جراحات النزوح العاري في “بالكتابة نتعافى، ناجيات من حرب السودان”
لحسن أوزين
“الحرب تزداد اشتعالًا بين قوات الدعم السريع والجيش. الدعم السريع، لا يعرفون غيرالموت والدمار، وهم يقادون من قبل أحد قادة الدماء، حميدتي. إلى جانبه، يقف قائد الجيش برهان، وهما نفسيهما من قاما بحرق قرى دارفور، وممارسة أبشع الجرائم من اغتصاب وتعذيب في عهد الإنقاذ. وكان عمر البشير هو من جلبهم إلى سدة الحكم، بل وأطلق اسم «حمايتي» على حميدتي لأنه كان ينفذ كل أوامره بلا تردد”. 107
لا يخفى على القارئ المهتم بالقضايا الإنسانية، وما تعيشه بعض شعوب العالم من أزمات وكوارث ومآسي وثورات، أن هذا الكتاب الذي هو جزء من مشروع “مندي” الذي تشرف عليه الدكتورة إشراقة حامد مصطفى، فهو يأتي من جهة في سياق سيرورة ثورة الشعب السوداني التي بفضلها تم إسقاط رأس النظام عمر البشير. ومن جهة أخرى هو استمرارية لشعار نساء مندي “ليس سوانا يكتب سيرتنا”. وذلك ترسيخا وبناء للصوت والرؤية النسوية والحضور الفاعل المبدع الخلاق في الثقافة والفكر والإبداع والسياسة والتاريخ…
وهذا ما جعل هذا الكتاب فعلا وشكلا من المقاومة للتعافي من الآلام والعذابات التي عاشتها نساء السودان في ظل حرب همجية ممسوسة بجنون السطو على السلطة. والكتاب أيضا دعامة معنوية ترمي الى تحصين الذات وترميم الشقوق والهزات المرعبة التي تعرضت لها النساء في خضم سيرورة ماعرفته الثورة السودانية من مؤامرات خارجية و داخلية من طرف الجيش وعصاباته الجنجويدية.
ومن موقع رفض الهامش والاقصاء التاريخي الاجتماعي، وانطلاقا من الوعي بضرورة النهوض الفاعل المقاوم، جاءت نصوص الكتاب، لتؤسس سرديتها النسوية الخاصة لما عاشته الثورة السودانية من تحولات عنيفة، أخذت شكل الحرب ضد الشعب، وذلك لإبعاده وحرمانه من حق امتلاك السياسة، والتحكم في زمام مصيره، في تقرير حياته، وبناء نمط وجوده الاجتماعي السياسي، والتاريخي الإنساني.
ليس سرا ولا جديد أن نقول أن ما تكتبه المرأة حول العنف والظلم والقهر والحرب ، يمتلك قيمة وعمقا معرفيا وإبداعيا خاصا، قلما نجده في الكتابات الذكورية، إلا في تلك الأكثر اتساعا وعمقا على مستوى الرؤية والمنظور المتعدد الوجوه، والمحيط الملم بكل الأبعاد المختلفة التي ناذرا ما تدركها مواقع السيطرة والهيمنة الأبوية الذكورية، كرؤى وأفكار ودلالات ومعاني. وهذه الخاصية التمييزية الإيجابية ترتبط بموقع النساء الخضوعي الاضطهادي والقهري الاجتماعي التاريخي والنفسي، في التراتبية الهرمية داخل المجتمع. هذا يعني أن لها نظرة ثاقبة، ورؤية حساسة تجاه المجتمع في تفاعلاته وعلاقاته، بمختلف مكوناته وفئاته، وإزاء كل المحيط الايكولوجي. وهذا ما نلمسه في هذا الكتاب “بالكتابة نتعافى، ناجيات من حرب السودان” الذي أشرفت إشراقة مصطفى على تنسيق وتشبيك لقاءاته، وتفاعلاته بين مجموعة من النساء اللواتي عشن تجربة النزوح والتهجير القسري بسبب القتل والإرهاب والتدمير الهمجي. حيث يهدف أولا الى تطهير النفس والوعي معا. ليس فقط التخفف من عذابات الحرب الشرسة والوحشية التي تم الاعتداء من خلالها على الشعب الأعزل، قتلا وتهجيرا من بيته وأرضه، بلده ووطنه، بل أيضا تطهير الوعي من كل ما علق به من الترهات الثقافية والإعلامية والسياسية الديكتاتورية العسكرية والمليشياوية.
لذلك لم يكن ترفا فكريا، أو حساسية جمالية إبداعية أن تفكر مجموعة من النساء الناجيات من حرب السودان في الكتابة كآلية ووسيلة نفسية تعبيرية قادرة على فتح فوهة بركان، عذابات الهروب والنزوح واللجوء، المفعمة بشتى أنواع الانفعالات الرهيبة، ابتداء من الخوف القاتل للنبض والفكر والحياة، والشعور والنظرة الثاقبة في حسن التفكير والتصرف والفاعلية المثمرة، وصولا الى أسوأ حالات اليأس والخراب النفسي المعنوي الأليم. ومرورا بوضعيات من الرعب المسكونة بعشرات الأسئلة المقلقة تجاه الكثير من التناقضات الاجتماعية والأخلاقية والسياسية، المطموسة التي أخرجتها الحرب الى دائرة الضوء، بين الشعب السوداني الطيب والحاكم المجرم والمليشيات الهمجية الدموية.
هكذا يجد القارئ نفسه متورطا في حمم بركانية حارقة بمعانيها ودلالاتها وأسئلتها وجدلياتها العميقة. حرب من على من؟ بين مسلح وأعزل، الموت والحياة، الاستبداد/المحتل المحلي والحرية والتحرر للإنسان والوطن، الديكتاتورية والديمقراطية، القهر المتوحش والحرية والعدالة والكرامة الإنسانية…
إنها نصوص نابعة من حرقة القلب، وألم الأحلام المسروقة، تحرر الوعي من ثقل الكراهية و العداوات المصطنعة بين أبناء وبنات البلد الواحد. إنها كتابة تنير العقل من أجل وطن عزيز سخي ومضياف وعادل في توزيع السلطة والثروة. والاعتراف اللامشروط بكرامة وقيمة الإنسان الحر المستقل المتعدد في تنوعه اللغوي والاثني والمناطقي والديني…
“في طر يقنا بدت الرنك مدينة صغيرة متواضعة تتزين شوارعها بالقش وصفائح الزنك الكثير من المقرات للمنظمات العالمية والإقليمة، بعضها مألوف لي والبعض الآخر غير مألوف. لم أشعر بأني في خارج السودان أبدا، الجلابية والتوب واللاوي والسكسك وريحة البن وصوت الترانيم يوم الأحد وصوت الأذان وصرخات الشبيبة في ساحات اللعب. لا أنسى ريحة القهوة بالجنزبيل آآه إنه السودان لماذا لم أتعرف عليه كل هذا الوقت! أظن أني قد خدعت من قبل الحدود التي قد رسمت منذ عام 2011 م، لم تكن الرنك في أفضل حالاتها بلا شوارع معبدة أو مطار حديث، كانت حياة الناس بسيطة جدا تصل لدرجة المعاناة، تأتيهم البضائع من السودان لكن بعد الحرب أصبحت تأتي من جوبا وإثيوبيا بالرغم أن أرض الرنك أرض زراعية بامتياز. بدأ عقلي يحلل ويتساءل هل كانت الرنك منسية لكل هذا الوقت، هل من حقي أن أسأل هذا السؤال؟ في الحقيقة كانت منسية قبل استقلال الجنوب الحبيبة وبعدها أيضا، أكان جشع منا أم تهميش أو هو انتقام؟”. 159و160
وهذا العمق الحالم القابع في تجاويف قلب الكتابة الباحثة عن التجدد والولادة من جديد، وهذا الرفض لمعاني الانكسار والهزيمة والانسحاق الوجودي، هو ما جعل من نصوص الكتاب سردية شفافة في أعمق تعبيراتها، وهي تحرر وتتخلص من حمم اللافا المكبوتة في جوف أعماق نساء ناجيات، الى حد ما، من أهوال وبشاعة حرب السودان المتعددة المظاهر والاشكال في القهر والتخلف والعنف السياسي والاقتصادي والاجتماعي والقيمي الإنساني. الشيء الذي جعل الشعب والبلد يتآكل ذاتيا من الداخل في تدمير نفسه بنفسه، استجابة للمصالح الاقتصادية والجيوسياسية الأجنبية. إلى حد أننا إزاء سلطة في صورة محتل داخلي. يعمل بالوكالة على تكريس التخلف والقهر والعبودية والانحطاط الحضاري، خدمة للمصالح الضيقة للفئات الحاكمة وأسيادها الأجانب.
والجميل الى حد التعافي أن الكتابات النسوية في هذا الكتاب تحفر عميقا، و تعري همجية جنون السطو على السلطة والثروة واحتكارهما ليس بأدوات القهر والهدر والتسلط الحقير فقط، بل أيضا من خلال القتل الهمجي والتدمير الأقرب الى الإبادة والتطهير. إننا أمام نصوص لها رؤية تناقض الحرب والتسلط والعنف والإرهاب. لذلك همها الأول أن تتخلص من نزوة الموت واليأس التي حاول زرعها بالقتل والترويع والاغتصاب والتهجير النظام السياسي الأبوي الذكوري وثماره القذرة القاتلة الجنجويد. لهذا حاولت الكاتبات حماية ذواتهن روحا وجسدا وفكرا وأحلاما، من تبعات وتداعيات ونتائج وممارسات الحرب القذرة الدموية التي أنتجها النظام ومليشيات الجنجويد المسمات بالقتل والقهر السريع في علاقتها بالشعب في أحلامه وطموحاته وتطلعاته، وثورته من أجل التغيير والانتقال الإنساني الديمقراطي، أسوة بباقي شعوب العالم الباحثة عن العدالة والكرامة والحرية.
فبقدر ما كانت الكاتبات منخرطات بصدق وشفافية في السرد المؤلم لتجارب عيش ما لا يصدق من الترهيب والقتل والتدمير من طرف من كانوا من المفترض حماية الوطن والشعب من الأعداء، فإنهن قمن بتسليط أشعة الشمس على البشاعات والحقارات والهمجية الدموية الكامنة والمُشكّلة لطبيعة النظام السياسي الحاكم، وما أنتجه من مليشيات التوحش(الجنجويد) المتمرسة على القتل والقهر والقمع السريع، دعما لديكتاتوريته الإجرامية. أنتجها بمحض إرادته، حرصا منه على استفراده واستئثاره بالسلطة والثروة، مع التحكم القهري في البلد والشعب، ووأده التحول والتغيير والتقدم الاجتماعي، والنهوض الاقتصادي والحضاري.
هكذا وجد الشعب نفسه بين إجرام السلطة السياسي والعسكري الدموي، وبين وحوش المليشيات، حيث كل جماعة من هؤلاء تفكر في امتلاك السلطة ولو أدى ذلك الى قتل الناس العزل الأبرياء، وتدمير بيوتهم على منازلهم دون شفقة ولا رحمة. فانتشر القصف العشواني وطالت القنابل المروعة أغلب المنازل والأحياء. فساد الفزع والرعب والإرهاب الصريح. كما عانى الصغار والكبار من هول الصدمة المفاجئة في أن يتحول حماة الوطن والناس الى وحوش شرسة في النيل من أمنهم وأمانهم، وسلامة مدنهم وبيوتهم. واستباحة عرضهم وكرامتهم، وهدر حياتهم. وتحويل حياتهم العادية الى محرقة مرعبة ورهيبة لا خيار فيها إلا النزوح والتهجير والقتل الرخيص تحت أنقاض بيوتهم، أو في الطرقات في العراء.
“الحرب ما تزال مستمرة تحصد الأرواح.. والرصاص (الطائش) الذي يصيب المواطنين في مقتل من قبل جنرالات الحرب مازال يمطر ويسيل الدّم.. المخيف والأكثر خطرا أنّ هنالك العبوات) الألغام (لم تنفجر) غير نشطة (ملقاة هنا وهناك، تشكل خطرا قائما.
أن تكون هنالك حرب قائمة وما تزال مشتعلة، لا يجلس طرفاها إلى طاولة المفاوضات، يجعل أحلام الكثيرين بوطن آمن تتساقط حلما وراء آخر، ويجعل بلدا غنيا بموارده الطبيعية وواعدا بالكثير -كان ولا يزال- فقيرا مسروق الثروات والغد.”. 81
فوجد الشعب نفسه في دائرة الحياة العارية، التي لا يضبطها قانون سياسي اجتماعي، ولا مبادئ وأعراف إنسانية. فقد تلوثت بعض الفئات بعدوى السلطة الفاسدة، وتوحش المليشيات الدموية التي لم تتورع في مهاجمة البيوت وسرقت ممتلكات الناس. و السطو على العربات والسيارات الخاصة، حيث صار الجنجويد يتصرفون بمنطق الغزو والغنيمة والتغلب القهري للإقطاع العسكري، الذي عاشته البشرية في العصور الماضية.
“هؤلاء الذين يسمون أنفسهم الدعم السريع هم في الحقيقة الجنجويد الذين نشروا الرعب والخوف في نفوس المواطنين. لقد أرهبوا النساء بالاعتداء عليهن واغتصابهن دون رحمة أو حياء. تتحدث النساء بكل ألم، وهن يذرفن الدموع، مصُرحات إنهن تعرضن للاعتداء أمام أعين آبائهن وأبنائهن، وأنه لم يرحموا لا الصغير ولا الكبير. لم توقفهم صرخاتهن ولا بكاؤهن، بل استمروا في ممارسة أبشع أنواع العذاب عليهن.123
هكذا في لحظة فجائية في تاريخ الشعب، انكشفت الحقيقة التي كان يتستر عليها منطق قانون النظام السياسي العسكري التسلطي والديكتاتوري، وزبانيته المليشياوية الجنجويدية، إنها. الحقيقة المؤلمة التي خرج ضدها الشعب في ثورته السلمية وتعرض فيها الناس نساء ورجالا للقتل والترهيب والاغتصاب، أمام القيادة العامة. فاتضح للجميع أن السلطة وأزلامها العسكرية الإرهابية مصرة على الوقوف في وجه التحولات الاجتماعية والسياسية، وسيرورة التغيير التي لم تعد تقبل بالدكتاتورية كشكل سياسي للحكم والتدبير والتسيير والتنظيم…
“لا أدري كيف تغير رأيي في الخروج من السودان بهذه السرعة.. نعم أنا ابنة السودان التي كانت تردد دومًا بأنها لن تخرج من الوطن الحبيب، وكيف نخرج وأنا المؤمنة بالتغيير وبقدرتنا على خلق مستقبل جديد للسودان بوجودنا داخله في مؤسساته للعمل فيه بشتى تخصصاتنا ومجالاتنا! نعم وبكل أسف صرت أقول لأسرتي هيا نخرج”. 171
في خضم هذا الصراع السياسي الاجتماعي، دخل محور السلطة في حرب تحصين المواقع بين مكوناته، (الجنجويد والجيش) دون الاكتراث بما يمكن أن ينجم من تداعيات وانعكاسات سلبية قاتلة في حق البلد والناس. ففضل محور السلطة هذا تأزيم الصراع وتحريفه عن مساره الموضوعي في التغيير الديمقراطي. لهذا دخل الطرفان في صراع مسلح، بما يسمح لهما بإعادة إنتاج الواقع السياسي الاجتماعي الذي يستجيب لسطوتهما وتغلبهما وتحكمهما الاستبدادي القهري في البلد والشعب. لذلك وجد المجتمع نفسه، بكل فئاته في قبضة القتلة الذين لا يختلفون في القتل و الظلم والقهر والنهب والاغتصاب والتدمير…
“بعد أشهر قليلة كان لزاما على الأسر الفرار لأماكن أكثر أمانا، فكان الملجأ لولاية الجزيرة وحاضرتها ود مدني.. وكم كان أمانا مؤقتا، ونجاة قصيرة الأجل، إذ قام طرفا النزاع بمهاجمة ود مدني في ولاية الجزيرة وباقي مدنها فأين المفر؟ المليشيا تهاجم المدن والجيش يطاردها والضحايا المواطنون، يقصف الجيش بكل ما أتيح له من وسائل، والضحايا مواطنون.. إنها فنتازيا هذه الحرب العبثية”. 79و80
وفي بضعة أيام قليلة تحولت المدن الى مدن أشباح يسرح فيها ويمرح، ويسرق وينهب الجنجويد ما يراه غنيمة. لم تنج المنازل والمحلات التجارية. وصارت المدن تغرق في الدماء والرعب والظلام، وانعدام الماء والكهرباء والمواد الغذائية. تحولت العاصمة الخرطوم والولايات القريبة منها الى جحيم لا يطاق. وهذا ما عجل بالهروب والنزوح أولا الى المدن الآمنة، لكن سرعان ما عمت الكارثة والمآسي الإنسانية حيث لم تعد هناك مدن آمنة. الشيء الذي شجع الناس، خاصة من لهم إمكانيات مادية للنزوح واللجوء الى البلدان الحدودية. فتحمل السودانيون تعب ومعاناة وعذابات الطرقات و رعب اللصوص وقطاع الطرق، وجشع التجار والأفراد الذين استغلوا هذه العذبات والمآسي، فضاعفوا الأسعار دون شفقة ولا رحمة. وطفا الخبث المجتمعي في العلاقات الاجتماعية.
“عندما وصلنا إلى مدني كانت كأنها مدينة أشباح.. كانت كل المحال مكسرة ومنهوبة.. كل محطات الوقود محترقة، وليس هنالك أية مواد غذائية أو أدو ية.. وكان الجيش يقصف المدينة بالطيران. استحالت الحياة والمعيشة في ودمدني بكلّ هذا الدمار.. هذا الانفلات في كلّ شيء.. قررنا الذهاب إلى مدينة عطبرة، وللذهاب إلى عطبرة علينا الذهاب الى مدينة المناقل أولا ومنها ننطلق. لم تكن هنالك أي مواصلات داخل ودمدني عدا الكارو)، وقد كانت بأسعار خيالية.. لذلك ذهبنا حتى محطة المواصلات مشيا.ً وفي طر يقنا إلى المناقل رأينا كيف كانت المليشيا تسيطر على كل القرى حتى منطقة تدعى (ود ربيعة)، وكان مفاجئا لنا أنّ الجيش كان يسيطر على المنطقة الممتدة من بعد قر ية (ود ربيعة) وإلى المناقل”. 71
تجارب عذابات مؤلمة احتضنتها الكتابة ومنحتها لغة إبداعية تجمع بين الشهادة على الذات والمجتمع والسلطة الغاشمة واللحظة التاريخية، وما اكتنفها من صراعات سياسية اجتماعية اقتصادية. كتابة لا تخلو من قدرة فنية جمالية في توثيق واقع رهيب عاشه السودانيون، كمحرقة تحملها الشعب بنسائه ورجاله، بصغاره وكباره الطاعنين في السن. بأمراضهم ومعاناتهم، وبأفراحهم وأحزانهم. كتابة تؤرخ اللحظات المؤلمة المشحونة بالقهر وآلاف الغصات المحبوسة في تجاويف القلب والدماغ.
” لم تكتف الحرب بقتل الجنود، لكن قتلت أحلامنا وذكرياتنا” 159
تحرر الكتابة هذه المكبوتات الحارقة التي ترسبت في عمق النفس، وتجعل الذات الكاتبة أكثر قوة وصلابة معنويا في الشعور بالقيمة، ليس في عيش اللحظات الجميلة فقط، بل بشكل خاص في تذكر القدرة على الصمود والبقاء والتشبث بالأمل. هكذا تم تسجيل وتوثيق الخيبات والانكسارات والأفراح العابرة والأحزان الجاثمة على القلب. كتابة منحت للكاتبات لحظات جميلة للتعافي وتفجير المكبوت والحمم الحارقة لحرب همجية استوطنت ويلاتها وأهوالها القلوب والأجساد. وحالت بينها وبين الفرح والأمل. معاودة إنتاج التجربة في شكل الكتابة السردية منحها قوة خلاقة في شد القارئ الى ما يجعل من الإنسان معجزة في قدرته على تخطي المحن والعذابات والآلام الممسوسة بالخيبات والمآسي المروعة. هذه هي الجمالية التي ناذرا ما ينتبه لها الانسان في مسار حياته وتجاربه المرة الشاقة والمرهقة للنفس والقلب والجسد. وما يجعلها جميلة أيضا هو تلك القدرة على الصمود والأمل، خاصة وقد صيغت بلغة فنية مفعمة بالأدبية التي تجعل النص كتابة شائقة ساحرة في طياتها الجذابة وشلوخها النابضة بالجمال والقوة والفرح الخلاق.
“أتيت أبحث عن بطاقات اللجوء والمساعدات، وأنا من بلد يمكن أن يكون جنة الأرض”.
أخاف فقدان الثقة واعتبرها حالة حرجة تستدعي التدخل السريع. يجب أن نتعافى سريعا فقد فقدنا الثقة في قادتنا، وأصبحت أخلاق شعبنا غير التي نعرفها، نحتاج الى المواجهة وألا نرمي.
اللوم على غيرنا، ولو لم نكن أرضا خصبة للفساد لما تمكن منا .شعارنا.. )حنبنيهو(، أرضنا باقية، فقط علينا إعادة تأهيل أنفسنا وبناء أجيال واعية، و(حنبنيهو)”. 142و143
ما كان لهذه النصوص أن تكتب إلا من طرف نسويات جميلات وشجاعات في الصمود والتحدي. وعيش الصيرورة بغنى وكثافة وجودية تسمح لهن بتحقيق مشاريعهن الوجودية، في التحرر من عبء المآسي التي أراد النظام وعصاباته التي انقلبت عليه في صراع جهنمي رغبة في السطو على السلطة والثروة والبلد ككل. إنها نصوص جميلة ساحرة في عمقها الإنساني في الاستقلال الجندري عن السطوة والتسلط الاستبدادي الأبوي الذكوري. لذلك لم يكن مقبولا عندهن المساومة ولا ترضيات حراس الأمر الواقع في الثقافة والسياسة والقيم القهرية الأبوية…
“بدأت جولات إقناع أبي لكنها باءت بالفشل. عندها قررت المغادرة رغم الأنباء التي تشير الى خطورةالطر يق: نهب، سرقة، ضرب، وبعض حالات الإغتصاب. قوّبل قراري بالرفض من قبل أبي. لكني أصريت، كنت أعلم جيدا عدم استطاعتي بالصمود طويلا،ً حتما إذا لم تقتلني الطلقة الطايشة، سوف أموت كبتا وحسرة. كنت أتوق الي حياة قضيت الثلاثين من عمري أدفع ثمن تكلفتها، حياة ترتقي بمعني الإنسان، لا تستسلم للقديم البالي ولا تبعية عمياء للحاضر المستحدث. بين مزيج من العقل والروح وحكمة التجارب. لذا كان علي المغادرة وبناء الحياة التي أريد في مكان آخر، كنت مؤمنة أنها ليست النهاية، هنالك حيوات أخري يجب أن تعاش”. 210و211.
_________________________________________________________________________________________________________
“بالكتابة نتعافى، ناجيات من حرب السودان”، نخبة من الكاتبات (الناشر دار المصورات- الطبعة الأولى2025)