متى matta.. شراء الطهارة بالذنوب والرذيلة!

متى matta.. شراء الطهارة بالذنوب والرذيلة!

د. أحمد العلوي 

            ألف متى رواية. كان في أصل امره فيلسوفا يشتغل بفلسفة الإسكندرانيين ومتأخري الفلاسفة. لكنه عزف عن ذلك بسبب عجزه عن وضع نظام تصوري جديد، أو لأن القراء في عهده تعبوا من الخطاب الفلسفي، أو لأن الحكام الرومان كانوا يتوجسون شرا من الفلاسفة، أو لأن الغرض من روايته لا تفي به العبارة الفلسفية الشائعة في تلك العهود وما قبلها. كان الناس في العهد القديم عهد اليونان يشتغلون بوضع التماثيل الرخامية والفكرية. كانوا يتبارون في ذلك بين واضع لنصف أو ربع تمثال وبين واضع لتمثال تام الأطراف. أجادوا في التماثيل الرخامية وحاولوا وضع تماثيل فكرية لم يتفق عليها الناس، ولم تكن ملبية لرغبتهم في حل مشاكلهم الأخلاقية. كانت الفلسفة القديمة تعلم الناس الفضائل التي يصير بها الانسان كاملا، ولم يستطع أحد أن يصير كاملا ولا الفلاسفة الذين ألفوا تلك الفلسفة. غرق الناس في الذنوب والرذائل والأخطاء من فحش جسدي وسرقة أموال عامة، ومن قتل وسباب ومن اغتصاب أو شهوة محرمة بحكم قوانين الكمال، ومن طغيان حكام أصلهم لصوص وزعماء عصابات مجرمة. جن أولئك اللصوص فسرقوا أسماء الرب واستدلوا فادعوا الشرف المؤثل الذي لا يدل عليه دليل. نظر متى إلى ذلك كله ولم يكن مقتنعا بانسداد الأبواب أمام قدرة الإنسان على العودة إلى الكمال بعد فساده. تماثيل الكمال الأخلاقي، وتماثيل الكمال الفني والجسدي، وتماثيل المادة كل ذلك كان يشكل جوهر الفلسفة اليونانية. لكنه لم يكن مستجيبا لمطالب الناس النفسية الباطنية في عهد متى، ولا لرغبته هو شخصيا في التخلص من الذنوب الكثيرة التي اقترفها ولا يجد سبيلا للتخلص منها ولا يرى في الثقافة اليونانية ما يعالج آلامه منها. كانت تلك التماثيل الموروثة عن الثقافة البائدة دليلا إضافيا على السقوط الأخلاقي لقوم متى وللشعوب الاخرى التي عرفها والتي لا يضاهى حالها من جهة الكمال الأخلاقي حال تلك التماثيل. كان يقول: – لا نستطيع أن نعادل تماثيل اليونان والرومان الرخامية جمالا، ولا نستطيع أن نعادل بأفعالنا تماثيلهم الأخلاقية الموصوفة في كتبهم، ولا نستطيع أن نجاريهم في نحت التماثيل التصورية التي تفسر المادة وهم لا يستطيعون ذلك أيضا. رسموا بالحجر ما هم عاجزون عن تمثيله بأنفسهم. إذن نحن وهم ناقصون وينبغي أن نعرف طريقة توصلنا إليهم وتخلع عنا هذا النقص المحيط.

قال له صاحبه يوما: – يا متى. اترك ما أنت فيه فإننا خلقنا كما نحن برذائلنا، ولا تشغل بالك برذائلك ورذائلي ورذائل الناس، فإن الله غفور رحيم. إنه يغفر الخطايا جودا بغير عوض.

قال له متى: – لست مقتنعا أنا وأصحاب لي بعقيدة المغفرة الجودية. لا نتصور أن الله يغفر جودا وكرما بمجرد عودة المذنب إليه معترفا به. هؤلاء الرومان واليونان وحكام مصر وبابل خالفوا أمره وعبدوا غيره وملكوا أنفسهم وعزلوه، فكيف يقبلهم في ملكوته وقد تقدم منهم ما تقدم من رذائل. إن الرذائل لا تمحى بالعودة. هذا الخلاف بيني وبين الكتاب الذي جاء به محمد، الكتاب الذي نقل عنه العبرانيون قصصهم وأخبارهم وتوراتهم وبدلوه تبديلا.

لقد كنت عضوا في جماعة تابعة له، وإن كان متقدما علينا زمنا ثم فارقتها لاعتقادي أن المغفرة لها ثمن لابد أن يؤديه المذنب. لابد للمذنب أن يشتري الطهارة التي فقدها بالذنوب والرذائل.

قال صاحبه: – هل لك ان تفصل لي امر الذنوب والرذائل؟

– هي كل المواقف المخزية التي يقفها الانسان كالكذب الضار بالغير وكالثناء والمديح الموجه لسلطان متربب وكالدخول إلى حزب من اجل غاية واحدة هي الوصول إلى كرسي مع الدوس على حقوق الناس جميعا وحقوق الله وكالتجسس لحساب حاكم جائر وكالدخول إلى جيشه وشرطته وكل الوظائف التي تؤيد سلطانه وكالكذب على الله في الدعوة للظالمين والقول بأنهم احباب الله وأولياؤه. أضف إلى ذلك شهوة الفحش الجسدي والشره والطمع والغش والظلم وكراهية البشر والقتل والكبر والكذب والغضب والحقد وكل ما نجده من اخلاق البهائم. الانسان يجمع بين الفضائل والرذائل فان خلا من الفضائل صار أدنى من البهيمة فان البهيمة لها فضائل من درجتها لا تفارقها.

قال له صاحبه: – ها أنت قلت إن في الإنسان رذائل وفضائل فلماذا تتعب نفسك؟

– لابد للرذائل أن لا تجاوز حدا معلوما ولكن أفضل الحالات أن يخلو من الرذائل كله.

– تريد أن تجعل من البشر قوما كملا كتماثيل اليونان الأخلاقية والجسدية الكاملة في نظرك. ولا بد في نظرك من أن ندفع لله ثمنا لطهارة جديدة إن شئنا أن نعود إلى الكمال وإلا فهو المصير المظلم؟ ما الثمن؟

قال متى مطرقا: – إنني أفكر فيه وقد كتبت رواية تبين الطريقة التي يعيد بها الله الطهارة إلى الإنسان والثمن الذي يطلبه، وكيف يعفى الإنسان من دفعه وكيف يدفعه الله عنه فيكون بائعا ومشتريا ويكون الإنسان مستفيدا.

قال له صاحبه: – إذن فلست من أهل القول بالمغفرة الجودية كمحمد؟

– القائلون بالمغفرة الجودية أصحاب القرآن لا يقولون بالعودة إلى الكمال. المغفرة عندهم مسامحة وتجاوز ورفع لوم. مذهبهم إن الله وحده كامل وإن الناس ناقصون مستغفرون، وإن الله خلقهم ناقصين ليستغفروه، وهو يغفر لهم كلما استغفروه فيكملون ثم ينقصون وتمضى حياتهم بين كمال ونقص، وتلك طبيعتهم عند القائلين بذلك. أما مذهبي فهو البحث عن طرقة لعودة الإنسان إلى الكمال مرة واحدة لا عودة بعدها إلى النقص، وهو أن طبيعة الانسان الكمال وأن من لم يصب درجة الكمال في حياته فالنار موعده.

قال له صاحبه متعجبا من مذهبه القاسي المنافي لحقيقته وحقيقة البشر جميعا: – لكنك يا متى تنتقل من نقص إلى كمال ومن كمال إلى نقص كما يقول أهل القرآن، وإنا ونحن كذلك. فكرك يخالف حالك.

لست كاملا عندهم ولا عند نفسك فكيف تكتب رواية العودة إلى الطهارة وانت ناقص. إنني اعرفك وأعرف خطاياك ومفاحشك فلا تتحذلق علي.

قال متى: – لقد أزعجتني بأسئلتك فهل أنت وصي علي؟ اتركني ولا كتب ما أكتب

– إن الذي شغلك يا متى هو الرغبة في بلوغ ما اعتبرته كمالا في تماثيل اليونان الرخامية والفكرية. لاحظ أن التمثال الرخامي ليس كاملا أخلاقيا وجماليا. لا يقترف إثما ولا رذيلة ولا يعتدى ولا يطمع ولا يفعل شيئا مما تعده رذيلة، ولكنه أيضا لا يرتكب شيئا من الفضائل، من الحسنات. أنت تريد أن تحول الناس إلى تماثيل ولا تدري أن التماثيل أنقص من الإنسان لأنها لا تفعل شيئا.

– أنت إبليس

– بل أنت الإبليس الأكبر. سأتركك الآن.

لم يفصح متى لصاحبه عن مكنون نفسه. كان حقا معجبا بتماثيل الرومان الرخامية البيضاء وبتماثيل اليونان القولية ولكنه كان يرى تناقضا بين ذلك وبين الظلم الذي تمارسه الدولة الرومانية على الشعوب الواقعة تحت سطوتها. كانت هذه الدولة عصابة من الجنود والرؤساء الذين سرقوا من هذه الشعوب حقوقها السياسية وكانوا يمثلون في نظر متى قمة الرذيلة. حين كان يتحدث عن الذنوب وانتشارها في الناس وقصور الناس عن الكمال وضرورة حثهم على طلبه كان يفكر في الرومان الذين نشروا بسياساتهم اخلاق التملق والتسول في الناس جميعا وافقدوهم الكرامة. وزراء الرومان كانوا قوما لا شغل لهم الا كتابة الرسائل في الثناء على الامبراطور وامراء العصابة المسلحة ليبقيهم في مناصبهم. وغيرهم ممن كان يتشوف للوزارة والامارة والرئاسة لم يكن له من شغل الا التسرب إلى مجالس الامبراطور خطيبا في مجالس الانس ليلفت إلى شخصه نظر رئيس العصابة وامرائه. لم يكن متى يرى فرقا بين تلك الرسائل وخطب التسول الشوارعية التي كان يسمعها في مدن الشام والمغرب ومصر وفى روما نفسها من المتسولين الفقراء. لا فرق عنده بين خطاب المتسول وخطاب الوزير الروماني في حضرة الامبراطور. كان كبار الدولة الرومانية في مرآة متى جملة من المتسولين الفاقدين للكرامة. فريق منهم يتسول الامبراطور وفريق آخر يتسول العامة في الطرقات. كان من كبار الرومان من ألف كتبا في اسبقية الامبراطور على كل فلاسفة يونان في الادراك الفلسفي، وفيهم من ألف كتبا في بيان تفوق الامبراطور على كبار مسرحي اليونان من سوفوكليس إلى غيره، وكان فيهم من جعله اعلى قدما من هوميروس في الشعر والملحمة، وكثر الكتاب المتسولون حتى كان منهم من كتب عن تفوق الامبراطور على جميع النحاة في النظريات اللغوية وعلى كل الرياضيين منذ اسبرطة إلى عهده، ومضت بهم سنة الكذب إلى تفضيله على الخلق اجمعين من تقدمه ومن تأخر عنه. كان متى يرى ذلك وهو عضو في جمعية المغفرة الجودية السرية قبل انشقاقه عنها. كان حجم الرذيلة التي حملت إلى قمم المجد والسلطة كبار المتسولين كبيرا. صعلوك من الرومان يؤلف عصابة او يدخل إلى عضويتها صغيرا ويتدرب على فنون القتل ثم يقفز على السلطة بتأييد من ندمائه وشركائه فيها ثم يصير ربا في قول الكذابين المتسولين ثم يفرض على الناس قوانين تخلد بؤسهم تحت سيفه وسيف عصابته ثم يسرق اموالهم وحقوقهم ثم يبدل لغتهم فيطلق على نفسه الاسماء الحسنى. صار متى يتساءل:  – هذه رذائل لم يكن الله ليغفرها جودا. لا مكان للجود في حال جرائم من هذا الحجم. لا اظن انه يغفرها او ان التوبة تمسحها.

هذه الاسئلة واجوبتها ابعدت متى عن الجماعة الجودية السرية التي كانت تعلن في اجتماعاتها ان الامبراطور الروماني ومن معه من انصاره الفساق وعامة الشعب الروماني المذنب ليسوا مبعدين عن المغفرة ضربة لازب ان عادوا إلى الصواب، فان عادوا غفر الله لهم جودا ولم يقبض منهم ثمنا ولم يكن ليدخلهم النار وهم على الحق الذي عادوا اليه. كان متى يرى بعد خروجه الجماعة الجودية ان مآل الامبراطور الروماني ومن معه النار سواء عادوا إلى الحق ام نكلوا عنه. وكان يستدل وهو يستعد للخروج من الجماعة بالإضرار التي الحقها الامبراطور بعقول الناس واجسادهم واولادهم وحقوقهم كلها. لكنه لم يكن يستطيع ردا على صاحبه من الجماعة ابى الحسن الذي قال له: – يا متى. إنك تدعى ان الامبراطور وعصابته لم يستشيروا الناس في امر حكومتهم وانهم غصبوا الناس حقوقهم السياسية والمالية وبدلوا لغتهم. هذا نتفق عليه. لكنك تضيف ان الله لا يغفر لهم ان عادوا إلى الحق. وهذا ما لا نتفق عليه. ألا ترى اننا لو اتبعناك فيه لكان معناه ان رب العالمين يعادى اهل الحق فان العائد إلى الحق كالمقيم فيه الذي لم يغادره. انتبه يا متى. ان المغفرة والمسامحة الالاهية عطاء بلا عوض وجود بلا ثمن.

قال له متى: – استمع يا ابا الحسن. ان هؤلاء الاباطرة – هذا الذي يستعبد الناس اليوم والذين من قبله- كلهم جعلوا أنفسهم مع الخالق شركاء بل وضعوا أنفسهم مالكين للرقاب وللأرض ومعبودين وهذا امر يستوجب العقاب

قال ابو الحسن: – هذا لا نختلف فيه. مآلهم النار إن أصروا ان الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. لكن الله يغفر للمشرك العائد إلى الصواب. انت تزعم انه لا يغفر للمشرك لمجرد شركه سواء عاد إلى الصواب ام لم يعد. هذا لا يقبل.

قال متى: – لأن الضرر حاصل والجريمة حادثة، فلابد لها من عقاب سواء ندم مقترفها ام لم يندم. الا ترى ان القاتل قاتل في كل الاحوال سواء ندم وتاب ام لم يتب

قال أبو الحسن: – لا تقس ما لا يقاس فإنما ضل الناس بالقياس الفاسد. القاتل قاتل ولا قدرة له على احياء القتيل وعقابه في قوانين الإنسان   بالقصاص أي العوض. اما المشرك الذي يجعل مع الله معبودا وربا ومالكا ثم ينكر ذلك الجعل فانه يمحو بذلك الانكار كل ما جعل من قبل. القاتل لا يستطيع ان يمحو القتل اما التائب فهو الماحي الذي يمحو بعودته إلى الحق ما أثبته قبل العودة. يمحو ما اثبت ويثبت ما محا فيكون كالذي لم يقترف ذنب الاعتداء على الناس فهم حرمات الله وعلى المنطق فهو حدود الله.

قال متى: – فانت ترى ان الامبراطور ان عاد هو ومن معه إلى الصواب واعادوا إلى الناس حقوقهم صاروا من اهل الحق واستحقوا ولاية الله. وهذه الاضرار المنتشرة في الارض وهذا البؤس الذي هم سببه وهذه الدماء التي اراقوها من طنجة إلى إيران ما قولك فيها؟ وهذه السرقات؟

قال أبو الحسن: – إن الذي يعود إلى الصواب من أهل الجرائم يؤدى ما عليه ويؤخذ من حسناته إن كانت له حسنات، أو يؤخذ من سيئات مظلوميه إن كانت لهم سيئات. والناس كلهم خطاؤون، الامبراطور والظالمون من حاشيته والمظلومون من الشعوب الواقعة تحت سطوته. الأرض منفى الظالمين. لا تنس يا متى أن الناس جاؤوا إلى هذا العالم بعد أن شكوا في الله وتآمروا عليه متحالفين مع إبليس. حذرهم منه وأمرهم بقتله حين يلقونه، فلما لقوه حالفوه وعقدوا معه عهدا لقتل الله، ثم كذبوا وادعوا أنهم قتلوه. الأغبياء التعساء؟؟ كأن الله شيء من أشياء العالم، وكأن ليس عليهم إلا البحث عنه وقتله، وكأن ذلك يصفى لهم الجو. الناس مجرمون وإجرامهم أسقطهم في هذا العالم وفي الامبراطور وفسقه وظلمه. هذا عالم المنفيين الظالمين. الكل ظالم في الأصل. الكل مسيء. الامبراطور والشعب ولا دواء للإساءة إلا المغفرة الجودية. هذا مذهب الجماعة الجودية. ارجع يا متى إلى الصواب فإنك إن لم تقترف جرائم كالتي اقترفها الامبراطور فإنك مقدم على اقتراف جرائم من درجتها بل وأخبث منها بروايتك عن رجل يدفع ثمن ذنوب الناس بدمه كما أخبرتني.

قال متى: – كيف؟ أخبث منها؟ ماهي؟

– تفارق جماعتنا القائلة بالمغفرة الجودية وبالنقص العام للبشر وبمسح التوبة للخطايا بالجود الإلاهي. ألست تفارق جماعتنا في هذا؟ أنت إذن تقول بعجز الله عن الإحسان والتجاوز عن الخطايا، وتسوى بين المصر على استلاب حقوق الناس والكذب على الله وسرقة أسمائه، وبين التائب المعترف بإنسانيته ومخلوقيته وعباديته ونقصه، المنكر لأفعاله الماضية وجرائمه الغابرة ولما وراءها من اعتقادات. وإن فعلت وسويت خرجت من المنطق وفعلت مثل ما فعل الامبراطور وصحبه. ألا ترى إنهم لم يؤتوا إلا من جهة فقدان المنطق إذ سووا بين المختلفين وفرقوا بين المترادفين فلم يجدوا لأنفسهم غافرا فأصروا على الفسق؟

قال متى منهيا الحديث مع أبى الحسن الذي جاءه واعظا وداعيا إلى العودة إلى الصواب: – لا أستطيع يا أبا الحسن أن أعتقد أن الله يستطيع أن يسامح الامبراطور والظلمة الذين يعينونه أن تابوا ولو صدقا. إن جرائمهم عظيمة. أنظر إلى القتلى الذين يقتلون وإلى الأفواه التي يمزقون، وإلى الطرق التي يقطعون، وإلى الضيعات التي يغتصبون، وإلى الضرائب التي يفرضون، وإلى الأموال العامة التي يفرقون على أهليهم وأعوانهم، وإلى هذه الجحيم التي يصنعون. لا أستطيع أن أصدق من يقول لي إن الله يغفر لهم إن أنكروا ما صنعوا أو يصنعون وعادوا إلى سواء السبيل. إن الله لا يستطيع إلا أن يقذف بهم إلى الجحيم ولو عادوا مخلصين إلى طاعته. لن يلقي بالا لطاعتهم وسيؤاخذهم بجرائمهم ولن يسامحهم. لا تنفعهم توبة إلا بالأداء. وعندي قصة الأداء وسأكتبها. لا يستطيع أحد من الظالمين الرومان ومن قبلهم أن يؤدي الثمن. ثمن جرائمه. لماذا؟ لأن الثمن عظيم وأعظم من كل الأموال التي كنزوا أو يكنزون. لا تنفعهم توبة إلا بالأداء، ولا يستطيعون أداء، إذن لابد لهم من مخلص قادر على الأداء نيابة عنهم. روايتي عن ذلك الشافع المخلص.

قال أبو الحسن: – إذن سأخبر الإخوة بأنك خرجت من جماعتنا، وإنك تقول بعجز الله عن المغفرة الجودية، وبأن العودة الصادقة إلى الحق لا تجعل العائد من أهل الحق. لقد كفرت يا متى دون أن تشعر.

– قل لهم أيضا إن العودة الصادقة لو كانت تجعل العائد من أهل الحق لجاز لكل ظالم أن يظلم ما شاء ثم يعود إلى الحق وهذا معناه تشجيع الظالمين على الظلم ما داموا يعلمون أن باب العودة مفتوح.

– سأقول لهم هذا. ولكن سأقول لهم أيضا إن منطقك ينقلب عليك إذ يجوز للمجرمين الذين يتبعونك أن يجرموا ما شاءوا ومتى شاءوا ومثلما يشاؤون مطمئنين مبتهجين إذ يعلمون أن لهم مخلصا يدفع نيابة عنهم ثمن جرائمهم ، وأقول لهم أيضا إنك تعتقد أن في الظلم والخروج عن المنطق باغتصاب حقوق النفس وحقوق الناس والافتراء على الله وسرقة الأسماء الحسنى وطلب الكمال الإلاهي، أو ادعاء الوصول إليه لذة عظمى، وأن العودة إلى الحق بعد الضلال فيها مفارقة لتلك اللذة، وإن القول بأن التوبة والعودة إلى الحق تمسح الذنوب فيه تشجيع للناس على الخروج من شقاء الصواب إلى سعادة الضلال . أنت ضال يا مطية. العودة إلى الحق هي عودة إلى اللذة والسلامة والعائد إليه لا يخرج منه بعد عودته لأن الخروج منه خروج إلى الرهق، ولأن الخروج منه خروج عن الطبيعة، لأن الحق والطبيعة شيء واحد. الامبراطور وأعوانه معذبون بالجرائم التي يقترفون وليسوا سعداء بذلك، فإن علمتهم القول بأنهم لا يقبل منهم خروج من عذاب الذنب، وأنهم سيعذبون فضلوا البقاء في عذابهم الذي يعرفونه على عذاب مستقبل يخشونه وكرهوا الإيمان بالرحمن الرحيم. ألا ترى إنك حين تنسب إلى الرحمن نية الانتقام من المذنبين الذين لم يؤدوا ثمن ذنوبهم تخرجه من الرحمة وتحوله إلى شيطان؟ ألا ترى أن الرحمن لا يكون رحمانا إلا إن جاد بالمغفرة وعفا عن المذنبين بدون عوض ولا ثمن ولا مقابل؟ الامبراطور ومن معه من أعوان وشعب ليسوا سعداء ولو وجدوا السبيل إلى الصواب لما أجرموا، وهم لا يجدون السبيل لأنهم يعتقدون مثلك أن التوبة لا فائدة منها، وأن المغفرة لها ثمن لا قدرة لأحد عليه. تعتقد يا مطية أنهم سعداء، وأن عودتهم إلى الحق تحرمهم من السعادة، وأن الله يعاقبهم على سعادتهم؟ لا إنما يعاقبهم الله، على اختيارهم الشقاء لأنفسهم وللناس، بذلك الاختيار نفسه فإن تركوا ذلك الاختيار ترك عقابهم لأنه لا فرق بين الاختيار الذي اختاروه وبين العقاب.

قال متى: – سأكتب رواية تبطل الاشكال. أنتم تقولون ان الله يغفر الذنوب جودا للعائدين وانا اقول لابد من دفع ثمن الطهارة الجديدة واقول ان المجرمين عاجزون عن الدفع وان الله يدفع عنهم الثمن. أخبر الجماعة أنى مفارقهم.

كتب الرواية وقص فيها عن رجل شاب تجسد الرب فيه ليموت فيه ويفدي البشر والامبراطور واعوانه بموته، ليفدي البشر بنفسه لنفسه. انتشرت في الناس ووصل الخبر إلى أبي الحسن وقرأها رجال جماعته ونساؤها واستنكروا ما فيها من بيع وشراء وتعويض كانوا ينزهون الرب عنه، ووصل خبرها إلى الامبراطور. وانكب الناس بعد ذلك على قراءتها وكانوا مدركين أصلها التخيلي وأنها مجرد حكاية. ثم رأى فيها الامبراطور وجها من الدواء. كان مثقل القلب بأوجاع الخطايا التي ارتكب من قتل وسرقة خراج واغتصاب واستيلاء على حقوق وسرقة أسماء الرب،فتمنى أن تكون حكاية متى حقا لا خيالا، إذ بها يتم له الشفاء ويتخلص من أوزار أعماله التي كان يستنكرها في سره، ثم تحولت الأمنية إلى رغبة يحققها السلطان والقهر والإمرة، فسير في أقاليمه سفراء يأمرون عماله بإنشاء ما سماه ببيوت الله، وأمر أن تقرأ على الناس أخبار الرجل الإلاهي الذي حل فيه الرب وتجسد ومات على الخشبة صليبا، أداء لثمن خطايا البشر واستدرارا للمسامحة والمغفرة الإلاهية. ثم بعث في البلاد أمراء شرطته يجمعون نسخ رواية متى، فجمعت، وتوعد بالثبور وعظائم الأمور من يحتفظ لنفسه بنسخة منها، وأمر بأن توضع النسخ في أيدي كهنة يعلمونها للناس كما يعلم الخبر الحق الذي حدث وكا . ثم بحث عن متى ليجزيه أجره وليأمره بتعريف روايته للناس على محمل الحقيقة التاريخية، فعلم أنه هلك ومات في سجنه متهما بالخروج عن دين الامبراطور. وتحولت الرواية بعد ذلك كما تقدم بأمر الامبراطور إلى تاريخ وحوادث يعلمها جيل لجيل.

أما قصة مقتل متى في سجنه فإن الامبراطور كان قبل انقلابه إلى مذهب متى قائلا باجتماع المغفرة والرحمة في يديه وانه يذنب ويغفر لنفسه كما يغفر ويعاقب الناس بحسب ما يبدو له. لكن لما نشر متى نسخ روايته وجد فيها الكهنة والامراء، في الاقليم الذي كان لجأ اليه بعد مفارقته اهل الكتاب وكبيرهم ابي الحسن، اقليم فاس من افريقية القصوى، تعديا على منزلة الامبراطور: لقد جعل الرب يتجسد في رجل نكرة وأبطل رتبة الامبراطور الذي كان اولى في نظرهم ونظر نفسه قبل انقلابه بشرف التجسد الالاهي. دخل جنودهم عليه في بيته بفاس وقتلوه. ولما علم الامبراطور ذلك كما تقدم بكى واستعبر ثم بعث من يأتيه بجنازة متى فدفنه قريبا منه في رومة. وقبل اعذار قتلته اذ كانوا يعملون بمذهبه الاول. أما جماعة المغفرة الجودية فكان بلهم كتاب الاهي استخرجه رجل عالم مرضي السجايا، جامع لمراتب الكمال الإنساني، نادر في صنفه، منقطع النظير، فتوارثوا ذلك الكتاب جيلا بعد جيل، إلى عيد أبي الحسن معاصر متى، مع الاستتار عن العامة وحكامهم، والابتعاد بكتابهم إلى بلاد العرب. وكان كتابهم عربي اللسان، جامعا للأسرار، محيطا بالمعرفة. وظل ذلك الكتاب على تلك الحال حتى وقع بعد قرون في ايدي العامة، وكان له بعد ذلك قصة أخرى.

مونتريال

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. أحمد العلوي

أكاديمي مغربي، أستاذ اللسانيات بكليات فاس والرباط وبني ملال وعمان٬ أثرى الساحة الثقافية في العالم العربي بأعمال علمية رصينة وأسهم في تجديد البحث اللغوي العربي وتأسيس مدرسة لغوية مغربية جديدة.