نجوم في مستنقع التفاهة!
![نجوم في مستنقع التفاهة!](https://assoual.com/wp-content/uploads/2025/02/dans-le-marais-de-la-trivialite.jpg)
عبد العلي جدوبي
أدى الانتشار المهول والسريع الذي وفرته وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة خلال السنوات الأخيرة إلى ظهور جيل من التافهين الذين أصبحوا يتصدرون المشهد حتى غدت التفاهة مهنة لمن لا مهنة له، وأصبح حضور التافهين متلازما في العديد من وسائل التواصل الاجتماعي وعبر الاذاعات الخاصة وفي بعض برامج التلفزيون..
كل الوجوه التي تلهث وراء الحصول على المال، تتعامل مع العليل والمعتوه والأحمق المتشرد وأصحاب القصص البوليسية الإجرامية، وأشباه الفنانين والسياسيين، وأشباه المثقفين وضحايا الهدر المدرسي وبائعات الهوى.. الكل يدعي المعرفة بينما المعرفه في الحقيقة تبدأ بالاعتراف بالجهل، أو كما قال سقراط: (كل ما اعرف انني لا اعرف شيئا).
لكن لا يمكن ان نحارب ظاهرة الجهل دون محاربة الجهل نفسه..
لقد اتسع حضور التافهين بيننا، حتى بات هذا الحضور يلامس كل شيء يخص حياتنا بصورة مباشرة، أو غير مباشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وأصبح هؤلاء التافهين يسيطرون على مجالات السياسة والثقافة والفنون والرياضة، وعلى ما يقدم عبر التلفزيون إلى أن أصبح القبح والرداءة يحضيان بالتصفيقات وبتكريم التافهين!!
يقول الكاتب النمساوي كارل كراوس: هوت شمس التفاهة أرضا حتى أصبح الاقزام انفسهم يظهرون بمظهر العمالقة ..
صحيح أن إلتفاف الجماهير الواسع حول الخرافي واللاهي والتافه والغرائبي والمسلي له تاريخه مقابل ضآلة ظهور الجاد والعقلاني والملتزم، بفعل أو قول، بعد سيطرة الوصوليين من صناع التفاهة.. ويشير المفكر الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه (سيكولوجيه الجماهير): إلى ان غالبيه المتلقين ينفرون من العقلاني والجدي والصادق وينجذبون بشدة إلى التافه والغرائب والفوضوي..
ابن الجوزي الذي عاش في القرن السادس الهجري في كتابه (تلبيس إبليس) تحدث عن القصاص وعن غرائبهم التي تجذب بتفاهتها وتهافتها الناس ويكون الالتفاف والاهتمام عليهم شديدا بحجم قوة صناعة التفاهة المقدمة إليهم، وقد امتدت التفاهة وحضور التافهين إلى عصرنا الحديث وعرف الجميع أن صفحة فضائحية في جريدة تحظى دائما بأضعاف ما يمكن أن يحظى به مقال تحليلي جيد أو تحقيق صحفي ميداني في الجريدة نفسها..
والملاحظ أن التفاهة تتسع كل يوم، وتوسع دائرة المتتبعين الذين هم قوى مادية ومعنوية، وبالتالي سيفرض “قانون التفاهة” على الجميع لأنه أشد تاثيرا حتى على أولئك الذين يظنون أنهم يبتعدون عن آثاره المدمرة، بل حتى اولئك الذين يظنون أنهم يحاربونه ويخضعون لهذا “القانون” من حيث لا يشعرون كل ذلك يعطينا مؤشرا خطيرا بأن هناك حالة من انزلاق فكري وأخلاقي هائل، وتآكل في الوازع الاخلاقي لدى التافهين ومن يشجعهم على ذلك، ويفتح لهم أبواب الشهرة.
لقد اصبح صناع التفاهة قوة ضاربة في مجتمعنا يحاربون بشراشة مقومات المجتمع، يفتكون بالفكر والابداع وينشرون الرذيلة والسفاهة والنذالة، مما قد يؤثر على العلاقات الأسرية بالخصوص وعلى مجتمعنا بصفة عامة، وينتهكون خصوصية الأفراد، وينشرون الشائعات ويظللون الناس بأخبار زائفة بدافع كسب المال، وهي سلبيات تعمل على تحويل اهتمام الراي العام من قضاياه الأساسية ومن إشغالاته، وجعله منحصرا فيما يقدم إليه، منعزلا في دائرة ضيقة..
فالنجم اليوم في شبكات التواصل الاجتماعي ليس المفكر أو المخترع أو الكاتب، أو الصحافي الملتزم، وليس المثقف أو الفنان الحقيقي، بل هو الجاهل التافه الذي كلما زاد تفاهته زادت نجوميته بحكم قانون سوق الإعلانات التجارية الذي يعتمد زيادة الارباح بفعل عملية زيادة التفاهة على كل المستويات والأصعدة.