في غياب سيد الصمت

صدوق نورالدين
… وفي لحظة فارق سيد الصمت كتاب الحياة. لم يكن أحد من الذين دأبوا مجالسة صمته يعتقد بأن الغياب سيطول المكان. وبأن الأستاذ الفنان انخطف المساء القاسي اللاسع الحدة. لم يتعب الراحل بوشعيب خلوق أحدا. ولم يدون صفحات الألم والتعب والعياء القاتل، وإنما ظل حريصا على أن يكون في مواعيده، على سيجارته، قهوته، جريدته أو مجلته.
كان في جلسته، جلساته يفيد ويمتع. ولأنه امتلك ذاكرة ظل يشحذها، فإن لا شيء مما يمثل المدينة ينفلت، بل إن آزمور بأبجدياتها القديمة الحديثة اختارت الإقامة في جسده، غدت جزءا منه، وأصبح جزءا منها فلا سبيل إلى مهرب أو عزلة أو حلم بمكان يعوض المكان. وإنما الأمكنة بساكنيها.
لم يكن سيد الصمت كائنا عاديا. وإنما الكائن الذي مرن وروض الخيال على صداقته. وحتى يفيه دأب ابتكار عزلته. لا يرى إلا وحيدا يوقع الخطو على لسان شارع محمد الخامس، حيث خبرت الزوايا، المحلات التجارية، الأسواق، باعة الجرائد أناقته التي لا تخطئها العين، وظل يحافظ عليها إلى أن اختطفه الموت في موعده. كان يعي تمام الوعي بأن صباحات وعصريات الأزموري الأصيل تفرض عليه أن يكون ممثلا لذاته قبل أن يمثل أمام الذين تلبسهم شغف الجلوس والإنصات إلى صمته. ألم يكن في/ وعلى امتداد حياته يرتب مقاييس القول بالدقة المطلوبة. هذه انتهت إليه من شخص المربي الذي علمنا أن التمييز يظل حاضرا بين واقعين: التكوين، وواقع الكائن في الحياة. ولو أنا سألنا الشاعر ابن حمديس عنه لأجاب بأن جيل الخمسينيات وما بعد، صحا من سهوه على يديه. فسيد الصمت، سيد جيل تتلمذ عليه وتكون ليفرض شخصيته في فضاءات الحياة برمتها. وبذكر التكوين، لا أغفل عن رجالات التربية في هذه المدينة ممن يجدر كتابة تاريخ عبورهم حيث عرفتهم وتربيت على أيديهم من السادة الأساتذة سواء في مرحلة الابتدائي أو الإعدادي: عبد الحي شكيب، بن عيسى البيضاوي، والسيدة فاطمة أوشملال (زوجة بوشعيب خلوق)، عبد الهادي المهندس، وإلى أحمد بنهيمة وخديجة كمال، عبد الله البيدوري، الأندلسي، السي إبراهيم والرحالي وغيرهم ممن يغيب عن الذاكرة لحظة الكتابة علما بأن من هؤلاء من وفد على المدينة كمدرس وغادرها في زمن مبكر، ومن رتب إيقاع الإقامة الأبدية إلى اليوم.
حرص سيد الصمت على أن تمتد صداقته والخيال. إذ كتب ميثاق الإبداع الفني منذ بدايات التكوين الذي جمعه إلى من حملوا اسم آزمور صخرة على ظهورهم دون أن تنزلق أو تسقط. يحكي في جلسة من تلك التي ربطتني به منذ المنذ، بأنه إلى بوشعيب هبولي، التيجاني الشريكي والراحل محمد القاسمي تشربوا أبجديات التشكيل على يد “مدام برودسكيز”. من هنا نشأ الولع، ولع الإبداع الفني الجمالي الدائم، لولا أن سيد الصمت لم يتح للفنان الذي حمله إمكانية إعلان الذات، على العكس ممن ركبوا وإياه القطار. كان اختار عزلة الإبداع القاسية فلم يول مهمة إقامة معرض فردي شخصي يحمل اسمه مثلما لم يتأت لجهة التفضل بدعوته للكشف عن تجليات إبداعه. وقد يحدث، أن بعض لوحاته وجدت طريقها في معارض محلية. ولعل المفارقة المريرة أن لا أحد من ناكري الجميل تطوع لأخذ صور للوحاته (حتى صورة شخصية له تليق بالمقام لم أعثر عليها) أو ضمها في ألبوم كما حدث ومن لا يملكون رؤيته الفنية الرفيعة. وحده الأستاذ والمفكر عبد الله العروي من يملك/ امتلك بعض النماذج التي أهداها له.
أترى يظل الفنان غريبا حتى في مدينته؟
كان سيد الصمت فنانا، وقارئا لجنس الرواية. القارئ الذي يحدس بذوقه ومن خلال مرجعياته ما الذي يمكنه ممارسة فعل القراءة عليه. وأذكر، أنه حدثني عن روائيه المفضل “إرنست همنجواي”. قال بأنه يحوز معظم أعماله. وكما تحدث عنه، أشار إلى روايتي “الغربة” و”اليتيم”، إلى كونه يلملم مراجع عن الأستاذ عبد الله العروي. لكن من يمكنه صيانة الإرث الذهبي؟
فارق سيد الصمت، وإلى الأبد. من قبل، غابت حارسة الأختام، قارئة تفاصيل الحياة، ما يلزمها وليس، والساهرة على أبجديات الأشياء التي انتقتها بعناية لثؤثت المكان تنتج معناه/معناها هي بالذات، ومعناه في عزلته القاسية. كل الأشياء التي داوم بث الحياة فيها، وداومت، تعيش قسوة اليتم المرير. فلن يعرف البيت غزل خطواته. ولن تهجس الزوايا بأحلامها أيها سيقصد ليجلس يتابع إيقاع الحياة. أرى علبة السجائر تبحث عن أصابعه، كأس البن قبل أن يهوي في الابتراد يترقبه والجريدة، جريدته اليومية التي ابتدأ فك لغتها ولم يتم لما دخل في غفوة. قال، هو المساء سيأتي وأتمم ما تبقى. إلا أن تلويحة المساء رسمت لوحة الوداع الأخيرة.
يا سيد الصمت: لكم أوجعني غيابك.