لماذا نظرية الترجمة؟

سعيد بوخليط
يشير، أولا و أخيرا، سؤال نظرية الترجمة، سواء إلى استناد المترجِمِ على نظرية معرفية ترشد عمله وتوجِّه سعيه، أو عدم اكتراثه بضرورة تقيُّده بنظرية معينة أو نظريات، ويشتغل فقط من باب الشَّغف والحبِّ والرغبة والمتعة، مدرجا مبدئيا تمرين الترجمة ضمن غبطة هواجسه القرائية، بحيث يظلُّ السعي نفسه؛ لذلك يترجِم مثلما يقرأ.
أيضا، يبرز سياق الإشكال المطروح، قضيتي الترجمة والتكوين المهني والتأهيل المؤسَّساتي الخاضع لمعايير أكاديمية صرفة، ثم المترجِم العصامي الذي ولج عوالم الترجمة ربما صدفة؛ دون قرار مسبق. كما، أنَّ معرفته بما يفعل مستندة على عفوية الرغبة، بالتالي تبلور أسئلة حول الترجمة ضمن تباينات مرجعيات الفنِّ، الحرفة، الممارسة، الموهبة، الشغف، النظرية، الخبرة، الصياغة، الممارسة التجريبية، تقوية الأدوات المعرفية، المهارات التأويلية، و أخيرا حدود الأمانة والخيانة.
استفسارات تنطوي عليها مختلف سياقات الترجمة، وتلزِم ضمنيا المترجِمِ كي يبدي وجهة نظره بخصوص حضورها ضمن ورشاته، مما يفرض عليه استلهام نظرية لعمله، بالعودة طبعا إلى تراث التَّرجمة كي يدرس ويتعلَّم، ويمكنه في الآن ذاته، مع تطوير خبراته وتراكم اجتهاداته ونضج تصوُّره، طرح مفهومه الخاص حول صيغ تحقُّق هذا الانتقال اللغوي من نصٍّ إلى آخر؟ وكيف يعيش شخصيا تجربة الترحال تلك؟ لذلك، بوسعه في خضم الاهتمام باستراتجيات الترجمة وفعلية التجربة، استعادة المتن النظري المهم الذي راكمته نظريات الترجمة أكاديميا بحيث قاربت الجوانب اللغوية والأسلوبية والتفسيرية والسيميائية والوظيفية والتأويلية والتداولية، فجاءت تلك النظريات كي تنعت بواحدة من هاته النعوت بناء على طبيعة منظورها للنصِّ الهدف أو المترجَمِ.
جوهرية استحضار هذا الجانب المفهومي، كمرشد للعمل، قصد تذليل مجموعة صعوبات تعترض حتما طريقة الترجمة، تتعلق بجدليات البنية النحوية والدلالية والمقامية والقارئ والمعنى والتواصل. مع ذلك، تظلّ علاقة الشغف بين المترجِمِ والنص، السَّند الأول والأخير قصد تحقيق الانجاز وفق الشروط المعرفية والأخلاقية المقصودة وهزم مختلف العوائق الموضوعية والذاتية، ومدى قدرته أو إخفاقه على مستوى خلق جسور الألفة بين المصدر والنسخة، ثم السَّعي صوب إحداث نفس الأثر الذي خلقه النص الأصلي، أو كما أوضح أحدهم نجاحه في إعفاء القارئ من العودة إلى النص الأول، مهمَّة تبدو خالدة أكثر خلال الحالات التي تفترض ندرة تداول الكتاب الأصلي لأسباب معينة، وكذا صعوبة بلوغه وتجاوز التناقض الحتمي القائم دائما، بين مقتضيات الأمانة والصياغة الجديدة تبعا لمقتضيات اللغة الثانية أو المستهدفة.
الترجمة أسبق من أيِّ نظريات حول الترجمة، التي يفترض أنها اجتازت ثلاثة مراحل هي: المرحلة السابقة عن تشكُّل علم اللسانيات مع فرديناند دي سوسور، بحيث استلهمت آنذاك تأويلات فقه اللغة وكذا الأطروحات الفلسفية. ثم المرحلة الثانية الموصولة بسياق توطيد علم اللسانيات بكل خلفياتها المعرفية العلمية الذي انتقل بالدراسة اللغوية إلى التصور الوضعي، مما فتح آفاقا لم تتوقف غاية اليوم أمام علم النص، كما عكستها جيدا المرحلة الثالثة التي ابتدأت منذ سبعينات القرن العشرين.
نظريات أخذت تفاصيل متشعِّبة،ضمن تراكمات بحثية من خلال عناوين الاتجاهات الكبرى وهي:
*النظرية اللغوية: ينطلق أصحابها من فرضية أساسية، مفادها أنَّ المعطى الأساسي للنص يكمن في حضور الكلمات. النصّ، وحدة ذات بعد واحد ترسم نسيجه كلمات حسب تراكيب معينة، فالكلمات بمثابة المادة الموضوعية وينبغي انكباب مجهود المترجِمِ، أولا وأخيرا، على ترجمة الكلمات، وتبادل المفردات بين اللغات، واستبدال الوحدات اللغوية للنصّ بكلمات مماثلة دون الاهتمام بالسياق والدلالة. الترجمة عملية لغوية في الأساس، يترجم الكلمات فقط، وتركيزه على هذه الكلمات باعتبارها المادة الموضوعية الوحيدة التي يمتلكها المترجِمِ.
*النظرية الأسلوبية: أكَّد دعاة هذه النظرية بخصوص الترجمة، على ضرورة إحاطة المترجِمِ بالأساليب اللغوية وآليات التعبير مما يتيح إمكانية استيعاب كيفية التحول بالأسلوب اللغوي من نصٍّ نحو آخر، ومعه الشعور بالمعنى والمشاعر المرتبطة بالنص الأصلي.
*النظرية التأويلية: تأسَّست هذه النظرية داخل فضاء المدرسة العليا للترجمة والمترجمين في باريس، بزعامة ”ماريان لوديرار” و”دانيكا سيليسكوفيتش”. تتحدَّد خطوات المترجِمِ في الفهم ثم إعادة الصياغة وفق أسلوب يلائم مضمون نصّ اللغة الثانية. ينقل معنى النصّ حسب إدراكه وقد حرَّره من ألفاظه الأصلية وأوجد له معادلات جديدة. تمرُّ عملية الترجمة عبر ثلاثة مراحل جوهرية، ترتبط الأولى بإدراك المعنى اللغوي للنص الأصلي، وبعدها إظهار المترجِمِ لممكنات قدرته على التحرُّر من سلطة ذلك المعنى، أي ما يمثِّل الخطوة الثانية، منتهيا في المرحلة الأخيرة إلى إعادة التعبير عن ذلك المعنى بلغة جديدة.
*النظرية السيميائية: ينصبُّ اهتمامها الأساسي على الرموز وإحالاتها والمجازية، التي تنزاح عن معطياتها الواقعية المألوفة. استلهام المترجم للتأويل السيميائي، يمنحه القدرة على الإحاطة بمستوى الرموز والإشارات في النصِّ الأصلي، تفكيك شفراتها بالتركيز على العلاقة بين الرموز والمعاني، وإعادة تأويلها بطريقة تعبِّر عن المعنى المأمول، بكيفية تتناسب مع أجواء النص الجديد.
*النظرية الوظيفية: تركِّز دعوتها على تحليل الأهداف والوظائف، بحيث يتجه الغرض الأساس صوب تحقيق أهداف معينة.الترجمة، مشروع يبتغي تحقيق أهداف ووظائف في إطار سياق معين ثقافي وتواصلي.
*النظرية التفسيرية: قد تكون نفسها النظرية التأويلية، فقط تختلف مناسبة التَّسمية. يحتفظ المترجِم في خضم بنية هذه المرجعية على هامش من الحرية، بحيث تستوعب أولا البناء اللغوي للنص الأصلي، ثم إعادة صياغتها بعد فهم المعنى واستيعاب المضمون. الترجمة، عملية تواصلية بين المؤلِّف والمتلقي.
*النظرية الدلالية: استفادت دائما نظرية الترجمة من التطورات الكبيرة التي شهدتها اللسانيات والنقد الأدبي، فاهتمت في إطار مقتضيات علم الدلالة بتحليل العلاقة بين الدَّال والمدلول والدليل. يحدث انتقال المعنى باستخدام كلمات تنتمي إلى لغة النصِّ الثاني.
*النظرية التداولية: الاهتمام بالمعطى التداولي، عبر تحليل عمليات الكلام وكيفية القول والمقتضيات والسياقات وخصائص التواصل اللغوي، أي مجمل العلاقات التي يراكمها من يتداولون اللغة.
*النظرية النصية: تجَسِّد الترجمة الجيدة، توازنا بين السياق اللغوي والثقافي للنصِّ، فالأخير أكثر من مجرّد كتلة جمل أو كلمات متجاورة، لكنه يمثِّل امتزاجا يظهر النص مجالا للتفاعل فيما بينها. تعتمد هذه النظرية على علم اللغة النصي، من خلال مناهج تحليل الخطاب.
*النظرية الغائية: تحدِّد الغائية من الترجمة الغرض من النص الهدف.الترجمة مشروع، يقصد تحقيق أهداف معينة تتجاوز مجرد موقف الحياد، بتحويل نصٍّ معين من لغة صوب أخرى.
جملة تأويلات لأفق الترجمة وماهية المترجِمِ، أشرتُ إليها من خلال عناوين عريضة مختزلة ومقتضبة جدا، تعكس اختلاف المنظور بين مدارس الترجمة بخصوص السبيل المثالي الواجب على المترجِمِ الاهتداء إليه قصد إنجاز ترجمة أمينة تستوفي المعنى المطلوب. اتِّجاهات ورؤى قائمة الذات، بحيث ترى اللسانيات الترجمة نتاج محض اشتغال لغوي ولساني، ويربطها أهل الفلسفة بالأفكار والمعاني لأنَّها مسألة فلسفية، وتغدو ظاهرة ثقافية عند أهل الدراسات الثقافية، ويعتبرها المشتغلون بحقل الأدب جزءا من الدراسات الأدبية المقارنة…
الترجمة عملية تفكيك للرموز اللغوية، وأسفار لامتناهية بين اللغات والثقافات والحضارات، وتعميم قيم أخلاقية- إيتيقية تحافظ على هوية الإنسان النقية،بل ونظام اقتصادي-مالي، بحيث تلعب دورا في تنمية الإنتاج القومي للدول، وتطوير الأنماط الاجتماعية والذهنيات، وتكسير الثقافات الأحادية، وتقويض أنساق السلط الشمولية، وتكريس النزعة الإنسانية العميقة عبر تذويب الترجمة لمختلف الحدود والحواجز المادية والمعنوية.
معالم، لا تلامس كنهها دائما، علمية نظريات الترجمة التي تتهيَّب جموح الخيال بكيفية غير مضبوطة، كما الشأن مع البناءات المفهومية، بل تتشكَّل قبل كل شيء، ضمن حصيلة انسياب أدبيات الترجمة وتراكم انطباعات المترجِمِ، التي اختبرها حقا بكل تفاصيلها الحيَّة في إطار ورشاته العملية.
تبلور الانطباعات الذاتية، أرضية لصياغة النظرية وفق إطارها القاعدي المقنَّنِ. ولا شك، بأنَّ أغلب المترجِمين الراسخين قد خلَّفوا أدبيات، يكشفون بين طياتها عن تجاربهم الشخصية حيال ترجمة النصوص بكل دقائق يومياتها السعيدة والحزينة والمحفِّزة والمحبِطة والملهِمة والنمطية، ثم الجوانب التقنية والفنية المرتبطة بتمارين الترجمة؛ أي سياقات فعل الترجمة لحظات اختباره الميداني، نكاية بكل التأسيسات الأكاديمية القائمة، وخلخلة لمرتكزات مختلف مناهج نظرية الترجمة المعاصرة.