمعنى الشمولي ذي المنحى الأحادي الديكتاتوري، بل منظومة بنيوية مشتعلة إنسانيا، تشتغل حتما إجرائيا بناء على العلاقة الجدلية اللامتناهية بين العنصر الواحد ثم مجموع النسق، إذا تعطَّل دور أحدهما ارتبك واضطرب التوازن برمَّته.
وحده أفق الترجمة بوسعه تفعيل هذه المهمة، والقدرة على استتباب لبنات عالم يؤمن بتعايش مختلف الهويات والثقافات والديانات والمنظومات والمرجعيات والأنساق والأفكار والأطروحات. إنه ليس بعالم مثالي أشبه بالفردوس السماوي، لكنه أفق يحتوي بذكاء حساسية الإشكالية الإنسانية ضمن شتَّى تناقضاتها ويعثر لها من خلال أوراش تداول ثراء التواصل على الحلقة المفقودة الناظمة لإيقاع المتعدِّد والواحد.
يشكِّل الإخفاق في استيعاب تفاصيل هذه المعادلة، ينبوعا أصليا للعنف، فيأخذ العالم صيغة محض تراجيدية، تنقلب يومياته إلى صراعات عبثية حادَّة بين أفراد البشر، لأنهم أخفقوا في العثور على سبيل قويم يتيح إمكانيات جعل الفرد الواحد في ذاته، ماهية وجود العالم والإنسانية جمعاء.
تبعث اجتهادات الترجمة تلك الخلفيات، مثلما تراكمها وترسِّخها معرفيا أوَّلا، لأنَّ المعرفة تظلّ المنطلق المبدئي والقصد النهائي، ثم تتوالى باقي التفريعات، طبعا السياسية والقانونية بخصوص تكريس سلطة السلام البشري، واستخلاص الواقع المادي الجوانب الأخلاقية من مخاض الترجمة.
أثار وجداني باستمرار ذلك المشهد النوعي، ضمن أدبيات الفعل السياسي الحكيم، أقصد جلوس قائدين سياسيين، يتوسَّطهما مترجم أو مترجمة، ثم تبلغ جاذبية الوضع أقصى مستوياتها حينما يتعلق الأمر بزعيمين كبيرين يشرفان على سلطتي دولتين مهمَّتين على مستوى توجيه مسارات مصير البشرية. أتأمل حيثيات اللقاء، وأنا أتفرَّس أكثر تقاسيم وجوه الثلاثة وكيفية تفاعل المتحاورين، مع انتقال خطابهم ذهابا وإيابا، من أحدهما إلى الثاني بفضل صنيع الترجمة ودورها الأولاني، قبل غيرها، في إرساء معالم التطلع صوب عالم أفضل، يتَّسع للجميع ويحتضن أحلام الإنسانية اللامتناهية.