عبد الإله التهاني يكتب لي: “العزيز اجْماهْري، أراهنُ عليك والخير في المستقبل”

عبد الإله التهاني يكتب لي: “العزيز اجْماهْري، أراهنُ عليك والخير في المستقبل”

الـمصطفى اجْماهْري

       لا أدري كيف حافظت بين وثائقي القديمة على رسالة من الصديق عبد الإله التهاني عمرها الآن حوالي نصف قرن. فقد ضاعت مني، ومنذ سنوات طويلة، مراسلات شخصية عديدة وصلتني من المغرب ومن خارجه لكتاب من أجيال مختلفة. كان ذلك في فترة عرفت حماسا منقطع النظير للمراسلات الكتابية بين الأدباء الناشئين المغاربة، الذين احتضنتهم جريدة “العلم” ثم “المحرر” فـ”الاتحاد الاشتراكي” فضلا عن “بيان اليوم”. وكانت الجرائد المكتوبة على اختلاف ألوانها تخصص بين صفحاتها ما اشتهر تحت اسم “ركن التعارف” الذي أتاح، زيادة على ربط علاقات إنسانية ورفاقية بين المراهقين والشباب، التمرن على الكتابة والاعتناء بالخط. كنت آنذاك، سنة 1972، أتابع دراستي في القسم الداخلي بثانوية الإمام مالك بالدار البيضاء، حينما شرعتُ مع صديقين لي بنفس الثانوية وبنفس القسم، هما مصطفى مفتقر من خريبكة، ومحمد غرناط من الفقيه بنصالح، في إرسال محاولات قصصية لصفحة “أصوات” بيومية “العلم”. كانت هذه الصفحة التي تصدر كل اثنين مخصصة لنشر إبداعات اليافعين من قصة وشعر ومحاولات نقدية. وكان يشرف عليها الراحل المحجوب الصفريوي، الذي لعب دورا مرموقا وأساسيا في انفتاح الشباب على الكتابة وتشجيعهم على التأليف بل واستقبالهم بمقر “العلم” إذا ما رغبوا في زيارته في مكتبه.

في هذا السياق تعرفتُ على عبد الإله التهاني من خلال كتاباتنا بهذه الصفحة، التي كانت بمثابة مدرسة للناشئة، والتي بدأ ينشر فيها محاولاته انطلاقا من 1976. بمعنى أنه جاء بعدي في محاولات الكتابة، وذلك طبعا بحكم فارق السن بيننا. فقد ازداد التهاني بمراكش سنة 1959. مرت هذه المرحلة الأولى وراح كل منا يتلمس طريقه نحو المستقبل، ثم جاءت فترة البحث عن مسار في الحياة فتفرقت بنا السبل، إلى أن التقيته شخصيا ولأول مرة في غشت 1980. كان عبد الإله التهاني بدوره قد التحق للدراسة بكلية آداب مراكش، ولكنه ظل مرتبطا بالكتابة، وخاصة حينما لفت إليه الأنظار بمراسلات ثقافية متميزة بجريدة “المحرر” عن موسم أصيلا الثقافي. كانت تغطياته تلك من الدقة والتفصيل أنها خلقت متتبعين من قراء وأدباء أصبحوا يتابعونها بشغف كبير.

كنت وقتها صحفيا مبتدئا حين غادرت إذاعة عين الشق بالدار البيضاء، وعدت من جديد، بعد بضع سنوات من الانقطاع، إلى الدراسة الجامعية في الرباط. إلا أنني دأبت، مرتين في الأسبوع، على زيارة صديقي الراحل الشاعر المفرنس الميلودي بلحديوي بحي ريفييرا بشارع غاندي بالدار البيضاء. دأبت على ذلك بعدما كنت أقيم معه بالحي المذكور إبان عملي في الإذاعة. 

هكذا في إحدى زياراتي للشاعر بلحديوي، توجهنا، ذات مساء، إلى مقهى “ماجستيك” بالمعاريف على أمل قضاء وقت مع الكاتب الكبير محمد زفزاف. وفعلا التقيناه مع الشاعر المناضل أحمد الجوماري، وأيضا القاص الراحل البشير جمكار، الذي لم يبق طويلا معنا. كنا نتناقش في تلك الأمسية حينما دخل علينا الشاب المراكشي عبد الإله التهاني قادما، في نفس اليوم، من موسم أصيلا. تبادلنا معه الحديث وحدثنا عن أجواء المهرجان بنفس الدقة التي كان يكتب بها تغطياته. بل إن محمد زفزاف وكان معروفا بعطفه على الكتاب الشباب وتعاطفه معهم، عبر عن إعجابه بتغطيات التهاني قائلا له :

– عبد الإله سأصدقك القول، تغطياتك الصحفية ممتازة وهي تعجبني أكثر من قصائدك التي تنشرها في “المحرر”.

وحينما انتهى لقاؤنا مع زفزاف والجوماري، واعتبارا لتوقف حركة النقل بين الدار البيضاء ومراكش، فقد عرض الصديق بلحديوي على عبد الإله أن يرافقنا للمبيت عنده بحي ريفييرا. وكذلك كان، حيث قضينا ثلاثتنا وقتا آخر في استكمال الحديث والاطلاع على بعض تجاربنا الكتابية.

بعد ذلك ستتاح الفرصة للقاءات مباشرة مع عبد الإله التهاني في مؤتمرات اتحاد كتاب المغرب بعيد انتمائه إليه سنة 1982. وفي تلك المؤتمرات كنت كثيرا ما أشاهده قريبا من الشاعر عبد الرفيع الجواهري وكذا من أستاذيه بكلية آداب مراكش زمنها محمد البكري وعبد الصمد بلكبير.

***

    والملاحظ أن عبد الإله التهاني كان نشيطا في عمله وتحركاته وتواصله مع الكتاب والنقاد والشعراء.. وبعد حصوله على الإجازة في الآدب العربي مارس بعض الأعمال الإدارية (اشتغل بتعاونية الحليب وبفرع “سبريس” لتوزيع الصحف في مدينة مراكش)، وتعاون أيضا مع إذاعة مراكش الجهوية لما كان على رأسها المذيع محمد الريفي. وفي وقت لاحق، انتقل إلى الرباط حيث ولج وزارة الإعلام إلى حين تقاعده. لكنه لم يستسلم للخمول بل استمر في ممارسة العمل الصحفي من خلال إعداد برنامج حواري أدبي بعنوان “مدارات”، يبث من الإذاعة الوطنية بالرباط، سبق أن استضافني فيه للحديث عن تجربتي الإعلامية والأدبية. دون أن ننسى أنه عمل فترة بالمكتبة الوطنية.

ورغم أن الوثائق التي جمعت خلال الثلاثين سنة من اشتغالي في البحث المحلي قد سلمتها لمؤسسة أرشيف المغرب بالرباط، إلا أن بعض المراسلات ذات الطابع الشخصي تركتها في حوزتي، وهي قليلة، على كل حال، لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، ومنها رسالة الصديق عبد الإله التهاني مؤرخة في 12 شتنبر 1980 ومكتوبة بخط يده بقلم أزرق وموقعة بقلم مداد أحمر. وهي رسالة أدبية رفيعة تطفح بالمشاعر الإنسانية النبيلة وبالمحبة الصادقة. كان التهاني حين إرسالها لي طالبا جامعيا يبلغ من العمر 21 سنة، بينما كان سني 27 سنة. ونظرا لجمالية هذه الرسالة وعذوبتها ورقتها ظلت بين حاجياتي. ويسعدني بهذه المناسبة أن أسرد هنا بعض ما جاء فيها:

رسالة عبد الإله التهاني إلى المصطفى اجماهري
رسالة عبد الإله التهاني إلى المصطفى اجماهري

“العزيز مصطفى، تحياتي ومحبتي… اشتقت إلى كلماتك منذ مدة ليست بقصيرة ومع ذلك لم تعد تجُود عليّ بها مثلما كنت تفعل من قبل بسخاء كبير. لعلك تلومني على تأخر أجوبتي وردودي على رسائلك… كم أنت قريب إلى قلبي بصدقك وبطيبوبتك وبراءتك البدوية. لم أقرأ لك شيئا منذ شهور. ويبدو أن مبرراتك الدراسية قد انتهت منذ أسابيع كثيرة، إذ أنك في وقت عطلة وبإمكانك فعل أشياء غير قليلة. فلم لا تكتب وتنشر؟ أرجو أن تستمر وتمنع الكسل من التسرب إلى أعماقك الزاخرة بالعطاء. ربما كنت لا تدري أنك الصوت الأدبي “الوحيد” للجديدة ولحظة وعيها الثقافي المشرق. إني أراهن عليك والخير في المستقبل أقوى، فاكتب واتركني أقرأ لك. مع كامل المحبة والتقدير. أخوك عبد الإله التهاني”.

هناك أسباب كثيرة جعلتني لا أفرط في هذه الرسالة الأنيقة أناقة صاحبها، كونها تنم عن صداقة حقيقية ومحبة راسخة، وتشجيع لي على الإبداع والكتابة والثقة في المستقبل.. كثيرا ما أعيد قراءتها فتُذكرني، في كل مرة، بأن في الحياة أصدقاء نادرين يُثرون حياتك بلحظات مضيئة.

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

المصطفى اجماهري

كاتب وناشر مغربي