السودان الجريح: الشيخ حسن الترابي.. الثعلب المعمم الذي سلم كارلوس (5)
جورج الراسي
لكل نظام ثعلبه. وثعلب السودان على مدى العقود الماضية كان بلا شك الشيخ حسن الترابي. لقد لعب أدوارا جوهرية في كل الأنظمة التي تعاقبت على السودان منذ ستينيات القرن الماضي .
يمكن اختصار مساده بثلاثة عناوين: رجل الدولة، ورجل المعارضة – موقفه من المرأة والدين- وأخيرا تسليمه المناضل الأممي كارلوس إلى السلطات الفرنسية…
مثقف “جامعي!
حسن الترابي من مواليد 1 شباط/ فبراير من عام 1932 في مدينة كسالا، ورحل عن 84 عاما في 5 آذار – مارس 2016 في الخرطوم. يختصر في حياته كل تاريخ السودان المعاصر، لأنه عايش كل أنظمة الحكم المتعاقبة ولعب أدوارا هامة فيها، سلبا وإيجابا، في الحكم والمعارضة. وله مواقف متميزة في ميادين عديدة وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بالحياة المدنية .
درس في جامعة الخرطوم بين عامي 1951 و1955، أي في فترة الحكم الانكلو – مصري، قبيل الاستقلال، بعد الكتاتيب طبعا، فقد كان والده ينتمي إلى طريقة صوفية، ثم سافر إلى لندن، وتابع دراسته في مدرسة King’ s College
المحترمة، وحصل على ماستر .
ثم التحق بجامعة السوربون الباريسية بين عامي 1959 و1964. بهذا المعنى فهو متعدد الثقافات الأمر الذي سيساعده كثيرا فيما فيما بعد.
عاد الترابي إلى وطنه في أوج ثورة العام 1964 ضد حكم ابراهيم عبود، أول دكتاتور عرفه السودان المستقل، لكي ينخرط فورا في الحياة السياسية من خلال إدارته لـ”جبهة الشريعة الإسلامية” بين عامي 1964 و1969 .
القطيعة مع جعفر نميري
في عام 1969 قام جعفر نميري بانقلاب عسكري واستلم الحكم، بحماية جمال عبد الناصر، وشكل حزبا حاكما أسماه “الاتحاد الاشتراكي”، على غرار “الاتحاد الاشتراكي” المصري.
لكن عبد الناصر رحل بعد عام، وتولى العقيد القذافي، الذي لم يكن قد وصل إلى الحكم إلا في فاتح سبتمبر 1969، دعم حكم نميري، ولعب دورا حاسما في إفشال الانقلاب الشيوعي عليه، في تموز/ يوليو من عام 1971 .
بدا الإخونجية يلعبون دورا كبيرا في تشيير شؤون البلاد، وأصبحت مصر تخشى العدوى من تصاعد الإسلام الأصولي، كذلك السعودية التي اشتكت من طريقة تطبيق “الحدود” في السودان… وأصبح “الدكتور” حسن الترابي المستشار الخاص للماريشال نميري …!
عام 1979 اقترب نميري من الإخوان، وأصبح الترابي “مفتشا عاما”، وصدرت “قوانين سبتمبر الشهيرة” لتطبيق الشريعة، والتي لعبت دورا حاسما في دفع الجنوبيين نحو خيار الأنفصال.
الواقع إن الولايات المتحدة كانت تغمض عينيها على ما يجري، على اعتبار أن الإخوان في السودان “معتدلون” و”موالون للغرب”، ومعادون بشراسة للشيوعيين وللاتحاد السوفياتي، الذي كان يسعى لدس أنفه في المنطقة…
وعرفت الثمانينات غزلا أميريكيا – سودانيا متعاظما.
وفي 17 شباط/ فبراير 1985، قبل أسبوعين من زيارة جورج بوش، نائب الرئيس الأميريكي، إلى الخرطوم، بدأ جعفر نميري انعطافة كبيرة باتجاه العم سام، ملبيا معظم مطالبه، وبخاصة وقف إطلاق النار من طرف واحد في جنوب السودان، وشكل في 13 من الشهر نفسه “لجنة قومية عليا” لبدء الحوار مع الجنوبيين …
وما كاد بوش يظير ظهره حتى بدأ نميري بشن حملة ضارية ضد الإخوان، فأخرج ممثليهم من الحكومة ومن الاتحاد الاشتراكي – الحزب الوحيد – ومن القضاء، وأرسل نحو 200 عنصر من بينهم، وعلى رأسهم المستشار الخاص “الدكتور” حسن الترابي إلى السجن… وسوف يصبح دخول السجون عنده “عادة” منذ ذلك التاريخ… أمضى 6 سنوات في السجن قبل أن يهرب إلى ليبيا…
وكان العام 1985 هو عام الإطاحة بنميري على يد عمر حسن البشير…
… وقطيعة مع عمر حسن البشير…
الدكتور حسن لا ينام على ضيم. فقد حقد على نميري. وبدأ الإعداد للإطاحة به. كان ذلك في 30 حزيران/ يونيو من عام 1989، على يد الإخوان الذين عرفوا آنذاك “بالإنقاذيين“، (و من المفارقات العجيبة أن ما عرف “بجبهة الإنقاذ” في الجزائر أيضا، بدأت مسيرتها للاستيلاء على الحكم في نفس التوقيت تقريبا) ..! وكأن مدير الأوركسترا واحد…!
المهم أن البشير قام بانقلاب عسكري لصالح “الجبهة الإسلامية القومية”، وأطاح بالحكومة الديموقراطية المنتخبة، التي كان يترأس مجلس وزرائها الصادق المهدي، ويترأس مجلس رأس الدولة أحمد الميرغني …
تعرض حكم البشير لمحاولات انقلاب كثيرة، أبرزها “انقلاب رمضان” عام 1990، الذي فشل فشلا كليا، وألقي القبض على 28 ضابطا تم إعدامهم في محاكمات عسكرية. ودخلت حكومة “الإنقاذ” في عزلة دولية، لكنها استعاضت عن ذلك بتعميق صلاتها مع كل من الصين وإيران التي استخدمت “جمعية العالم الإسلامي” لتحويل بور سودان إلى ما يشبه ولاية إيرانية، بحماية “قوات الدفاع الشعبي” التابعة للترابي .
وكان الإنقاذيون بعد توليهم زمام الحكم قد قاموا بتطهير القوات المسلحة السودانية من كل الايديولوجيات المختلفة، وبثوا فيها العناصر الأصولية بعد أن أجروا اختبارات للمتقدمين لم تشهدها الكلية الحربية منذ نشأتها، وهي من أقدم الكليات والمعاهد العسكرية في الشرق الأوسط وافريقيا، إذ أخضعت عناصر الجبهة الإسلامية المتقدمين لاختبارات في الفقه والحديث… وأظن أننا سنشهد اليوم أيضا تجارب من هذا النوع ..!
دامت سطوة الترابي على حكم البشير نحو عشر سنوات إلى أن اندلعت الخلافات أخيرا ودبت القطيعة بين الطرفين .
فقد كرس الترابي القطيعة يوم 27 حزيران/ يونيو من عام ألفين، بإعلانه تأسيس حزب سياسي جديد، بعد يوم واحد من اختيار خلف له في منصب الأمين العام لحزب المؤتمر الوطني الحاكم. واتهم الترابي حليفه السابق “بالخيانة” وأعلن عن تأسيس حزب جديد “حزب المؤتمر الوطني الشعبي الجديد”، واتهم الحكومة بأنها بدأت “بفصل الدين عن الدولة”، متهما البشير بالوصول إلى السلطة بقوة السلاح… وكأنه ليس هو الذي أوصله !
وكان البشير قد أمر في 12 كانون الأول/ ديسمبر بحل البرلمان الذي كان يترأسه الترابي …
وأكد الترابي أن البشير “اعتمد سياسة الإذعان للقوى الدولية غير المحبة للإسلام”… ووصل إلى حد المطالبة بتسليمه إلى المحكمة الجنائية الدولية بتهمة مذابح دارفور..!
هكذا انشق “حزب المؤتمر الشعبي” عن “حزب المؤتمر الوطني” عام 1999 فيما عرف حينها بـ “مفاصلة الإسلاميين” الشهيرة بـ “مذكرة العشرة“.
الترابي و”الفقه الجديد”: المرأة للرئاسة ..!
لكن “خرجات” الترابي لا تقف عند هذا الحد. فقد أدلى باجتهادات فقهية جعلت الفقهاء يقفزون عن كراسيهم…
ففي 6 حزيران/ يونيو من عام 2006 صرح أن لا مانع لديه في أن تؤول رئاسة السودان إلى مسيحي أو إمراة، طالما كان من يتسلم المنصب عادلا ونزيها، معتبرا أن الشريعة حرفت عن معناها الحقيقي… وأكد في مقابلة أجرتها معه وكالة فرانس برس: “أنه لا ديانة ولا جنس الرئيس يمكن أن تطرحا أي مشكلة”… وأضاف موضحا: “إن كان هناك مرشح مسيحي نزيه وقادر على مقاومة التأثير الفاسد للمتصب الحكومي، وكان نزيها، ولن يستخدم نفوذه ضد الآخرين، سأنتخبه”. (أكيد لن يكون من أصل لبناني..!).
وغرز السكين أكثر بقوله: “كما لا توجد لدي مشكلة في أن أنتخب إمرأة “!
واضح أن تلميذ السوربون هو الذي يتحدث هنا…
واعتبر الترابي أنه من الممكن للمسلمين أن يعتنقوا المسيحية… “فإن الله، كما يقول، لم يرسل الملائكة ليفرضوا علينا أي شيء. نحن أحرار في أن نكون مسلمين، أو نصبح غير مسلمين، ونعود مسلمين …”
والترابي الذي يتبع الطريقة الصوفية كان قد اتهم بالردة في وقت سابق، عندما قال إنه يمكن لامرأة مسلمة أن تتزوج من مسيحيي أو يهودي، وأن شهادتها تساوي شهادة الرجل المسلم !
“ خبصة الخبصات”: تسليم كارلوس…
كل ما قاله وفعله الترابي حتى الآن في كفة، وتسليمه كارلوس في كفة أخرى…
كارلوس كما هو معروف مناضل أممي، نفذ عدة عمليات كبيرة كان لها صدى واسع في الإعلام في سبعينيات القرن الماضي. حكم عليه بالمؤبد في فرنسا في عام 1997 لإقدامه على قتل ثلاثة من رجال الأمن الفرنسيين، وما زال في سجنه حتى هذا اليوم .
ومن ضمن “فتوحاته” الدولية، قيامه في شهر ديسمبر/ كانون الأول من عام 1975 باحتجاز وزراء منظمة الدول المصدرة للنفط – اوبك – في فيينا، بطلب من العقيد معمر القذافي ، احتجاجا على قرار الملك السعودي بخفض أسعار النفط… وكان من المفترض أن يعدم وزير النفط السعودي أحمد زكي اليماني… لكنه لم يفعل… وانتهت الأمور في مطار الجزائر على يد… عبد العزيز بو تفليقة !
وفي حزيران/ يونيو من عام 1976 تولى من الجزائر الإشراف على خطف طائرة تابعة لشركة العال الإسرائيلية من مطار أثينا، وانتهت المغامرة في مطار Entebbe عاصمة أوغندا بإشراف الماريشال عيدي أمين دادا.
اهتدى إليه وديع حداد وجعله نجم العمليات الخارجية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين…
المهم إن كارلوس الملاحق عالميا، بعد كل تلك المغامرات، وجد ملجأ له في السودان في ظل حكم “الانقاذ“…
ولم يخطر على باله لحظة أن حسن الترابي سيفاوض على رأسه لحماية النظام الإسلامي الجديد في السودان…!
فقد وظف الترابي لغته الفرنسية وبدأ يفاوض الفرنسيين منذ عام 1992 وبخاصة في المجال الأمني والمخابراتي… وذلك طمعا بالدعم الفرنسي عوضا عن غياب أي دعم غربي آخر، لا من الولايات المتحدة ولا من بريطانيا…
وتم تسليم كارلوس صيف عام 1993 …
ومن تولى ملاحقة كارلوس على مدى سنوات لتحديد مكان إقامته هو الجنرال الفرنسي Philippe Rondot الذي أطبق عليه في إحدى شقق الخرطوم انتقاما لرجال الأمن الفرنسيين الذين قتلهم في باريس… وكان صديقا لي بصفته باحثا (كتبت عنه في إحدى “الحكايا”)…
عملتك ما بتنعمل يا ترابي…